في أعقاب زيارة الرئيس الأسبق أنور السادات إلى الكنيست، بدت القاهرة مدينة مفتوحة أمام الصحافيين الإسرائيليين. كانت الزيارة، بأجوائها وتداعياتها، انقلاباً استراتيجياً كاملاً وصفته صحيفة «جيروزاليم بوست» بأهمّ حدث في التاريخ الإسرائيلي بعد تأسيس الدولة. وكانت مؤسسة «الأهرام» أحد أهم المزارات السياسية التي تسابق إليها الصحافيون الإسرائيليون، بالنظر إلى سعة تأثيرها وعمق دورها في عهد جمال عبد الناصر، وأوائل عهد أنور السادات، في صنع القرار السياسي، قبل أن يخفت دورها ويتآكل رصيدها، وقد جرى عليها - بالتزامن - ما جرى للبلد كلّه!تحت ضغط الرأي العام، انكسرت موجات التطبيع عند خطوطها الأولى، وأسبغت الحالة على نفسها ما سُمي بـ«السلام البارد». في خريف عام 2009، عادت قضية التطبيع من جديد إلى واجهة الأحداث بزيارة السفير الإسرائيلي شالوم كوهين إلى «الأهرام». كانت تلك الزيارة، وما تبعها من احتجاجات داخل المؤسّسة العريقة، داعية لفتح ملف محمد حسنين هيكل في الصحافة الإسرائيلية، فهو «الروح الشريرة ضدّنا التي تحوم حتى اليوم في كلّ طابق من طوابق الأهرام الثلاثة عشر» - كما كتبت محرّرة الشؤون العربية في «يديعوت أحرونوت»، سيمدار بيري. في ما كتبته سيمدار بيري، تداخلت المشاعر والأحكام على نحو مُربك، فالروح الشريرة التي تحرّض على إسرائيل هي «رئيس تحرير أسطوري». في الكلام، مغالطات تاريخية وأخلاقية حاولت أن تضفي صفة «الشر» على كلّ من يناهض المشروع الصهيوني، أو يناصر «الضحية الفلسطينية»، التي تُنزع منها أرضها وتُهدم بيوتها، وتُضرب بالقنابل المحرّمة دولياً، على ما حدث أيامها في الحرب على غزّة، وتضفي - في المقابل - صفة «الخير» على من يصافحون الأيدي الملوّثة بدماء الضحايا.
أيّة نظرة إلى ما كتبه هيكل قبل زيارة السادات وبعدها، قبل «حرب أكتوبر» وبعدها، تلمح من دون عناء أنّ قضيّته الأولى هي الأمن القومي. وبتلخيص لجوهر رؤيته، هناك محوران رئيسيان:
أولهما، جنوبي هدفه ضمان سلامة نهر النيل وهو عصب الحياة في مصر.
وثانيهما، شمالي شرقي وبالتخصيص فلسطين، لأنّها الجسر البرّي الذي يصل أفريقيا وآسيا في شبه برزخ بين بحرين، فهذا الجسر البرّي كان طريق مصر باستمرار إلى المشرق حيث تعيش بقية أمّتها العربية، وكان على مر العصور - مدخلها ومخرجها - أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي. «لقد عرضنا قضية فلسطين خطأ على الشعب المصري حين صوّرناها له وكأنّها تضامن مع شعب شقيق، فتلك ليست القضية الحقيقية، وإنّما كانت القضية الحقيقية وصميم الموضوع هو الأمن المصري».
وقد استعادت دراسة إسرائيلية عن ظاهرة هيكل ودوره في الصراع العربي - الإسرائيلي ما توقّعه قبل حرب عام 1967 مباشرة، من أنّ «إسرائيل لا بدّ لها أن تلجأ للسلاح». «إنها فلسفة الأمن القومي الإسرائيلي كلّه... الفلسفة التي ارتكز عليها الوجود الإسرائيلي كلّه منذ نشأ، ويرتكز عليها في المستقبل». لم تكن مصادفة أن يتضمّن التوجيه الاستراتيجي لـ«حرب أكتوبر»، الذي كتبه بنفسه، «كسر نظرية الأمن الإسرائيلي» كهدف رئيسي للعمليات العسكرية التي كانت على وشك أن تبدأ. بحسب الدراسة نفسها، فهو «من بلور الرؤية العربية تجاه إسرائيل وصاغ الخطاب العربي، الذي امتدّ أثره حتى الآن وأكسبه عمقاً ثقافياً ومعرفياً». الدراسة كتبها البروفسير يو حاي بر سيلاع، المتخصّص في الشؤون العربية والأفريقية، ونشرتها دورية «أمجو» البحثية، التي ظهرت في آب/ أغسطس 2003، بعد احتلال العراق. وتولّى ترجمتها الدكتور محمد عبود، أستاذ العبرية في جامعة عين شمس، على صفحات جريدة «العربي»، وقد أُرسلت نسخة مصوّرة من الأصل العبري إلى الأستاذ هيكل.
أيّة نظرة إلى ما كتبه هيكل قبل زيارة السادات وبعدها، قبل «حرب أكتوبر» وبعدها، تلمح من دون عناء أنّ قضيّته الأولى هي الأمن القومي


تبنّت الدراسة الإسرائيلية سؤالاً افتراضياً: «ماذا لو هزمت إسرائيل؟». وأخذت سؤالها من كتاب أميركي نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحافيين من مجلة «نيوزويك» على غداء عمل، هم: ريتشارد تشيزنوف، وإدوارد كلاين، وروبرت ليتل، الذين غطّوا أحداث الحرب من الجانب الإسرائيلي. رغم الطابع التخيّلي لما جاء في الكتاب، الذي صدر في شباط/ فبراير 1969، إلّا أنّه اعتمد بالأساس على أحداث واقعية. وقد كان هدفه المباشر التأثير على صانع القرار الأميركي طلباً لمزيد من الدعم لإسرائيل، رغم كلّ ما حازته من سلاح ومال وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كلّ توقع في حرب 1967.
إسرائيل دائماً مهدّدة، وأميركا دائماً مقصّرة، والعرب ينتظرون الفرصة للانتقام. انطوت تلك الرؤية على نزعتين متناقضتين - إسرائيل مهدّدة وهزيمتها غير ممكنة. «أثبتت حرب أكتوبر، في ما بعد، للجميع أنّه حتى في ظلّ وجود شروط التطوّر المثلى في كفّة الميزان العربية، فإنه ليس بالإمكان هزيمة إسرائيل من جراء الفجوات الفاصلة بين إسرائيل وجيرانها، التي تواصل الاتساع والتضخّم مع مرور السنين». هكذا بالنص نزعت الدراسة الإسرائيلية عن العرب أيّة فرصة لأيّ نصر، لا في الماضي ولا المستقبل، على عكس ما روّج له هيكل من أنّ النصر ممكن. لا يخفي الباحث الأكاديمي الإسرائيلي إعجابه البالغ بقدراته الاستثنائية، فهو «صانع سياسات من طراز خاص» و«رئيس تحرير أسطوري»، وقد «كانت الأهرام تحت قيادته أهم جريدة في العالم العربي والوحيدة التي يتابعها العالم كلّه باهتمام بالغ». كما أنّه «قصة نجاح ماثلة في الأذهان»، و«علاقته مع عبد الناصر تجاوزت بكثير مجرّد صداقة وطيدة بين صحافي وزعيم سياسي»، «ومهارته المهنية الهائلة في فنّ الكتابة الصحافية أكسبته قوة استثنائية لدى الجمهور العربي، فكلّ ما يكتبه، كأنّما قاله عبد الناصر بنفسه».
بحسب ما رصدته الدراسة، وهي تتبع أرشيفه، أنه كتب نهاية آذار/ مارس 1948 مقالاً في مجلّة «آخر ساعة» تضمّن العبارات التالية:
«عندما سافرت إلى فلسطين ظننت، شأن الكثيرين من إخواني العرب، أنني سأجد هناك يهوداً بائسين ظهورهم محنية من فرط الرعب والذعر الشديدين. ظننت أنّهم سيهربون ويفرّون بجلودهم فور أن يبدأ القتال، واكتشفت أنّني كنت مخطئاً. اليهود الذين رأيتهم في ميدان القتال حاربوا حتى آخر قطرة في دمائهم، واستخدموا حيَلاً ذكية ورفضوا الاستسلام، وعلى كلّ الجيوش العربية القادمة إلى فلسطين أن تأخذ في الاعتبار ما كتبت في السطور السابقة. المعركة من أجل تحرير أراضينا المقدّسة لن تكون سهلة...».
كذلك، رصدت مقالاً آخر في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 1967، بعد أشهر قليلة من الهزيمة: «لمزايا الجندي الإسرائيلي قيمة حاسمة يجدر التنبّه لها». «كان من بين الجنود الإسرائيليين أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون استجابوا للتعبئة العامة مترابطون ويعرفون الطريق إلى وحداتهم». «كان الهدف واضحاً في عيون جنود العدو، وهو وجود إسرائيل من عدمه. إننا نواجه عدواً عصرياً متعلّماً، ولا يوجد حلّ آخر أمام الطرف العربي لمواصلة الصراع الشامل سوى أن يصبح هو أيضاً متعلّماً وعصرياً». «العدو الإسرائيلي، على الرغم من قدرته على استغلال ما يُتاح له من إمكانيات، فإنّه لا يلقي الرعب في النفوس وقدراته لا تخرج عن الإطار العادي. وإلحاق الهزيمة الكاملة به أمر ممكن». كانت تلك الكتابات باتّساع نظرتها للحقائق لافتة للباحثين الإسرائيليين.
بمزيج من الإعجاب البالغ والنقد اللاذع، تابع الأكاديمي الإسرائيلي يو حاي بر سيلاع تعقّب سيرة حياته وقصته مع القضية الفلسطينية. «هو الرجل الذي دعا الجمهور العربي عام 1964 إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضيّة مصيرية وفق النقاط التالية:
أ - إسرائيل تمثّل قاعدة عدوانية في خدمة الإمبريالية الغربية.
ب - إسرائيل هي العقبة الكؤود في وجه الوحدة العربية.
ج - لدى إسرائيل مطامع في التوسّع والتمدّد على حساب القوى العربية والإنسان العربي».
وعندما بدأت تخرج إلى العلن، بعد عامين على حرب 1967، دعوات لمفاوضات تسوية للصراع، تقدّمت إسرائيل بمطلبها الذي تصفه دائماً بالطبيعي: «إقرار حدود آمنة ومعترف بها للحيلولة دون تكرار ما تعرّضت له من تهديدات إبان حرب 1967».
نسبت الدراسة إلى هيكل صياغته للموقف المصري على النحو التالي: «الحدود الآمنة والمعترف بها لإسرائيل في رأينا هي كنيس يهودي واحد في تل أبيب وعشرة أمتار من حوله». كشأن الأغلبية الساحقة من الدراسات الإسرائيلية هناك ادعاء لا يوجد نصّ واحد يؤكده، وهو أنّ عبد الناصر دعا إلى إبادة إسرائيل وهيكل مضى خلفه. بعد خمس سنوات على رحيل الأستاذ هيكل، فإنّ أهم ما يتبقى من إرثه، نظرته إلى الأمن القومي.

*كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا