حيث إنّ السياسة ليست مثالاً نبتغيه، إنّما هي حركة فعل في زمان ومكان، وانتقال من واقع قائم بما هو لعطفه والترقّي به، وهي الكيف أي البحث في الوسيلة، وهي الأولويات في ظلّ تزاحم غير مشهود، وهي ليست فعلاً معزولاً، وهي قبل كلّ ذلك قرار ضمني عند الفاعل لإبقاء أيّ وضع على ما هو عليه، أو إصلاحه، أو ربما تغييره جذرياً، وهي في نهاية المطاف تقدير مشتقّ عند كلّ فاعل من رؤيته ونظرته وتقديراته النابعة من مفاهيمه ومبانيه وتصوّراته. إنّ هذه النظرات إلى معنى السياسة تتكثّف وتتزاحم في مقاربة منطقتنا، وبشكل كبير جداً في لبنان، البلد الذي يواجه أزمة نظام، أو ربّما موته، ويعيش نوعاً من عدم تطابق بين المجتمع كأصل والنظام السياسي كتجلٍّ وتعبير، ويُلحظ أنّ مفهوم الدولة القومية لا يزال مفهوماً متنازعاً عليه فكرياً ومنقوصاً عملياً. بلد يعيش تكثّراً في الانتماءات ودرجة هائلة من التدخّل الخارجي الغربي.
(هيثم الموسوي)

وهنا، يزداد أمر السياسة تعقيداً حيث تغيب رؤية موحّدة لما يُصطلح عليه بـ«الأمن القومي» بين الفواعل حول المصالح، وكيفية تحديدها، والتهديدات وكيفية مواجهتها والدور ومحدّداته وأي صناعة مرجوّة له، فلم تغِب إلى الآن مقولات - رغم عقمها وانكفائها - مثل «قوّة لبنان في ضعفه» تماشياً مع نظرية «قوّة الضعف»، فتلبس كلّ يوم لبوساً معيّناً. وهو ما أجهضته التجربة العملية مع تلاقي كتلة راجحة من الشعب اللبناني على أبواب مئويته الأولى، فشقّت على عقدين أو أكثر طريقاً آخر تتقوّى حجّته والحاجة إليه، رغم بعض النقد.
فهل يمكن القول إنّ حزب الله اللبناني يمتاز بمدرسة سياسية فريدة، كما هو حال مدرسته العسكرية، خصوصاً بعد ما شهدته المنطقة، ولبنان، من تحوّلات وأطوار جديدة؟
وحيث إنّ البحث في موضوع كهذا يبدو أمراً معقّداً نسبياً، ويحتاج إلى دراسات وأطاريح علمية، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من طرق بابه والإطلالة عليه، ونحن لا ندّعي أنّا سنجيب عن كلّ ما يخطر ببال سائل أو مراقب لجهة شمول المقاربة، خصوصاً أنّنا سنقارب الموضوع بمنهج الاستنتاج والتأمّل، وقد نوّفق لاحقاً في مقاربته بمنهج الاستقراء العلمي. لكن علّ هذه المحاولة تُشكّل مدخلاً للتوسّع والإحاطة لاحقاً والتعرّف إلى النموذج السياسي لتجربة حزب الله كأحد أبرز الفواعل الإقليميين والمحلّيين اليوم، وإذا ما كان هذا الحزب يمتلك بالفعل فرادة في مدرسته السياسية لا تقلّ تميّزاً عن مدرسته العسكرية الاستراتيجية، فسايرت الأولى الثانية وأحاطت إنجازاتها واتّحدت معها وكانت عينها الثاقبة، وهو ما أؤمن به بقوّة.
لذلك، سنكون أمام مستويات عدّة من النقاش:
- الأوّل، نظري يرتبط بالبحث في معالم النظرية السياسية لحزب الله ومحدّداتها العامّة، لأنّ فهم المنطلقات الفكرية والقيمية والبنائية ينعكس ويحكم فعله الاجتماعي الجهادي - السياسي والعسكري.
- الثاني، نستعرض فيه جانباً من أدائه ببرقيات سريعة وتقييمها بلحاظ آثارها ونواتجها الوطنية.
- الثالث، استشرافي يرتبط بدور حزب الله المتوقّع للمرحلة المقبلة داخلياً، على أثر المسارات والتغيّرات التي بات عليها لبنان والمنطقة والعالم.

في معالم النظرية السياسية
يُفترض لفهم حزب الله في شؤونه وقراراته، معرفة وفهم الهوية الدينية التي ينتمي إليها ويعتقد بها، فهو حزب إسلامي ينتمي إلى مدرسة محدّدة تُعرّف نفسها بمسمّى الإسلام المحمّدي الأصيل، الذي يُعتبر الركيزة الأبرز لفهمه ولتمايز نموذجه الإسلامي. وقد تمّ صكّ المصطلح قبالة الإسلام الأميركي، الذي برز مطلع الربع الأخير من القرن الماضي، والذي يعدّ أكبر تشويه لحقيقة الإسلام وماهيّته، وهو أحد أكبر مظاهر الخطر على الأمّة وأحرار العالم بحسب فهم حزب الله. وبالتالي، فإنّ هذا المبدأ حاكم على عمله أي أنّ هويته لا تتقوّم دونما التمايز والتمييز بين الإسلام الأصيل، وذاك الأميركي حالياً - الغرب سابقاً.
والركيزة الثانية، هي أنّ الإسلام الذي ينتمي إليه حزب الله تقوم نظريّته على السير الفكري والشرعي لتحديد «الباطل» أوّلاً في كلّ زمان ومكان بدقّة ووضوح ومسؤولية! إذ لا يمكن أن تكون هناك قضية مظلوم أو حق، من دون أن تعيق ظالماً وباطلاً. لذلك، بعد تحديد الباطل ونموذجه يجب مجاهدته ومدافعته كأصل ومسؤولية شرعية وأخلاقية وإنسانية ووطنية وفلسفة حياة. وفي تحديده للباطل في هذا الزمان، لم تتغيّر رؤية حزب الله أنّ ظالم هذا الزمان أو باطله وفق القرائن والأدلّة العلمية والعملية والاستقراء الإنساني والتاريخي والاجتماعي والسياسي والمسؤولية الإنسانية والأخروية، متشخّص في الولايات المتّحدة الأميركية كنظام حكم ونموذج، وبالصهيونية كحالة ارتباط عضوي وانسلالي وكمركز وبؤرة تشابك السياسات الاستكبارية لمختلف المؤثّرين العالميين على البنية.
الركيزة الثالثة تنبثق من الركيزتين الأوليين، وتستتبع العمل بمقاربة سياسية واجتماعية تؤمن بأهمية العمل لتأسيس جبهة المستضعفين. إنّ فكرة الإسلام الأميركي تستتبع منهجاً عملياً، قوامه أنّ الباطل المتمثّل في أميركا والصهيونية، هو عبارة عن نقطة ارتكاز لجبهة سياسية وقيمية تقودها الولايات المتّحدة الأميركية اليوم، وبالتالي، فإنّ المواجهة تتطلّب النظرة الشمولية والمتعدّدة الأبعاد والطبقات ربطاً بطبيعة هذا الظالم وخصائصه الفريدة. فالولايات المتحدة هي الوريث لمختلف تجارب الظلم والاستثمار وتجاربه على امتداد قرون، ما يتطلّب دوام السعي لتشكيل جبهة المستضعفين، وبنائها بجدّ وأناة وجلد وتصميم من خلال بناء النموذج والوعي والخطاب.
هل يمكن القول إنّ حزب الله اللبناني يمتاز بمدرسة سياسيّة فريدة، كما هي حال مدرسته العسكريّة؟


بحسب نظريته، فإنّ التصدّي لجبهة الاستكبار هو معبر مساعد لتعارف (أكثر من تعرّف) جبهة المستضعفين والمعذّبين والمقهورين وإدراك كينونتها، وهي عبارة عن أرضية تلاقٍ متينة في سياق بناء الحضارة الإنسانية... فبها يستعيدون ثقتهم بذواتهم ويبدأ المستضعفون التأسيس لهويةٍ من خارج نسق المستكبر وتفضيلاته وتقييداته، وهذا شرط لازم على امتداد الطريق - وهو ما جهد حزب الله لمحاكاته والسعي على ضوئه، وتحديد موقعه في عملية بناء هذه الخريطة وآفاقها.
وبالنظر إلى أنّ حزب الله ينتمي إلى المدرسة الحسنية - الحسينية، فهو يحمل قدرة وخصائص فريدة مستقاة من هذين النموذجين، وإن النهضة الحسينية تتقدّم فيها خاصية الاستجابة لأيّ تحدٍّ بمواجهة الظالم وقضية الأمل مهما تعقدّت الظروف وصعبت، وتوسّع الخيارات مهما زادت الضغوط إلى أكبر مدى وقضية الدم المظلوم الذي يقوى على سيف المستكبر، مهما امتلك من عناصر قوة مادية والإيمان بالناس والمجتمع كون أي تغيير وإصلاح حضاري يحتاج إلى ويرتبط بالمجتمع وليس بمقاربة عسكرية أحادية، مع ما ينبثق عنه - لهذا الفهم - من تجنّبٍ لأيّ مسار يؤدّي إلى تقسيم المجتمع خلال عملية الإصلاح والنهوض. كلّ هذه العناوين والمزايا مستقاة من النهضة الحسينية التي تشكّل منبع فكره الثوري والإصلاحي والنهضوي وضالّته، كونها بالنسبة إليه وفي أدبيّاته «نهضة معصومة»! وبالتالي، ما ألفيناه يُعتبر موجّهاً لتفكيره وسلوكه ومحفّزاً له. لذلك، ستراه يواجه الصعوبات الكبرى بأمل ويهندِس بتصميم للرؤية، دونما انفعال ويصنع المستقبل البعيد بثقة وعزم، ويصبر كون الأهداف التي ينتمي إليها ليست بالضرورة ممّا يلزم تحقّقه في جيل بعينه، إنّما هي مسار قد يتحقّق مع الأجيال الآتية. وهذا يعطيه هامشاً كبيراً من المرونة والمناورة وعدم التعجّل أو الانفعال.
الركيزة الجهادية كمنهج، إذ يعتبر حزب الله في إدراكاته أنّ أيّ عملية تغيير في هذا العالم - الذي يتشابه إلى حدّ كبير جداً في ظروفه وملابساته وتحدّياته مع الظرف الحسيني - لاستنهاض المستضعفين لا تتمّ واقعاً دونما مقاربة جهادية مقاوِمة تعيد بناء الوعي وتأسيسه عند المستضعفين الذين ما زالت شرائح عريضة منهم أسيرة السطوة والهيمنة المباشرة وغير المباشرة للغرب، بقيادة الولايات المتّحدة وربيبتها إسرائيل. فالجهاد والمقاومة كمنهج هو بوابة قسرية للتغيير في العالم، وكلّ المناهج الأخرى رغم أهمّيتها وضرورتها إلّا أنّها تبدو مساعدة برأيه... أمّا حدود هذا الجهاد والمسؤولية حيال المستضعفين، فهو أمر يتوقّف على ربطٍ دقيق بين القدرة من جهة، والحفاظ على تماسك مجتمعات الشعوب المستضعفة ووحدتها من جهة أخرى، وعوامل عديدة لا يتّسع لها البحث. فعملية التحوّل هذه واليقظة المطلوبة من الباب الجهادي، لا يُفترض أن تنحرف أو تصطدم بتماسك المجتمع ووحدته التي هي مبدأ لكلّ مشروع نهضوي وثوري هادف وأساس، أي رؤية إنسانية شاملة، إذ لا يمكن النهوض من حيث التفتيت والفوضى وغياب الأمن وانقسام المجتمع. لذلك، فإنّ النهضة التي يتطلّع إليها يجب أن تُجافي أيّ أمر قد يؤدّي في الناتج النهائي إلى تمزيق المجتمع، لأنّ هذا هو هدف الظالم ومنيته في كلّ حين. ورغم ما يبدو في هذه النقطة من صعوبة، إلّا أنّ بعض خصائص حزب الله تبدو مساعدة، فهو لا يرتجي من عمله نتيجة مادية ولا انتصارات مرتبطة بمكسب هنا أو سلطان هناك. فالذي يتطلّع إلى غاية الاستنهاض يختلف عمّن يتطلّع إلى حجز موقع سياسي مباشر في بنية سياسية أو نظام. وكأنّ حزب الله، من خلال ذلك، يعيد تعريف الدور من النشاط والعمل السياسي وفهمه من خارج سلّة المفاهيم والمباني القائمة، ويظنّ أنّ هذا الفهم جزء لا يتجزّأ من عملية إحداث اليقظة والتحوّل.
لكنّ واقع وجود الكيان الصهيوني، بما يعبّر عنه ويمثّله ويرمز إليه كربيب لاستكبار الحكومات الغربية، يمكن اعتباره أهمّ فرصة ومسؤولية تاريخية يرى حزب الله إمكانية مساهمة فعلية للاضطلاع بها والنهوض إزاءها. فعند هذا الكيان تتلاقى مصالح ثلاث: حفظ الوطن لبنان، وتعزّز شرعيته وخصائص تنوّعه وسيادته ومساندة الأمة وشعوبها ونصرة المستضعفين والمضطهدين وجبهتهم في العالم. لذلك بقدر ما يرى البعض أنّ جغرافيا لبنان هي لعنة في ظل الاشتباك الدولي والإقليمي القائم على دوره وموقعه، فإنّ حزب الله يراه هدية وفرصة تاريخية لصناعة النموذج من مدخل مقارعة الكيان الصهيوني والانتصار عليه بما تعنيه هذه الكلمة من أبعاد، وتؤشّر لها من دلالات حضارية وفكرية وتحرّرية.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف يمكن تأمين استمرار الفعل «الجهادي» المقاوم عملياً، وليس تنظيرياً وإرادَوياً؟ تأتي الإجابة الفورية، وبحسب القرائن والتتبّع، من عقلية المستكبر وسلوكه، إذ أنّ المستكبر بعقله القلق والمتوجّس من المستضعف الواعي الثائر دائماً يترك للمستضعف الذريعة العملية قائمة. فإذا كانت مبرّرات وشرعية فعل المستضعف لا ترتبط بالذريعة، إنّما هي أعمق وأبعد كما هو متفّق في كلّ الشرائع والمواثيق، لكنّ اللافت أنّ المستكبر دائماً ما يوّفر بقلقه وضعف مشروعيّته الذريعة.
كذلك، هو يؤمن أنّ الصدق منجاة في كلّ شيء، لا سيّما في الأداء السياسي الذي هو أرفع الأعمال وأعظمها، وتقوم فلسفة عمله السياسي على أنّ من تعدّى الحق ضاق مذهبه. لذلك، رغم أنّ فكرة تلازم السياسة مع الصدق لا تزال أحجية لا يقبل بها الكثيرون، إذ يصرّون على أنّ السياسة لا يمكن أن تُبنى إلّا على المراوغة والاحتيال، نرى حزب الله يصرّ على هذا المعنى ويعتقد به. وربّما هذه نقطة قوّة غير منظورة عند حزب الله، أي الصدق في مقولته السياسية والتزام ما يعلن عنه حتّى لو طال الوقت في تحقيقه وصعبت الشقّة لبلوغه. وتأتي قوّة ذلك من كون غالبية خصومه وأعدائه يفترضون أنّه لا يقول الحقيقة، انطلاقاً من بنيتهم المعرفية والقيمية وفهمهم للسياسة، فالذات هنا ليست منفصلة عن الموضوع.

في الرؤية للبنان وتقييم سياساته:
لبنان ليس بلداً عادياً أو أرض عبور أو مستودعاً في إدراك ووعي حزب الله وبيئته، إنّما هو بلد ووطن استقرّ فيه الآباء والأجداد وقدّموا فيه، وعلى ترابه، الغالي النفيس في مواجهة المستعمرين، وترعرعت فيه أحلامهم وأمانيهم بعد تاريخ طويل من الاضطهاد والتهميش والاختزال. هو منطلق انتصارات وعنوان «يقظة» عميقة ومحطّ تلبية نداء الشهداء من أعماق التاريخ، يتطلّعون من خلاله إلى إسهام إنساني عابر حرصوا على بناء أركانه ونموذجه بعزيمة وحكمة وأناة وصبر. هو الوطن الممتلئ بعناصر قوّة هائلة من وجهة نظرهم رغم التصدّعات التي تعتريه والأزمات المتناسلة التي تعترضه، وهو الوطن الأقدر في الواقع العربي على تقديم نموذج إنساني وقيميّ خاص بعيداً عن حالات الاستلاب والتقليد الأعمى في قبالة غالبية ساحقة من نماذج عربية، لا يختلف رأيان أنّها أرجعت الأمّة خطوة إلى الخلف بدل أن تتقدّم بها خطوات إلى الأمام.
ليس لبنان تفصيلاً كما يحاول البعض أن يتقوّل على حزب الله، خصوصاً إذا علمنا أنّه الأرضية والركيزة الوحيدة التي لا غنى عنها التي ينطلق منها لبناء تجربة ونموذج يقدّمه، فضلاً عن كونه الأرض التي لا بديل له عنها ولا محيص في عالم اليوم، مهما بلغت التحدّيات وكانت الصعوبات. هو ينطلق من كونه نجح بالمراكمة على ما أسّسه السيد موسى الصدر وغيره من علماء لبنان، بأن يأخذ الطائفة إلى القضية فأصبح الشيعة ركيزة المقاومة حمّالة رايتها والمتماهين معها. وهذا تحوّل كبير ونوعي ونموذج يُحتذى لمن أراد، حيث تخرج الطائفة من انغلاقها إلى القضية أي إلى الأرحب!
بالنسبة إليه، إنّ المنطقة والعالم دخلا مرحلة جديدة، أصبح فيها للمنطق الآخر - غير الغربي - مكانه وخطابه، والذي كان لتجربة المقاومة إسهامها العميق في صنعه وتعزيزه، وهو ما يُفترض استمرار السير عليه إلى حين التحرّر الكامل لهذه المنطقة من مثالب النظام العالمي الذي فرضه الغرب والشرق ذات يوم على الشعوب رعاية لمصالحهما وتقاسم نفوذهما. وقد كان للبنان الوطن دور مركزي في إحداث هذا التحوّل والتغيير في توازنات القوّة في المنطقة، منذ اللحظة التي برز فيها إدراك مختلف لحقيقة وقوّة وإمكانيات هذا الوطن ودوره عند قسم راجح من أبنائه.

يُفترض لفهم حزب الله في شؤونه وقراراته معرفة وفهم الهويّة الدينيّة التي ينتمي إليها ويعتقد بها


وإذا كان لا يغيب عنه أنّ المشكلة اللبنانية بدأت مع السيادة المنقوصة التي تأسّس عليها لبنان الكبير كحصة تقاسمتها القوى الكبرى بين سايكس وبيكو، واستمرار عملية انتداب معلنة ومبطّنة عاشها لبنان حتّى لحظة خروج سوريا منه، بتواطؤ دولي، فارتضته غالبية أهل السياسة معبراً للقوى الدولية ومطرحاً لطموحاتها على السواء يؤدّي دوراً وظيفياً فيكون للكل سهم فيه، فتعمّقت فيه هواجس شتّى وتمّ استغلالها فاستحالت في مرحلة من عمره إلى حالة أشبه ما تكون إلى نوع من «الهروب والنزوع لنكران الذات»، بدل أن يُصار لمواجهتها بجرأة ووضع مسارات بثبات. ونتج عن ذلك أنّ كلّ المقاربات التي عاشت عقلية الاختزال وما عُرف بزمن الطائفة الفلانية والطائفة المهيمنة قد فشلت، وأنّ لحظة الطائف التي من المفترض أنّها جاءت لتؤسّس لمرحلة جديدة فإذا بها عمّقت الهواجس وزادت درجة الاضطراب الاجتماعي والشقّة وأصبحت تسوية يتم العمل بها بانتقائية واستنسابية تقاسماً لمصالح محلّية وإقليمية وبغطاء مصالح دولي ظرفي لا يهتمّ بالمجتمعات.
ورغم أهمية استقراء التاريخ الحديث والقريب، وما قاساه حزب الله وبيئته منه، إلّا أنّه لا يرغب في أن يستغرق في سلبياته بقدر ما يرغب في فهمها والاعتبار منها من أجل العمل على تكييف ما يمكن منها مع التحوّلات لتقويمها وإيجاد صيغة أكثر قدرة على التماشي والتكيّف مع تحدّيات الزمان وخصائصه وقابلية لاحترام هذا الإنسان «الفرد» المتمّيز. بالنسبة إلى حزب الله، فإنّ المطلوب لذلك دائماً هو «الإصلاح وليس الهدم»، وتبديد الهواجس لا صناعتها فكلٌّ من المكوّنات اللبنانية له خاصية وقيمة يمكن أن يضفيها على هذا الاجتماع إذا نظر بعين تنطلق من لبنان نحو الأفق لا العكس.
هذه بعض الخطوط العامة في نظرة حزب الله كما بيّن في وثيقته السياسية الأخيرة لعام 2009، والتي تحتاج إلى بعض التطوير والتفصيل ربطاً بالتحوّلات الكبرى والمستجدّات. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو «إذا كان لحزب الله هذه الرؤية الواضحة للساحة اللبنانية، فلماذا لم يعاجل للانخراط في الساحة الداخلية وطرح رؤيته والاجتهاد لتحقيقها، خلال الفترة الماضية، بما يتناسب مع قوّة تأثيره الإقليمية؟». وهل سيُبقي على هذه المقاربة أم أنّ هناك تعديلاً أو تطويراً مرتقباً في إدراكاته ونظرته، وصولاً إلى ممارسته ربطاً بالمستجدّات والتحدّيات والتحوّلات التي برزت.
ربّما تأخّر انخراط حزب الله «العميق» داخلياً في الساحة اللبنانية بمختلف أبعادها، بمجموعة عوامل وظروف وتصوّرات تبنّاها. كان أوّلها أخذه بأولوية التركيز وعدم التشتّت في المطالب، لا سيّما الاستراتيجية في ظلّ عدد لا متناهٍ من التحدّيات الخارجية والداخلية المتداخلة والمتوائمة، والقاعدة الذهبية تقول «من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل».
وفقاً لنظرة معينة آثر حزب الله عدم الانخراط في الواقع اللبناني - ما بعد الطائف - إذ أنّ انخراطه حينها كان سيعني تشويهاً لنقاء المقاومة - في زواريب السلطة والمحسوبيات وتقاسمات الحصص - وغايتها وصفاء منطلقاتها وتشويشاً للمقاومين والمؤيّدين فاحتاج إلى تمايز واضح عن السلطة كمفهوم ملتبس وتجربة مستلبة حينها، وهذا كان أمراً ضرورياً، وربّما أراد أن يربأ بنفسه أن يكون في موقع المنافس للقيمين التقليديين على الواقع اللبناني من قوى إقليمية ودولية وبالتالي النظر إليه بموقع المُقاسم أو المقتسم للغنائم وهذا سيولّد سلبيات كبيرة وخطيرة ناهيك عمّا يمكن أن يؤدّي إليه من تنافسات حادّة في بيئة لبنانية حزبية وطوائفية خارجة للتوّ من الحرب الأهلية وتعتليها الهواجس والمخاوف فيما العدو والتركيز على مواجهته يجب أن يبقى القضية والعنوان الأوّلي بل والوحيد، لا بل ذهب حزب الله أبعد من ذلك فتجنّب الداخل خشية أن تتأثّر حريّة قراره المقاوم بإحراجات أو مساومات الداخل حينها ما حتّم عليه الابتعاد عن أي شيء من اهتمامات الآخرين ومحلّ منافستهم، بل وتصبّر على الأذى الذي لم يفارقه لا سيّما في المنعطفات كالحال الذي شهده الإقليم عندما تحضّرت المنطقة لمشروع السلام ومقدماته لتطويع قوى المقاومة بأدوات داخلية! وقرارات خارجية.
ناهيك عن ذلك كلّه، فإنّ المصلحة كانت تقتضي أن يصفّر العداوات إلّا مع الكيان الصهيوني وراعيته الولايات المتّحدة، ويخفّف من الهواجس بل ويطمئن ما أمكن، خصوصاً أنّه مولود وفق تجربة إسلامية جديدة وخاصة، وبالتالي كان واضحاً له ما قد تثيره تجربته من مخاوف عند دول وقوى عديدة في عالمنا العربي والإسلامي، وآخرين مثلهم في الداخل خصوصاً إذا ما قورنت حركته بتعجّل بنماذج لحركات سابقة.
لم تفتأ مقاربة حزب الله تصرّ على أنّ الصراع مع إسرائيل وأولويته قد تُساعد داخلياً على الجمع وإيجاد مشتركات، فإشكالية لبنان كانت في النفوس قبل النصوص. بالنسبة إليه، إنّ مشروعية هذا الصراع عابرة وماهيّته وطنية وإنسانية وتحوي في ما تحوي تراكماً لذاكرة حيّة في الأمّة بمواجهة هذا العدو، وإنّ الحق الفلسطيني وما يرتبط به من قضية لاجئين ورفض التوطين وغيرها من القضايا التي كانت في صلب مشكلة المسألة اللبنانية تاريخياً، هي أكبر قضية لإيجاد مشتركات وتوحيد الجهود وتخفيف التناقضات التي كانت تعتري بيئة لبنان الداخلية.
هذا فضلاً عن أنّ هذا الصراع هو قيمي وسياسي وفكري وليس عسكرياً فحسب، وبالتالي إنّ السير فيه سيحفّز الوعي الإنساني واللبناني والإسلامي، وتكون نواتجه عميمة على الجميع حتّى لو كان هناك بعض التكلفة التي لا يُرى بدّاً من تحملها في بيئة المقاومة الحاضرة لذلك طوعاً بغالبيتها الساحقة.
فبداية الطريق تحتّم مواجهة العدو المتربّص والطامع والمحتل والمنتهك. أولى النتائج المترتبة هي أنّ تحقيق التحرير الخارجي سيساعد عى السير بالتحرير الداخلي، فضلاً عن دوره في تحرير النفوس وإيجاد الاستعداد لذلك واكتشاف مكامن القوة الكامنة.
وليس آخراً أنّ لبنان ما بعد الطائف، شكّل عملياً تقاطعاً ظرفياً ومصلحياً للأميركي - السعودي مع السوري، وما يمكن استغلاله على هذا الصعيد من تناقضات لعبة الأمم ومصالحها التي تتيح في مكان ما فرصة جدّية لتقوية مسار المقاومة الوطنية الأهداف واللبنانية الانتماء وتطوير الثقة بها، في مقابل لعبة الانغماس الخطيرة في مصالح موزّعة بين القوى الراعية والداخلية عبر علاقة تخادم معقّدة بين الداخل والخارج.
ويبقى السؤال: هل لعبة التواطؤ المرعبة بين قوى الداخل ورعاتها الخارجيين كانت تخطّط لإضعاف لبنان وصولاً إلى انهياره؟ أم أنّ السياسات الآنية والظرفية والمصلحية للأطراف أوصلت الأمور إلى هنا - هذا يحتاج إلى بحث آخر - وربّما تداخل الأمران ربطاً بالفترات والجهات والتحديات التي مرّ بها البلد.
- وآخر الأسباب أنّ حزب الله في مدرسته الجهادية المقاوِمة لا يحب، أو لنقل لا يرغب، في الانخراط في لعبة السلطة، خصوصاً إذا ارتبطت بالفساد في طول تجاربها المعاشة. وأيضاً هو يتوقّف ملياً عند مفهوم الدولة كتعبير عن السكون statue بمعنى الفهم السالب للسيادة والانطوائي الذي أنتجه العقل الغربي كحلّ لمشكلته في وستفاليا - والتي ليست بالضرورة هي مشكلتنا - وعكسته على العالم خصوصاً أنّ الكثير من حركات المقاومة وقعت في هذا الفخّ واستسهلت الانغماس في نموذج الدولة بمنظورها السالب وليس التفاعلي الموجب، فكان بها أن تبدّلت هويّتها بعد حين وتبدّدت شعاراتها الأولى ورؤاها التحريرية، بينما هو يرى أنّ الأمّة تنتظر في لحظة حرجة من تاريخها لمن يحرّك ويؤجّج النفس الثوري الصادق والشفّاف ويُلهم الناس ويوقظ الوعي من دون أن يؤثّر سلباً على مبدأ التماسك الاجتماعي والمجتمعي كما نوّهنا.
هذا ما كانت عليه إدراكات ومشخّصات حزب الله حيال الداخل، إلى حين اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وصدور القرار 1559، وخروج سوريا من لبنان، وحرب تموز 2006، والذي اعتُبرت في فهم حزب الله إيذاناً لمرحلة دولية جديدة حيال المنطقة، لا سيّما أنّه ارتبط بما بعد غزو العراق عام 2003. فسوريا دخلت لبنان بقرار دولي، وأدارته في لحظة دولية أميركية صرفة، وارتبط خروجها من لبنان بتوجّه دوليّ ومقاربة جديدة واستراتيجية بدأت فصولها تتبدّى وملامحها تتكشّف. ما يفرض الاستعداد لعواصف مدمّرة وشديدة وتوقّيها ومعرفة الإفادة ما أمكن من مكامن ضعفها وتناقضاتها وثغراتها!
صحيح أنّها انفتحت للمرة الأولى أمام حزب الله، إمكانية المشاركة الفعلية والمباشرة في السلطة التنفيذية، لكنّ ظروف هذه المشاركة كانت محكومة بالنسبة إليه برؤية الإقليم وشرارات تفجّره، لا سيّما الطائفية، على أثر غزو العراق وهواجس ومخاوف انفلات الوضع الداخلي على امتداد الإقليم، وفي لبنان غير المحصّن أصلاً.
أطلّت الفتنة برأسها مع اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتحويل الاتهام بالتدرّج نحو حزب الله، والذي فسّره الحزب في نتائجه المنظورة، بأنّه محاولة التفاف أميركية على إنجاز التحرير وتغيّر بيئة الإقليم لصالح خطاب المقاومة ومنطقها، ما حتّم تقديم أولوية حفظ البلد والمقاومة والبحث في ما يعزّز التماسك الداخلي على أيّ اعتبار آخر، لا سيّما أنّ أيّة مطالب داخلية مهما كانت صحية ومحقّة كان يسهل إلباسها لبوساً طائفياً في لحظة غليان كبرى وإرهاصات زلزال طائفي كبير. وتزداد حساسية المسألة بالنسبة إلى حزب الله وهواجسه كونه كان قد دخل لأوّل مرة بالأمّة انتصارات حوّلت الوعي العربي وغيّرت في معادلات الردع بمواجهة أميركا وإسرائيل بآثارها الكبرى، عبر محطّات 2000 و2001 و2005 و2006 في لبنان وفلسطين، فهاجس حماية هذا المكتسب كان الأولوية التي تعلو أيّ أمر آخر.

* باحث لبناني