نشرت جريدة «الأخبار»، في العدد ٢٢١٤، ٤ شباط ٢٠١٤، مقالاً بعنوان «كمال الصليبي مؤرّخاً... لا مفكّراً» بقلم الكاتب كمال ديب الذي حاول من خلال مقالته أن ينتقد الأستاذ الدكتور كمال سليمان الصليبي، المؤرّخ المعروف، وينفي عنه صفة المفكّر، التي يبدو أنه كان يتوقعها كأحد المنبهرين بجيل أولئك الكبار، محاولاً في الوقت نفسه أن يجعله مؤرّخًاً فحسب كما يظهر من عنوان المقال. ولكنّني، في الحقيقة، عندما قرأت المقال، وجدته يشرِّع الأبواب أمام بعض التمارين في التقاذف الفكريّ خصوصاً أنّ أوّل ما لفت انتباهي هو الفرق الواضح بين عنوان المقال ومضمونه، فكتبت ما يلي وليس في نيّتي أو استطاعتي أن أدّعي شرف الدفاع عن الأستاذ الصليبي أو الرّد على الأستاذ ديب صاحب المقال.
كان الصليبي أكاديمياً بامتياز وكان يفصل بين العلم والشأن العام، ولطالما أزعجه أولئك الذين يمزجون بين الاثنين، وهم غالباً ما يفعلون ذلك بحثاً عن شرعيّة لم يكن يوماً بحاجة إليها! ليس هناك أيّ ظلّ من الشكّ أنّ كمال الصليبي معلم وباحث ومؤرّخ من الطراز الأوّل، لم يدّع يوماً أنّه مفكر أو «يعتاش من التفكير»، وهو أمر كان يضحكه كثيراً. ولا يجوز أن يُشمل الصليبي مع غيره من مؤرّخي عصره، أو حتّى معلّميه، وكأنّهم جميعاً أبناء مدرسة فكريّة واحدة. وهذه الرؤية الشموليّة لجيل من الباحثين، أو سمّهم كما شئت، هي في الحقيقة الرؤية التي تستحقّ التفكيك فعلاً حتّى «نضع حداً للانبهار بالجيل السابق» (ككتلة واحدة).
وحتّى إن غضضنا النظر عن كونه ادّعى أم لم يدع مهنة المفكّر، فإنّ التحقيق في هذه المسألة لا يزال مشروعاً مع رجل بقامة الصليبي. علماً أنّ إثبات صفة المفكّر لا يزيده فخراً كما أنّ نفيها عنه لا يعيبه.
يقول الأستاذ ديب في نقده لأستاذنا الصليبي:
«وسيدرك القارئ عمق صدمتي عندما اكتشفت أنّ الصليبي كان مؤرخاً وحسب، ولم يكن مفكّراً. وهذه مشكلة، لأنّ واجب المؤرخ بنظري يتضمّن الاطلاع على تاريخ الفكر ولو من فوق السطوح، وأن تكون له مواقف متقدمة حول قضايا عصره ومجتمعه، وأن يتهيّب أمام ما لا يعلمه، ولا يفصح بتهور، كما أننا في عام 2014 نناضل من أجل أن يبقى مشروع النهضة التنويرية والحداثوية حياً، لذا علينا أن نضع حدّاً للانبهار بالجيل السابق، ونفكّك ما سبق أن ردّدناه عن مؤرخينا دون وعي».
إن الافكار الواردة في هذه الفقرة هي الأفكار الرئيسية التي أدّت بكاتبها إلى صدمة عميقة بعدما قام بإنزال تلك «المسلّمات التنويريّة» على إجابات الصليبي في كتاب لا يعدو أن يكون مقابلة مطوّلة! واستنتج، بخلاف عنوان المقال، أنّ الصليبي كان مؤرخاً بدائيّاً لا يفقه في فلسفة التاريخ والمناهج التأريخيّة شيئاً.
والأفكار التي أودّ مناقشتها هي التالية:
1- الصليبي كان مؤرخاً وحسب.
2- لم يكن الصليبي مفكراً، لأن واجب المؤرخ الاطلاع على تاريخ الفكر ولو من فوق السطوح.
3- واجب المؤرخ ان تكون له مواقف متقدمة حول قضايا عصره ومجتمعه.
4- واجب المؤرخ أن يتهيب أمام ما لا يعلمه ولا يفصح بتهور.
5- وأخيراً: كما أننا في عام 2014 نناضل من أجل أن يبقى مشروع النهضة التنويرية والحداثوية حياً!
واذا أردنا ان نطبّق ما ينصح به كاتب المقالة من اتّباعٍ للمنهج التفكيكيّ فإنّنا نجد ما يلي:
من الواضح أنّ الكاتب لا يؤمن بما يدّعيه هو نفسه في النقطة الأولى من أنّ الصليبي كان مؤرخًا وحسب، ففي الحقيقة أن الصليبي، في نظر الكاتب، لا يعدو أن يكون متقنًا للّغة الإنكليزيّة كما نوّه في بداية مقالته. فإذا نظرنا إلى النقطة الثانية أعلاه، نجد أنّ الصليبي لم يكن مفكراً لأنّه – كمؤرخ - لم يطّلع على تاريخ الفكر ولا حتى «من فوق السطوح» وأنا كقارئ عاديّ لهذه السطور، لم أستطع ان أفهمها. ولكنّها على الأقلّ طعن واضح وصريح في معرفة الصليبي «السطحيّة» بتاريخ الفكر. ومن يستطيع أن يردّ تهمة كهذه إن لم تستطع كتابات الصليبي ومؤلفاته أن تفعل؟! تلك المؤلفات التي كانت وما زالت تدرّس في كبرى جامعات العالم ولا سيما الغرب الذي يعتبره الكاتب مرجعه ومقياسه في مشروعه التحديثي.
وأود هنا أن أشير إلى النقطة الرابعة قبل غيرها، وهي النقطة التي قضى عليها الكاتب بنفسه عندما اقتبس إجابة الصليبي التالية: «أنا لا أعرف الجواب تماماً، لكنني أقول لك إنّه سؤال محق. ولا أدري ما الجواب تماماً». لم يورد كاتب المقالة هذا الاقتباس ليتناقض مع نفسه بالطبع وإنّما أورده في محاولة لإظهار الصليبي بمظهر الجاهل، ويبدو أنّه فاته ما لا يتسع المقام لشرحه من أهميّة قول «لا أعلم» حين لا تعلم، وهو الخُلُق الذي كان قد فرضه بنفسه على المؤرّخ الذي يستحقّ، في نظره، أن يكون مؤرّخاً!
وبالرجوع الى النقطتين الثالثة والخامسة وهما في الحقيقة متجانستان إلاّ في قضية تحديد العام 2014 في النقطة الاخيرة، فإنّ هذا التحديد الزمنيّ الدقيق للنضال التنويريّ لم يزل مستعصياً على مداركي المتواضعة، وما زلت أتساءل: ماذا يريد الكاتب بمثل هذا مثلاً؟!
يريد الكاتب بكل وضوح أنّ يحدّد انتماء الصليبي الفكريّ إلى الرجعيّة والتخلّف العربيّين المتمّثلين بالتيّار المحافظ وحكّام الدول العربيّة، نافياً بذلك انتماء الصليبي إلى التيّار الحداثيّ الذي يعتبره الكاتب تيّار المفكّرين والمثقّفين الذين يناضلون من أجل الحداثة والتنوير، وهو التيار المنقذ من الضلال الذي هو ضلال الاسلام والتراث والتقليد. وقد استشهد على ذلك بأدلّة ساقها من مقابلة للصليبي حيث كان الأخير يتحدّث، كعادته في لقاءاته، بصراحة منقطعة النظير وعفويّة تامّة لا تخلو من عمق في المعنى وايجاز في التعبير. ولكنّ الضارب بعرض الحائط جميع الكتب والمؤلفات، التي على كثرتها لم يُذكر منها أي اقتباس، لن يرى بالطبع ذلك العمق الذي يبدو أنّه يتحاشاه عن عمد لإثبات ما يدّعيه.
وهنا لا بدّ من معالجة الصوادم التي مُنيَ بها ناقدنا والتي تدلّ بشكل سافر، في رأيه، على سطحيّة الصليبي وضحالة علمه بقضايا الحداثة والتنوير العربيّين. فمن هذه الصوادم مثلاً أنّ الصليبي يقول: «إنّ طراز الغرب ليس بالضرورة نمطاً يحتذى به للتطوّر ولطريقة الحكم وللاصلاح الديني» ثمّ يستطرد الصليبي كعادته أثناء الدردشة ويقدّم أمثلة بسيطة من واقع الحياة.
يريد الكاتب أنّ يحدّد
انتماء الصليبي
الفكريّ إلى الرجعيّة والتخلّف العربيّين

وهذا لا يسمح بإغفال العبارة الأولى التي كُتبت فيها رسائلُ وأطروحات ودراسات مطوّلة في تاريخ الفكر وغيره من المجالات العلميّة، هذه العبارة في رأي صاحب المقال تبريريّة «لا تعكس هوى من يقرأ التاريخ»! ألم يطّلع ناقدنا بعد على نظريات فلاسفة الحداثة وما بعدها في نقد الغرب وأنظمته الفكريّة؟ ألم يسمع بالمدرسة الرومانسية أو الرومنطيقية في ألمانيا؟ ألم يقرأ على الأقل كتاب ادوارد سعيد الأشهر «الاستشراق» وهو من أبجديات العلاقة بين الشرق والغرب؟ ولا يفوتنا أن ننوّه بأنّ ادوارد سعيد يعدّ من أعمدة الفكر التنويريّ الذي يدافع عنه الكاتب وإنْ كان دوره مرجعياً فقط. أم أنّه ما زال واقفاً عند فكرة القطيعة مع التراث والدين كالطريق الأوحد للتقدّم والتحرّر على غرار التجربة الأوروبية مع الكنيسة والتي أثبتت فشلها منذ عقود في السياق العربيّ الإسلاميّ؟ ويظهر هذا الموقف جلياً عندما يذكر الكاتب فجأة عمل أدونيس «الثابت والمتحول» حاشراً إيّاه بالقوّة بين قوسين، وكذلك عندما أورد الأسئلة المتعلّقة بموضوع القطيعة مع التراث والإسلام مظهراً بذلك ايمانه الراسخ بأنّه لا أمل في أيّ تقدّم ما لم تحصل هذه القطيعة. وبما انّ الصليبي يخالفه الرأي ويرى أنّه لا انفصام بيننا وبين تراثنا، ولكنّه من الضروريّ ألا نقف على أطلال ذلك التراث وإنّما نتقدّم من خلاله وبه (وهذا ما يظهر بشكل مميّز من خلال كتاباته وخصوصًا الكتاب الأكثر من رائع «بيت بمنازل كثيرة»)، شعر الكاتب بضرورة كتابة مقالة تنفي عن الصليبي صفة «المفكّر». ولكن أليس الاختلاف في الرأي وسيلة من وسائل التقدّم؟!
ولن أسمح لنفسي الخوض في الكثير من المسائل التي ذكرت في المقالة «النقديّة التفكيكيّة» خصوصاً ما رمى الكاتب به أستاذنا الأجل من جهل بالتراث الأوروبيّ وخصوصاً كتاب مكيافيللي الذي على ما يبدو يلقى عند ناقدنا كثيراً من الاستحسان والقبول، وهذا هو العجب العجاب! ولكنّني سأختم برأي الصليبي في موضوع المرأة والذي كان على ما يبدو من أشدّ الصوادم على الكاتب! فقد قال الأستاذ الصليبي: «المرأة انسان كأيّ انسان آخر». والله إنني أكاد لا أجد شيئاً يقال في موضوع المرأة بعد هذا! وهل هناك أعمق وأشفى من جواب كهذا؟ إنّ الصليبي يرفض أن يميّز المرأة عن الرجل من البداية وليس هناك ما يدعو لاعتبارها مخلوقاً آخر ومختلفاً لنقيّد لها حقلاً دراسياً خاصّاً، واكتفى بما قاله غير راضٍ عن كلّ النفاق الواضح الذي يتبجّح به كثير من حملة قضايا الحقوق، وليس لأنّه كما ادّعى الكاتب لا يأبه بمشاكل المرأة العربيّة ويفضّل السكوت عنها تماشياً مع ما يناسب أنظمة الحكم العربيّة المحافظة التي قام بعضها بمنع بعض كتبه من الدخول الى أراضيها!
«هذا مجد زائل» لطالما ردّدها على أسماعنا كلّما اقترحنا عليه تكريماً أو ظهوراً إعلامياً أو حتّى مقابلة... لم يكن أستاذنا الأكبر من أولئك الذين يتشدّقون بالكلام ليظهروا بمظهر المثقّفين كما يفعل «الرويبضة» الذي أخبر عنه نبيّ الإسلام. ولا شكّ أنّ الصليبي لا يحتاج إلى من يدافع عنه أو يذود عن حياضه لاسيّما في مسألة الألقاب التي لم تك تعني له شيئاً، وهو «الأكبر من ألقابه»، كما قُدّم يوماً في جامعة الروح القدس وكنت من بين الحاضرين.
* أستاذ في جامعة جورجتاون ــ قطر