السياسة الصحية هي مجموع الخطط والإجراءات التي يتمّ القيام بها لتحقيق رعاية صحية محدّدة الأهداف داخل المجتمع. بحسب منظمة الصحة العالمية، الهدف من السياسات الصحية على مستوى العالم أو السياسات الصحية الوطنية هو إتاحة الفرصة أمام جميع المواطنين وفي كلّ المناطق، للحصول على رعاية صحّية عالية الجودة تُطيل أعمارهم وتمتّعهم بصحة أفضل نتيجة لذلك.في السياسات الصحية على مستوى العالم تجب مراعاة مبدأين:
- الأول: أفضل الخدمات بأقلّ الأسعار
- الثاني: لا مساومة على نوعية الخدمات الصحية
أمّا الحق في التمتّع بأفضل رعاية صحية فهو من الحقوق المنصوص عنها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الفقرة 1 من المادة 15). وجاء في العهد الدولي لحقوق الإنسان، المادة 12 الفقرتان 1 و2: يحقّ لكلّ إنسان التمتّع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه. وكذلك، نصّت كلّ من الاتفاقية الدولية للقضاء على كلّ أشكال التمييز العنصري لعام 1964، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة لعام 1979، في المادتين 11و12 واتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 المادة 24.
ومن المفارقة هنا، أنّ لبنان من الدول الموقّعة على معظم هذه الاتفاقيات، فهل طبّقها ولماذا؟
من المتعارف عليه أن يرتبط النظام الصحّي في بلد ما ارتباطاً وثيقاً بالنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي السائد في المجتمع والدولة، وهو يعتبر انعكاساً للخلفية الفكرية والأيديولوجية للقابضين على السلطة في مجتمع معيّن.
ميزة النظام الصحّي في لبنان فشله في تأمين العدالة في مجال الرعاية الصحية وإذا أردنا إعطاءه صفة فهو الفشل المتكرّر والنهب المتواصل، فالنظام اللبناني ليبرالي في الاقتصاد وجائح نحو التوحّش في التعاطي مع الفئات الأضعف اقتصادياً ومالياً ويصبو دائماً إلى تحميلهم عبء أخطاء سياساته، والدولة اللبنانية تنظر إلى قطاعات الصحّة والثقافة والخدمات الاجتماعية كعبءٍ على المالية العامة، وهي باب للاسترزاق السياسي والمالي.
المشكلة الأولى التي يواجهها النظام الصحّي اللبناني تكمن في الخلفية الفكرية والإيديولوجية لإدارة وتخطيط القطاع - نحن بحاجة إلى تغيير في جوهر السياسة الصحية بحيث:
1-  تكون الدولة عبر مؤسّساتها هي المخطّط والمنفّذ وهي التي تضع التقييم لسدّ الثغرات وإصلاح المشاكل التي تطرأ على النظام الصحّي، مع الأخذ في الاعتبار كل ما هو جديد على صعيد العلوم الطبية والإدارية، وكذلك حركة المجتمع.
2-  يكون الهدف من السياسات الصحية وآليات تطبيقها هو تقديم أفضل رعاية بأرخص الأسعار لجميع المواطنين وبكل المناطق، وليس إيجاد آليات تطبيقية تهدف إلى تحقيق المزيد من الأرباح للقطاع الخاص على حساب القطاع العام وعلى حساب صحّة المواطن وعدالة الخدمات الصحية.
3-  المشكلة الثالثة: ضعف التمويل إذ تبلغ موازنة وزارة الصحة 3.8% فقط من الموازنة العامّة (المعدّل الطبيعي أن تكون 15% وما فوق).
4- المشكلة الرابعة: عدم القدرة على تطبيق القوانين ومراقبة سير العمل.
5- المشكلة الخامسة: ضعف قطاع الاستشفاء الحكومي، وكذلك قطاع الرعاية الصحية الأولية:
-  15 % من أسرّة المستشفيات - حكومي = 2.279
-  85 % من أسرّة المستشفيات - خاص = 12.915
- علماً بأنّ مجموع الأسرّة 15.195
6- قطاع الأدوية والمستلزمات والمعدّات الطبية: بدءاً من استيرادها مروراً بتسعيرها وانتهاءً بصرفها تحتاج إلى تغيير في المنهجية. أمّا في زمن الكورونا والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمرّ فيها لبنان، فعلى الدولة أن تلجأ إلى الاستيراد المباشر من دولة إلى دولة فتؤمّن أوّلاً توفيراً في أموال اللبنانيين، وثانياً تضمن جودة المواد والأدوية المستوردة خصوصاً في ظلّ غياب المختبر المركزي للدواء.
7- تعدّد الجهات الضامنة: جميعها تدفع من مالية الدولة، من هنا ضرورة توحيدها.
8- المشكلة الثامنة: عدم وجود أنظمة طبية حديثة (بروتوكولات) موحّدة تحمي المواطن والمريض وتخفّض الفاتورة الصحية وتساهم في محاسبة الأطباء في حال تجاوزهم للقوانين الطبية.
9- المشكلة التاسعة: المشاكل التي يعاني منها الأطباء والممرّضون والمساعدون الطبيون وهي مشاكل عديدة ومزمنة.  
في ظلّ هكذا نظام صحّي متعثّر، أطلقت وزارة الصحّة العامّة، نهار الأربعاء الواقع فيه 27/01/2021، الخطّة الوطنية للقاح «كوفيد - 19»، وذلك بعدما كانت اللجنة الوطنية للقاح «كوفيد - 19» قد أنهت اجتماعات ماراثونية ناقشت خلالها هذه الخطة بكلّ تفاصيلها الدقيقة، وبذلك ابتدأ العدّ العكسي لانطلاق حملة التلقيح المجانية والتي سوف تستهدف 70% من اللبنانيين (4.802 ملايين نسمة)، خلال عام 2021/2022، بحسب اللجنة، وذلك بهدفٍ أولي هو التخفيف من الإصابات بين المواطنين، وبالتالي تخفيف عدد الحالات التي تحتاج إلى استشفاء سواء في الأقسام العادية للعناية بمرضى «كورونا»، أو في أقسام العناية الفائقة. وهذا بدوره يسهم في تخفيف الضغط على المستشفيات وعلى الجسم الطبّي والتمريضي الذي يعاني من الإجهاد والاستنزاف والتعب. كلّ هذا بهدف الوصول إلى الهدف النهائي لكلّ هذا الحراك، ألا وهو تخفيف عدد الوفيات بين المواطنين والمقيمين على الأراضي اللبنانية بسبب هذا الوباء.
بمراجعة الخطة الوطنية للّقاح ضد فيروس «كورونا»، يتبيّن أنّ الدولة اللبنانية قد وضعت نصب أعينها تلقيح 70% من سكان لبنان، وهو ما لا يتماشى مع السقف الذي وضعته الدول المتطوّرة والبالغ 80%، وهو ما كان قد أعلن المسؤولون في لبنان مراراً وتكراراً. فإذا اعتبرنا أنّ عدد سكان لبنان بحسب دراسة للأمم المتحدة، في نهاية عام 2019، يبلغ ستة ملايين وثمانمئة وستين ألف نسمة تشمل اللبنانيين والمقيمين على الأراضي اللبنانية من غير لبنانيين، فإنّ الدولة اللبنانية بقرارها هذا سوف تستهدف حوالى أربعة ملايين وثمانمئة وألفَيْ إنسان فقط. وفق دراسة للأمم المتحدة للسكّان، تبلغ نسبة المقيمين في لبنان والذين تفوق أعمارهم دون العشرين عاماً، 35% من عدد السكان، وبذلك تكون الدولة اللبنانية مثلها مثل معظم الدول الأخرى قد استثنت هذه الشريحة العمرية من معاملات التلقيح بسبب عدم وجودها في دائرة الخطر في حال الإصابة بفيروس «كورونا»، بحسب الدراسات العلمية. إذاً، يتبقّى على الدولة اللبنانية تأمين لقاحات تكفي للأربعة ملايين وثمانمئة وألفَيْ مواطن. ولكن من الخطة الوطنية التي وزّعتها اللجنة الوطنية عبر وزارة الصحة، يتبين أنّ مجموع الجرعات التي تنوي الدولة اللبنانية شراءها تكفي فقط لثلاثة ملايين ومئة وخمسة وستين ألف إنسان. هذا يعني أنّ هناك حوالى مليون وستمئة وسبعة وثلاثين ألف إنسان لن يشملهم اللقاح وهم من ضمن الفئات الواجب تلقيحها، ما يطرح جملة من الأسئلة، أهمّها:
- هل الدولة اللبنانية نأت بنفسها عن تلقيح غير اللبنانيين المقيمين على أراضيها، من غير أن تعلن ذلك خشيةً من ردّة فعل المجتمع الدولي؟
- في حال أعلنت الدولة اللبنانية عن عزمها تلقيح غير اللبنانيين المقيمين على الأراضي اللبنانية، فهل نترك عندها هذه الشريحة (مليون وستمئة وسبعة وثلاثون ألفاً) تحت رحمة القطاع الخاص اللاهث وراء تحفيز الأرباح في زمن «كورونا».
- هل ستعتمد الدولة خلال تنفيذها للخطة الوطنية للقاح «كورونا» على المتطوّعين كلياً أو جزئياً؟ دعونا نستطرد قليلاً في هذا الموضوع. لقد أثبتت التجارب أنّ الخطط والمشاريع التي قام بها متطوّعون لمصلحة الدولة اللبنانية غالباً ما كانت تنتهي من غير أن تتحقّق الأهداف المرجوّة لها، فكيف الحال إذا كان الموضوع يطاول خطة إعطاء لقاح لا نعرف عنه الكثير.
- إنّ طريقة إعطاء اللقاح تتطلّب حزمة من التدابير التي تختلف كلياً عن اللقاحات الأخرى المعروفة، وخصوصاً في أمرين: الأول، هو تأمين مساحة جغرافية تؤمن التباعد الجغرافي بين الأشخاص الذين يتواجدون في المركز للحصول على اللقاح، وكذلك الذين حصلوا على اللقاح وتجب مراقبتهم خلال 15 دقيقة الأولى بعد تلقي اللقاح. أما الأمر الثاني، فهو المراقبة الدقيقة في ظروف المنزل وتدوين وتبويب البيانات حول الحالة الصحية للأشخاص الذين تلقّوا سابقاً اللقاح، وهي كمية كبيرة من البيانات التي تحتاج إلى مهارات كبيرة لتخزينها بالسرعة المطلوبة من جهة، وللحفاظ على سرّيتها من جهة ثانية. هذان الأمران هما على درجة كبيرة من الأهمية في تحقيق الهدف المنشود في الحملة الوطنية للتلقيح ضدّ فيروس «كورونا» وتحقيقهما يحتاج إلى فريق مدرّب على درجة عالية من المسؤولية والمهنية، وهو ما يتطلّب إجراء تدريبات تسبق عملية التلقيح من قبل اختصاصيين في هذا المجال، وقد سبق وأبدت شركة «فايزر» عن استعدادها للقيام بالتدريبات اللازمة للفريق الذي سيُعيّن بعملية التلقيح. وهنا تكمن أهمية الاستعانة بطاقم متخصّص من أطباء وممرّضين ومساعدين.
أخيراً، يبقى سؤال على درجة من الأهمية، وهو أنّه في حال نجح القطاع الخاص في الحصول على كمية من اللقاحات، فما هي الطريقة التي ستعتمدها الدولة للتحقّق من صلاحية هذه اللقاحات ومطابقتها للمعايير العلمية، خصوصاً مع تزايد الأنباء عن أعداد كبيرة من العبوات التي فقدت صلاحيتها لسبب ما في العديد من الدول الأوروبية، والتي يجري البحث عن طريقة للتخلّص منها. فهل سيلتزم الرأسمال بالمعايير الأخلاقية أم سيبقى لاهثاً وراء جني المزيد من الأرباح على حطام الفقراء؟

* افتتاحية العدد الأخير من مجلة «النداء»
** نقيب أطباء الشمال