جرت العادة في البلدان الغربية، التي نتّبع نهجها وأنظمتها في لبنان، أن يقوم رئيس الجمهورية بتعيين شخصية لمنصب رفيع في الدولة، فلا يأخذ هذا التعيين مجراه القانوني النهائي قبل موافقة الكونغرس الذي يبادر بواسطة اللجنة المختصّة إلى مساءلة المرشح قبل منحه «البركة» أو حرمانه منها. فإذا حاز على «البركة» تتابع اللجنة النيابية المختصّة عمله، سواء أكان وزيراً أم وكيلاً أم رئيساً لمؤسسة عامة. وعندما يتطلّب الأمر يُستدعى هذا الموظف إلى الكونغرس للسؤال وأحياناً للاستجواب حسب الموضوع المطروح. أما عندنا في لبنان فيُعين الوزير أو المدير العام أو الحاكم فيعمل ويخطئ ويصيب ثم يتقاعد، من دون أن يكون قد تعرّض للمساءلة ومن دون أن يكون مجلس النواب قد قال له مرة واحدة: «ما أحلى الكحل بعيونك».
أما اللجنة النيابية المختصّة بمتابعة ومراقبة أعماله فغالباً ما تنزع إلى إهماله أو تناسيه. إلا أنه يجب الاعتراف بأن بعض اللجان النيابية تقوم أحياناً بدعوة بعض الوزراء لسؤالهم حول بعض الأمور أو حتى مساءلتهم في سواها من دون أن يتوصل الرأي العام إلى معرفة النتيجة، كما حصل مراراً في قضايا الاتصالات والمالية والبيئة والأشغال، حيث تبقى الأمور مُبهمة أو ضمن دائرة الكلام والكلام المضادّ.
أمّا ما يبعث على الدهشة والاستغراب فهو تصرّف لجنة المال والموازنة النيابية المفترَض بها أن تكون العين الساهرة على عمليات الجباية والإنفاق لتتأكد من سلامة هذه العمليات وجدواها وعدالتها فتستحقّ بالتالي لقب حارسة المال العام. فعندما ضجّت الأخبار بورود مذكّرة من القضاء السويسري إلى لبنان طلباً للمساعدة القضائية بشأن الشُّبهة المتعلقة بتحويلات مالية قام بها حاكم مصرف لبنان وشقيقه ومساعدته لم تحرك لجنة المال والموازنة النيابية ساكناً وكأنّ الأمر يجري في بلد آخر، في حين أن أقلّ ما يُتوقع منها هو أن تنعقد للتوّ للنظر في هذا الأمر وإخضاع الحاكم للمساءلة كي تبني على الشيء مقتضاه، وخاصة أن الدولة المعنية هي سويسرا وما تعنيه على الصعيد المصرفي العالمي، وأن المعنيّ في لبنان موظف كبير يتصدّر المشهد المالي والنقدي والمصرفي في لبنان ويدير عملية الدعم للغذاء والدواء والمحروقات ويحدد السياسة النقدية ويقود العمل المصرفي ويترأّس هيئة التحقيق الخاصة.
لكنّ لجنة المال والموازنة لم تكتف بتجاهل الموضوع بل طرحت على الرأي العام أهمية ترك الملف يسير في سكته القضائية لدى الدولة السويسرية على أساس أن الحكمة تكمن في الانتظار.
وهنا يبرز سؤال جدّي : فإذا كان القضاء اللبناني لا يواكب التحقيق السويسري، والبرلمان اللبناني لا يهتم بالأمر فلماذا إذن نسمح لسويسرا بفتح الملف وأخذ راحتها في التحقيق؟ بل ماذا لو قال أهل سويسرا : لماذا نهتم ونحقق بموضوع لا يهتم به اللبنانيون؟ فهل هذا هو المطلوب في نظام يتحدّث ليلاً ونهاراً عن الشفافية والمساءلة والمحاسبة؟!
إنه سؤال برسم لجنة المال والموازنة ومجلس النواب وكل مسؤول حريص على المال العام وحقوق المواطنين. هذا مع العلم بأنه في حالات من هذا النوع ينشأ إلى جانب التحقيق القضائي تحقيق مسلكي إداري، ولا سيّما أن السكة القضائية قد تأخذ وقتاً طويلاً في حين أن الكثير من الأمور تقع على المحك في هذه الفترة.
ثم كيف يُعقل أن يتابع الحاكم عمله وهو يخضع لأسئلة قد تتحول إلى اتهامات من جانب سلطات قضائية تعرف تماماً أن الخطأ في هذا المجال له ثمنه الكبير على صدقيتها وسمعتها الدوليتيْن؟!
*كاتب وسياسي لبناني