يرتبط ملف النفط في إيران، كأحد أهم جوانب الاقتصاد الإيراني، بطبيعة النظام السياسي والتوجّهات الاقتصادية الاجتماعية لهذا النظام، كما مع طبيعة التحديث وشكله وارتباطاته العالمية. كان تأميم محمد مصدق للنفط عام 1952 هو السبب المباشر للإطاحة به من قبل الاستخبارات المركزية الأميركية بتلك الطريقة الدرامية العنيفة، وهو ما قام به الشاه محمد رضا بهلوي بعد ذلك عام 1973، أي التأميم، ولكن من دون ضجّة تُذكر، وبشكل متوافق بالكامل مع التحالفات التي اتخذها نظام الشاه في تلك الحقبة. التأميم يعطي حصّة أكبر من الدخل الآتي من قطاع الطاقة للدولة التي تقوم بهذا الإجراء. والتحرّر المالي والإمكانات الجديدة يعطيان زخماً لعملية التحديث التي تباشر بها الدولة. ولكن طبيعة التحديث ومستقبله يرتبطان بشكل مباشر بطبيعة النظام الاجتماعية وتوجّهاته وتحالفاته الإقليمية والدولية.
الطبيعة الاجتماعية
دائماً ما كان الجدل محتدماً حول طبيعة النظام السياسي الذي تأسّس بعد الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، وعن طبيعة علاقته مع النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة. أصبح معروفاً وشائعاً في التحليل الاقتصادي الاجتماعي للسلطة الحاكمة في إيران، أن نتحدّث عن طبقة البازار، التي ملكت النفوذ الأكبر في السلطة بعد عام 1979. نتحدّث هنا عن البرجوازية التجارية الصغيرة، خصوصاً أصحاب الحوانيت وصغار التجار، والمتوسطة، والحرفيين التقليديين. يذكر الدكتور نايف سلوم أنّ تحديثات الشاه الاحتكارية عملت على تهميش هذه الطبقة، التي بالرغم من طبيعة تكوينها واحتوائها على فئات متنوّعة ومتفاوتة، إلّا أنّها امتلكت تماسكاً اجتماعيّاً واضحاً، مردّه إلى رجال الدين الشيعة، الذين عملوا كمثقّفين (عضويين) لهذه الطبقة. وهذا ما عبّر عنه الخميني (وبعده خامنئي) أفضل تعبير، خصوصاً التعبير الأيديولوجي والسياسي عن الفئات المتوسّطة والصغيرة منها.
في خضم الجدل حول الاتفاق النووي الإيراني مع «مجموعة 5+1»، عام 2015، كتب سمير أمين مقالة يطرح فيها مجموعة من التساؤلات بشأن طبيعة ودور النظام في إيران. وفي ما يتعلّق بسؤال: هل إيران على طريق الصعود؟ يجاوب أمين أنّ تطور النظام الاقتصادي في إيران لا يجعلها تنفكّ عن التنمية (الرثة) اللصيقة بالدولة (الخمينية) كما قال. ولم يجد لديها ما يكفي من العداء للقوى الإمبريالية لنستنتج أنّها دولة صاعدة. ولكنّه، في المقالة ذاته، يرى أنّ إيران لديها ميول لركوب قطار الدول البازغة التي تناهض العولمة الإمبريالية. التناقض بين التحليلين يمكن أن يوضّحه الموقف الأميركي؛ فهدف الولايات المتحدة بحسب أمين هو الاعتراف لإيران بدور قوة إقليمية (عادية)، أي دولة تقبل قواعد سيادة العولمة الليبرالية وتحدّد سياستها في إطارها ولا غير، وينتج عن هذا وفق الرؤية الأميركية موازنة دول الخليج وإيران كحليفين ثابتين لواشنطن، كما كان الوضع في أيام الشاه. السلوك الأميركي، العامل الخارجي في هذه المعادلة، قد يكون أساسيّاً في تحديد الوجهة التي سيسلكها الاقتصاد والسياسة في إيران، فضلاً عن الطبيعة الطبقية الرأسمالية للنظام الإيراني، التي من غير المفيد أخذها على التعميم، من دون تحليل التناقضات التي تتخلّلها، تحديداً في المستوى والتوجّه جهة المصالح وإلى أين تتطلّع وتسير. لا يمكن إنكار وجود جهات وازنة في البرجوازية الإيرانية، وهي جزء مهم من النظام وقد استفادت من التحديثات التي قادها، وراكمت ثروات من خلال موقعها في السلطة ودورها التجاري وفي الصناعات التحويلية والتقليدية، وحتى كان لأفراد منها نصيب في عقود النفط والطاقة، تعبّر عن نفسها بالدعوة إلى سياسات انكفائية في الإقليم، وإلى لبرلة أكبر للاقتصاد، تحديداً في ما يتعلّق بالسياسات المالية وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في توجيه دفة الاقتصاد، ويمثلها الإصلاحيون بدرجات مختلفة. ولكن الكتلة الشعبية المتحلّقة حول مؤسّسات الحرس الثوري الاقتصادية والاجتماعية، والنواة العسكرية والمجمع العسكري الصناعي، هي الأكبر وهي صاحبة الكلمة العليا في هذه الثنائية، إلى حدّ هذه اللحظة على الأقل. هذه المؤسّسة الأيديولوجية الضخمة التي ترتبط بقوة بزعامة المرشد الحالي علي خامنئي، ويمثّلها التيار المحافظ عموماً، هي التي تدفع إلى سياسات استقلالية ومضادّة لما تسعى إليه قوى العولمة الليبرالية في الإقليم، وكذلك في العالم، ويمكن أن نستدلّ على ذلك في مسؤولية الحرس الثوري في إيصال شحنات في مشتقّات البترول الإيرانية إلى فنزويلا، بالرغم من المخاطر المترتبة على ذلك.

العقوبات ما بعد الثورة
كانت حصّة إيران من سوق النفط العالمية، عام 1974، تقارب ستة ملايين برميل. بعد الثورة انخفضت هذه الحصة إلى 1.3 مليون برميل، وذلك بعد توقف الولايات المتحدة وإسرائيل عن استيراد النفط الإيراني. في مرحلة الثمانينيات، وبالرغم من ظروف الحرب الإيرانية العراقية، تمكّنت إيران من بيع نفطها رغم ما تخلّل ذلك من انقطاعات وصعوبات. الموجة الثانية من العقوبات جاءت عام 1996، وقد أعاقت الاستثمار ونقل التكنولوجيا في قطاع الطاقة الإيراني، إضافة إلى تقييدات (نسبية) مالية أخرى. استطاعت شركة النفط الوطنية في إيران المحافظة على قدرة إنتاجية تبلغ أربعة ملايين برميل من النفط برغم هذه العقوبات، وزادت من استثمارها في التكنولوجيا المحلية، واستفادت من الخبرات الخارجية غير الغربية في هذا المجال (روسيا والصين). في العقد الأول من القرن العشرين، أخذت قضية البرنامج النووي الإيراني تتفاعل، حيث تمّ تجديد قانون العقوبات السابق في آب / أغسطس 2001 لمدة خمس سنوات، ثم مرة أخرى في أيلول / ستبمبر 2006 أيضاً لخمس سنوات أخرى، وصولاً إلى عام 2012 حين خفّضت العقوبات الأميركية والأوروبية إنتاج النفط الإيراني إلى أقل من 2.7 مليون برميل، والصادرات إلى 1.5 مليون برميل. بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران و»مجموعة 5+1»، عام 2015، تمّ رفع عقوبات تصدير النفط عن إيران في مطلع عام 2016. وسرعان ما تمكّنت إيران بقدرات شركتها الوطنية للنفط من إعادة مستويات الإنتاج إلى ما قبل عام 2012 بوقت قصير نسبياً، واستعادت إيران حصّتها من سوق النفط العالمية. بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة الأحادي الجانب من الاتفاقية النووية مع إيران، أعيد فرض العقوبات ولكن بدرجة أكثر حدّة وفاعلية، ما أدى إلى انخفاض صادرات إيران من 2.7 مليون برميل في أوائل عام 2018، إلى 380 ألف برميل في حزيران / يونيو 2019، ورَاوحت عند ما هو أقل من هذا الحد خلال عام 2020.

محاولات التكيّف الإيرانية
في بحث بعنوان «العقوبات الأميركية واستراتيجية الطاقة الإيرانية»، صادر عن كلية الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكنز، يفصّل الباحثون في المشاكل والتحدّيات التي واجهها التخطيط في قطاع الطاقة الإيراني. فبالرغم من أنّ إيران خفّضت من إنتاج النفط في ظلّ العقوبات المشدّدة التي أقرّتها إدارة ترامب، إلّا أنّها حافظت على إنتاجها للغاز الطبيعي الذي تعدّ هي نفسها مستهلكاً شرهاً له، إضافة إلى وجود نوافذ للتصدير لا تزال مفتوحة، وخصوصاً إلى العراق المجاور. ولكن رافق ذلك مشاكل تقنية تتعلّق بالمكثّفات، وهي منتجات ثانوية مرافقة لإنتاج الغاز الطبيعي، وتشبه النفط الخفيف. وعلى اعتبار أنّ إيران مجبرة على تخفيض إنتاجها من النفط، كما أنّها أيضاً مضطرّة إلى الاحتفاظ بقدراتها الإنتاجية للغاز الطبيعي الاستراتيجي بالنسبة إلى اقتصادها الداخلي، شكّلت هذه المواد المرافقة للغاز الطبيعي أزمة يجب التعامل معها، فهي فقدت على كلّ حال سوقها الخارجي لتصدير المكثّفات. من الإجراءات التي اتخذتها إيران في هذا الصدد توسيع قدرتها على معالجة هذه المكثّفات محلّياً عبر إنشاء المزيد من المصافي، أو توسيع مصافٍ قائمة بالفعل. هذه المعالجة للمكثّفات زادت من طاقة إنتاج البنزين والقدرة على تصدير بعضه، بعدما استطاعت الاكتفاء الذاتي من هذه المادة، بين عامَي 2010 - 2012. كما تمّ استخدام المكثّفات بعد مزجها مع النفط الخام الثقيل كمواد وسيطة لمحطّات الطاقة، التي يستخدم معظمها الغاز أساساً. وكذلك عبر تخزين هذه المكثّفات محلّياً أو عبر خزانات مستأجرة في - أو - لمصلحة الصين. إنّ زيادة طاقة تكرير البترول كانت من أهم الخطوات التي اتخذتها إيران في تخفيف أثر العقوبات على الاقتصاد. كما تمّ التوسّع أيضاً في إنتاج الكهرباء التي تعتمد على الغاز الطبيعي ومكثّفات الغاز وتصدير بعضها إلى دول الجوار. كما أنّ هناك إمكانية أخرى للاستفادة من الكهرباء، تتمثّل في زيادة وتوسيع صناعة تحلية المياه (وحتى تصديرها)، وخصوصاً أنّ إيران من الدول التي تأثرت بالجفاف وتعاني، كما جوارها، بشكل متزايد من نقص الموارد المائية. عموماً لم تمنع هذه الإجراءات التكيّفية من انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة معيّنة عام 2019، ثمّ في العام التالي نتيجة تعمّق أثر العقوبات وتفشّي وباء «كورونا» في إيران والعالم.

الدور الصيني
كانت المشتريات النفطية الصينية من إيران، تاريخياً، في غاية الأهمية لتماسك وصمود اقتصادها. وفي الوقت الحالي، إضافة إلى الدور الصيني في تخزين المكثّفات، فإنّ غالبية مبيعات النفط الإيرانية تذهب للصين. وحتى عندما حدثت أزمة نقص سعة التخزين وانهيار أسعار النفط دون المستوى السالب في نيسان / أبريل 2020، حافظت الصين على مشترياتها من النفط الإيراني، وقامت بتخزينه سواءً في الناقلات أو في مخازن داخل وخارج الصين في ماليزيا وسنغافورة. الأرقام الرسمية للمشتريات الصينية بعد العقوبات تتحدّث عن متوسّط مشتريات صينية بحوالى 70 ألف برميل من النفط الإيراني، وهذا أقلّ بكثير من المستويات ما قبل العقوبات، ولكنّ التقارير تشير إلى أنّ الكميّة أكثر من ذلك بكثير، بحسب البحث الصادر عن جامعة جونز هوبكنز. وتتّخذ الصين في سبيل ذلك طرقاً بديلة لا يتم الإعلان عنها بشكل رسمي، منها استخدام تلك المستودعات العائمة - الناقلات - في تفريغ الحمولات، أو في بلد آخر تستأجر الصين فيه مساحات تخزين، كما عبر ماليزيا، حيث يتمّ تصديرها على أنها ماليزية. إنّ الصعود الصيني قد يلعب دوراً محوريّاً في تحديد الخيارات السياسية للنظام الإيراني في الفترة الحالية والمقبلة، وهذا يتوقّف على مدى حيويّة مصالح الصين في المنطقة، وعلى مدى تجذّر وجدّية الاتّجاهات الاستقلالية في النظام الإيراني، وقدرتها على الاحتفاظ بالهيمنة على بقية الاتجاهات.
الحرس الثوري والجدل الاقتصادي السياسي في إيران
لعب الحرس الثوري دوراً رئيسيّاً في سد فجوة الاستثمار في قطاع الطاقة، نتيجة انكفاء الشركات الأجنبية بعد الثورة عن الاستثمار والتطوير في هذا القطاع. هنالك إنجازات ملموسة في هذا المجال اضطلعت بها شركات تابعة للحرس وأهمها «خاتم الأنبياء» و»بنياد تعاون»، مثل أسطول النقل والاكتفاء الذاتي من مادة البنزين ومن ثم تصديرها، وبناء المصافي ومنشآت الغاز. ولكن هذا لم يمنع جهات، خارجية وداخلية، من توجيه النقد إلى هذا النشاط الاقتصادي الذي يقوده الحرس الثوري، بغضّ النظر عن تصنيفه أميركيّاً على لائحة الإرهاب. معهد «توني بلير للتغيير العالمي» البريطاني أصدر مقالة بعنوان: «سعيد محمد... حصان الحرس الثوري الأسود لانتخابات الرئاسة»، ترجمه ونشره موقع «جادة إيران». يجادل كاتب المقال أنّ الحرس الثوري لا يمتلك الخبرة ولا الوسائل لملء فراغ الاستثمار الأجنبي في إيران. ويتحدّث عن الفساد المرتبط بتوسّع إمبراطورية الحرس الثوري الاقتصادية. كما يشتكي العديد من الاقتصاديين الليبراليين الإيرانيين من تضخّم قطاع الدولة (البعض يقدّر حجمه بأكثر من ثلثي الاقتصاد الإيراني، وتُعتبر مؤسّسات الحرس الثوري اللاعب الرئيسي فيه) ومن توجّه الاقتصاد العام الذي لا يدعم بشكل كافٍ المشروع الخاص ولا يأخذ في الاعتبار مصالح رجال المال والأعمال الإيرانيين.

خاتمة
في مختلف مراحل الجمهورية الإسلامية في إيران، كان لدينا إمّا اقتصاد حرب أو اقتصاد حصار وعقوبات مختلفة الدرجات. لم تكن عراقيل الاستثمار الأجنبي التي وضعتها العقوبات هي فقط ما حفّز الانخراط الاقتصادي للحرس الثوري في مشاريع قطاع الطاقة (وغيرها طبعاً)، ولكنّ الضعف البنيوي للبرجوازية الإيرانية، وتلك التي تشكّل أحد أجنحة النظام التي تدور في فلك التيار الإصلاحي، وعدم قدرتها وعدم وجود مصلحة لها في حشد الموارد من أجل مشاريع استراتيجية كبيرة، وميولها للمهادنة وللالتحاق بالغرب بشروط أهون وأقلّ، هي ما شكّلت العامل الحاسم الثاني في هذا الانخراط. الحرس الثوري، الذي هو جزء من قطاع الدولة ويشكّل النواة الأيديولوجية والعسكرية الصلبة للنظام الإسلامي، هو حالة استثنائية فرضتها ظروف الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن قبلها مع عراق صدام حسين الذي كان مدعوماً آنذاك أيضاً من الولايات المتحدة ودول الخليج. وطالما بقي الاستهداف الأميركي الغربي للجمهورية الإسلامية في إيران، سيعطي هذا الحرس الثوري طاقةً ودفعاً مهمّاً للاستمرار في الهيمنة ضمن الثنائية الاقتصادية السياسية القائمة في إيران (محافظين - إصلاحيين)، وسيبقى التيار التسووي الذي يمثّله الإصلاحيون في موقع قد لا يسمح له في أن يرسم السياسات ويحدّد الخيارات العامّة الداخلية والخارجية للنظام. من الصعب إهمال دور الحرس الثوري ومؤسّساته الاجتماعية والاقتصادية المختلفة في مواجهة موجات العقوبات المتتالية، خصوصاً على قطاع الطاقة ولا سيما الأخيرة منها، وكذلك في إنشاء البنى التحتية والمشاريع الاستراتيجية في البلاد، بالرغم من المشاكل التي تخلّلت تلك المشاريع. كما أنّ عامل الدعم الصيني كان - تاريخيّاً - شديد الأهمية في هذا الصدد، خصوصاً أنّ الاتفاقية الجديدة الضخمة بين إيران والصين، التي لقطاع الطاقة الإيراني حصّة مهمّة منها، والتي إذا ما بدأت باتخاذ خطوات جدية على أرض الواقع، يمكن أن تنقل المشهد الاقتصادي السياسي الإيراني، والقدرة على تحدّي الضغوطات الخارجية إلى مستويات جديدة.
* باحث سوري