لم يكن انقضاء المئوية الأولى «للبنان الكبير» مناسبة للاحتفال، بل وقعت على حدود الدم والنار والدمار والتوترات والتدخلات. لقد أرّقها هدير البوارج في البحر وعسس الدول المنتشرون في البر؛ يقتنصون الفرص ويدسّون الدسائس وبالعلن. مئة عام أو قرن من الزمان لم يكن بالقصير؛ لم يشأ ذلك «الكبير»، بنظامه المركّب على شروط الانتداب وحساباته، إلّا أن يلج المئوية الثانية بتماثل يكاد يكون منقولاً من عشية المئوية الأولى: انهيار اقتصادي ومالي ومجاعة، انقسامات داخلية بلغت الذروة، وقناصل الهيمنة يصولون ويجولون، يوزعون الأدوار والأزلام والأوامر والعقوبات. ألم يكن هذا الذي جرى منذ مئة عام ؟ ألم يكن ذلك الجنين - الفرخ يغوص في مشاكله الداخلية، وفي الاحتراب الداخلي، والذي كان بأكثريته مذهبياً، ومجاعة ضربت وجراد أطبق على الأخضر واليابس؟ واليوم، لم يتغير المشهد كثيراً؛ فها هي المشاكل الداخلية تزداد عنفاً بين طوائف ومذاهب حول الحصص والسلطة والفساد تستقوي بتبعياتها، وها هي المجاعة تدقّ الأبواب وقد تطيح بما تبقى من بلد نخره سوس حكامه حتى أضحى رميماً. وها هم أحفاد القناصل يملأون الشاشات وهم بكامل لياقتهم العقلية والبدنية؛ يوزعون الشهادات بالولاءات، يعاقبون ويحاصرون ويهددون.لقد ولد ذلك «الكبير» على حسابات «سايكس - بيكو» ووعدها. فالولادة تلك لم تكن طبيعية بل كانت اجتراح معجزة الضم والفرز، بالجغرافيا والديموغرافيا، فنشأ، ولما تكن بعد قد اكتملت لديه موجبات النمو. الحاضنة الضامنة لاستمراره أصبحت حاجة وضرورة. فـ«سايكس - بيكو» قسّمت الجغرافيا على مقاسات وظائف مفترضة لكل كيان وكانت مفروضة عليه. والمدّ الاستعماري الذي بشّرت فيه تلك الاتفاقية / المؤامرة لم يكن إلّا الوسيلة التي بواسطتها ستسود على منطقة تقع بين حدَّي الأطلسي غرباً وجبال الهندوكوش شرقاً؛ هي بوابة النفط الذي بدأت رائحته تفوح، وكتف أفريقيا القائمة على سطح أرض، باطنها يختزن الخيرات الطبيعية ويزخر بها، وعليه فإن الدور الوظيفي المفترض لكل كيان وليد كان يلبي حاجة جيو – استراتيجية لدول الاستعمار المنتصرة بعضها على بعض في حروبها المستدامة منذ قرون خلت والمستمرة اليوم وستستمر...
إنّ إرضاء مكوّن مذهبي محدد لم يكن هو وحده مسبب التكوين، بل كانت إلى جانبه قضايا أخرى؛ التبعية كانت مطلوبة وذلك لتأمين الحصص، بالإضافة إلى الولاء السياسي، الهيمنة كانت هي السائدة؛ فتأمين موضع القدم والسوق والحانة هو من ضرورات بناء العلاقات الدولية. فلبنان واقع على الكتف الشرقية للبحر المتوسط، والذي يتمتع بكل المقوّمات لأن تجعل منه محطة ارتكاز، ولو مرحلية، بين السفر من مغرب الأرض ومشرقها، ولِمَ لا؟ فتلك المحطة ستكون نقطة جذب، لا بدّ منها، كي تصطاد عبرها ومن خلالها في حقول العرب المترامية حتى مضيق هرمز. لقد جاء تكوّن نظامه السياسي والاقتصادي على تلك الوجهة؛ التركيبة المذهبية هي انعكاس حقيقي للطبيعة المحيطة، كما الوظيفة الاقتصادية، والتي جرى تخصيصه بها، فهي لا تبتعد عن الأولى كثيراً، وإن بدرجات مختلفة. لقد أضحى ذلك «الوليد» مزيجاً من حداثة وافدة وشكلية، ورجعية موروثة من تاريخ قائم على القتل والتنكيل. بذرتان متناقضتان تدخّلتا في صنع المعجزة تلك، والتي جاءت نتيجة طبخة استعمارية لها أهدافها ومحدّداتها.
فلسطين بدورها، لم تكن بعيدة عن منطق التكوين اللبناني؛ قيام كيان ديني محدد فيها يستوجب إيجاد بيئة متشابهة من حولها. فالمحيط بكيان «الوعد المشؤوم» يجب أن يكون غير مستقر. فقيام دويلات طائفية أو نظم سياسية تحمل إرث المذاهب والعائلات والتوريث سيشكّل السبب الطبيعي والحافز لقيام كيان العنصرية والعدوان، وليشكل النموذج الذي يُقاس عليه، والموقع المتقدم للمشروع الإمبريالي الوافد باسم الانتداب، الملتبس في معناه ومضمونه. لقد جاءت اتفاقية سايكس بيكو لتخترع لبنان بسلخ أجزائه عن امتدادات طبيعية ولتضمّها، بطريق اصطناعية، قائمة على امتيازات ونظام هجين وبوجهتين: واحدة نحو الشرق، بضمانة الانتماء العرقي والديني، وأخرى نحو الغرب، حماية لتاريخ امتدّ لقرون من وصايات تحكّمت بجبل لبنان، الثنائي التركيب والحامل لكثير من المتناقضات.
لقد بيّنت الأزمة الحالية التي تعصف بلبنان عمق التناقض القائم بين الرعاة الخارجيين للمنظومة الحاكمة فيه


لقد ظلّلت الوظيفة السياسية للبلد مجمل أحداثه؛ منعت الإصلاح وقيام دولة حقيقية وبنى اقتصادية منتجة. لقد وقع البلد في فخ ازدواجية الهوية الوطنية؛ بين اسمين وانتماءَين ووجهتين، حتى نزل وحي «الطائر بجناحين»، والتي لم تستكن أجواؤه كثيراً، فلطالما كانت اتجاهات الجناحين متناقضة لم تجعله يطير إلّا إلى الهاوية، ولطالما كانت التوترات التي تصبغ سيرته السياسية، بالمذهبية والطائفية ومصالح أصحابها، هي من تعيد تشكيل الصيغة وفق أجنداتها وليس باتجاه مصالح الشعب اللبناني، حيث كانت حدود التقسيم بين مكوّناته ترتفع جدراناً وتعلو أكثر فأكثر. وأيضاً، الحاضنة الخارجية، كانت، ومن موقع الضنين على مصالحها، هي من تيسر الاستمرار لتلك المساكنة؛ تأمين مصالح شركائها والضغط باتجاههم كان من سمات الوظيفة السياسية للنظام السياسي في لبنان وكذلك لدوره. لقد يمّم لبنان وجهه غرباً، وهذا كان من شروط قيامته، وإنّ لم تغادر رياح العروبة أجواءه. لقد بقي الخطاب السياسي للسلطة واقعاً بين متطلبات الولاءات المزدوجة، وأحياناً المتناقضة، للبرجوازيات المحلية غير المتمسكة به والمرتبطة برؤوس الأموال والتبعية والدور المرسوم، فتنعكس توتراً ينتهي بإعادة توزيع الحصص. وإذا حصل وكان التناقض أكثر وضوحاً بأساسه السياسي، فكانت بعض جولات الحروب الصغيرة على قضايا كبيرة تملأ بعض فضاءات الحياة السياسية (1958- 1969- 1973)، إلّا أن المنظومة السياسية المتحكّمة كانت تعيد رسم حدودها وتعاود الحكم من جديد.
إنّ الانهيار المالي والاقتصادي الحاصل في لبنان اليوم، معطوفة عليه أزمة النظام السياسي وانفجار المرفأ وتداعياته السياسية والاقتصادية، تضاف إليها، الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 أكتوبر 2019، وانسداد الأفق أمام المنظومة السياسية الحالية وعجزها عن ممارسة السلطة بسبب التناقض البيّن بين أطرافها، والقائم في جزء أساسي منه نتيجة الولاءات الخارجية، المتناقضة اليوم بفضل التوترات الحاصلة في أكثر من منطقة وعلى عدة قضايا... كل ذلك يجعل فهم مآلات الصراعات ونتائجها يعتريه الكثير من الغموض والتعقيد. إن موقع لبنان كساحة من ساحات تلك المواجهات الدائرة وانعكاساتها يطرح السؤال مجدداً: أين لبنان من تطورات المنطقة؟ وهل ثمة دور جديد ووظيفه مستجدة للنظام السياسي في لبنان؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تستوجب بداية تفكيك الخريطة السياسية المتشابكة، كي يَسهُل تركيبها على صورة أوضح: إن عجز المنظومة السياسية المتحكّمة عن ممارسة الحكم في لبنان، وبجزء منه، هو بسبب الصراع الحاصل في المنطقة؛ فالمشروع الأميركي لم يتوقف، وهو مستمر بصيغته الجديدة، منذ عام 2003 وحتى اليوم: حروب متنقلة، انهيار لدول، موجة تطبيع كبيرة، ضياع قضية فلسطين، عجز سياسي عربي عن أداء أي دور في قضايا المنطقة سوى تمويل الحروب وإزكاء التوترات... مصالح الدول الفاعلة تتناقض وتتشابك حدّ الوقوف على حافة الاشتباك العسكري، زحمة أساطيل وتهديدات وعقوبات وشراسة غربية، تقابلها حدّة في المواقف وتهديدات من قبل أنظمة وحركات مقاومة وتشكيلات عسكرية غير رسمية... إن فصل الأبيض عن الأسود في هذه الموقعة لا يلزمه كثير من عناء. إن الحاضنة الخارجية للتسوية السياسية اللبنانية، والتي بدأت مع الطائف، سقطت مع القرار 1559، وتوّج سقوطها بحرب تموز 2006. المستجد، كان تقدم المحور المواجه لمصدّري القرار الآنف الذكر. وعليه عادت وانتظمت التسوية وبأشكال متعددة، حتى عام 2011، مع بدء ما بات يُسمى بـ«الربيع العربي». إن نتائج كل تلك المواجهات الحاصلة كانت تنبئ بأن اختلالاً عميقاً قد وقع في المنطقة، وبأن ثمة تبدلات سوف تحصل.
لقد بيّنت الأزمة الحالية التي تعصف بلبنان عمق التناقض القائم بين الرعاة الخارجيين للمنظومة الحاكمة فيه، والذي شكّل سبباً من أسباب الاستعصاء الحاصل. وإذا أضفنا إليه التحوّلات المتسارعة في المنطقة، ومنها ما هو على خط التطبيع مع العدو الإسرائيلي وما يشهده من تطورات لها طابع اقتصادي، يصبح السؤال عمّا يجري في لبنان مشروعاً؛ فهناك ثلاثة مرافئ على الحوض الشرقي للمتوسط (بيروت، اللاذقية وحيفا)، الأول مدمّر، والثاني مُحاصر، والثالث جاهز. فأي مستقبل لتلك الموانئ؟ وأي أدوار اقتصادية تُرسم لبلدان المنطقة القادمة على تبدلات بنيوية في طبيعة الاصطفاف السياسي والعسكري؟ هذه الأسئلة هي برسم المعنيين بها. وعليه هناك ضرورة لمعرفة سبب الانفجار في مرفأ بيروت وماذا بعده. هناك خطوط نقل الغاز الطبيعي والتي تتقاطع مساراتها في منطقتنا، فأيّ تقاطع سياسي بات مطلوباً وفي أي اتجاه؟ والعقوبات الأميركية، والتي باتت تُوضع لأسباب متعلقة بطبيعة التحالفات السياسية؛ ما هي وظيفتها السياسية، والتي باتت مدخلاً لفهم سبب تعطيل تشكيل الحكومة؟ ومن جهة أخرى، لماذا الإصرار الداخلي عند بعض الأطراف الفاعلة في لبنان والإقليم على التمسك بالصيغة الحالية للنظام السياسي القائم وبالنمط الاقتصادي المعمول به؟ وإن طُرحت بعض التعديلات، فهي تأتي من باب الضغط السياسي أو النكد لا أكثر، بينما المطلوب هو مقاربة أكثر جذرية وتقدماً.
من هنا نجد أنّ ما يحصل هو إرهاصات لتبدلات قد تحصل على صعيد المنطقة؛ فالسباق المحموم بين التطبيع المتسارع وبين الاشتباك المتنقل ما هو إلّا بداية رسم معالم الصراعات القادمة وحدودها. طريق الحرير مقابل طريق حيفا / دبي، بحراً وبراً. هما خطان، المفروض بهما أن لا يلتقيا، بالرغم من أن ثمة محطات مشتركة لبعض مكوّناتهما. فالولايات المتحدة الأميركية تجاهر بموقفها، عقوبات تسليح، الضغط على إيران، أمن الكيان الصهيوني. روسيا، من جهتها تثبت أقدامها على ضفاف المتوسط وتسعى لمد اليد شرقاً وغرباً. إيران حجزت لها دوراً إقليمياً في محيطها المتسع والمطل على اتجاهات أربعة. تركيا، تلعب في ملاعب متعددة علّها تكسب نقاطاً للابتزاز المتعدد الأوجه. العدو الإسرائيلي يكسب التطبيع من جهة ويفقد الردع من جهة أخرى. الدول العربية، هي مسرح مفتوح للصراعات، تموّل الصراعات وتقدم الخدمات للمتصارعين. هو واقع معقّد، وفكفكة طلاسمه تتطلب قراءة مختلفة تُعيد صوغ المواقف السياسية والتعامل مع المستجدات من موقع المستهدَف والذي عليه واجب الدفاع عن نفسه.
إنّ لبنان الغارق في أزماته منتظراً الترياق القادم من ماكرون لن يقوى على الصمود أكثر؛ فمهما كان الحل فما هو إلّا مسكّنات لإمرار الطامة الكبرى المحدقة بالمنطقة. لبنان في مخاض رسم الأدوار المطلوبة، الشلل القائم ربما هو المطلوب اليوم مدعوماً بضغط اقتصادي ومالي. التسوية التاريخية لوظيفة لبنان أصبحت اليوم بلا غطاء. الكباش سينتج منه، مزيد من التوترات، ومزيد من فرض الشروط والعقوبات، ووضع مالي سيؤدي باللبنانيين إلى حدّ المجاعة وتعطل مؤسسات الدولة. لا حل سيأتي من الخارج؛ وعلى ما يبدو فإن الوظيفة التاريخية للبنان كموطن للمساكنة بين تيارين متناقضين في المنطقة قد بدأت بالأفول، لذلك فإنّ رسم موقع آخر للبنان ودوره لن يكون بتلك السهولة المعهودة، إذ لا اتفاق داخلياً ما دامت الوصايات متناقضة. لقد انتهى ذلك الـ«لبنان» المعروف وهناك آخر في طور التشكّل. فهل الديناميات المحلية، إن حسمت خياراتها باتجاه واضح، تستطيع إعادة تشكيل البلد، بوظيفته وتركيبة نظامه السياسي، بطريقة مختلفة عن المئة عام السابقة؟ ربما السؤال سيقترن بآخر: أية ديناميات تلك ومن أي موقع ووفق أي قضايا ومؤشرات؟ إنّ التموضع السياسي بات مطلوباً: ضفتان لن تلتقيا، واحدة مُعلنة ومشروعها متواصل في المنطقة، وثانية غاصت في ردود الفعل؛ عين على التفاوض وأخرى على بعض مواجهة لتحسين ذلك التفاوض... أمّا الطريق البديل، المعطّل اليوم أو المتعثر، فهو واقع بين هُوية مفقودة وفعّالية مضروبة: مشروع بديل لسلطة بديلة، هو المطلوب اليوم، ومن طبيعة مختلفة؛ نقيض للحالي، بطروحاته وقواه.
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني