جسمٌ غريبٌ يُقحِمونَه في الحيّز القريب من أدمغتنا منذ أكثر من عام، ونسارعُ مضطرّينَ عنوةً إليه لأنّ فيه بشرى أو تحذيراً وفاقاً لسلبيتهِ أو إيجابيته. نسارعُ دونَ علمٍ منا بمكوّناته وقِطَعه، دون اختبارٍ منا لماهيته، نحن المساكين الفقراء الذين لم تسمح لنا الحروب بمختلف درجاتها الحرارية وملمسِها، بأن نلتفتَ إلى علومنا وأدمغتنا، حتى صارت الأخيرةُ كتلةً طيّعة في أيدي الوحش الذي يمكثُ خلف شبكةٍ معقّدة من نسقٍ أرادَه لنا، ففقدنا الأصالة وتذرّت الهوية فينا، ودُفِنَت أنساقُنا الطبيعيةُ تحت ترميزاتهم المشفّرة بلغةٍ مخيفة!يختنقُ العالمُ في هذه الأيام إلى درجة توسّلِ الموت خلاصاً أخيراً! سوى أنه لا يختنقُ بفعلِ الكمامة أو كوفيد ــ 19 نفسه، وإنما يختنقُ من سطوةِ هذه الغمامة التي تحيقُ بكوكبِنا منذ حينٍ، بطريقةٍ فاضحة لا لُبسَ في ما تحملُه من دلالات. هي غمامةُ السيطرة والهيمنة حتى على العقولِ وليس فقط على التحركات.
رصدٌ متواصلٌ ليلَ نهارَ لكل التحركات والأفعال التي نقوم بها. اختراقٌ معلن للخصوصيات عُمِلَ عليه في العقد الأخير بشكلٍ مركّز عبر منصات واتساب وفقدان خصوصية الغياب والظهور، والفيسبوك والتحكّم بالقلم وحظر الصفحة التي تروّج لما يُفشي مخططاتهم أو يهددُ أمنَهم القائم على دماء شعوبٍ فقيرةٍ مناضلة، ودماءِ مقاوميها وقادتها. وفي هذه الأيام القليلة الماضية، لجوءٌ إلى دمج الواتساب والفيسبوك والإنستغرام، بالتزامن مع سَوق الناس سوقاً لأخذ لقاح الكوفيد ــ 19 مع احتمالاتٍ مطروحة لمنع السفر لمن لا يحملُ ورقة حصوله على اللقاح. ماذا كان هذا الفيروس؟ هل فهمناه حقّ فهمه ومعرفته حتى نسارع إلى الحصول على لقاحٍ صنّعته الدول التي سجّل التاريخ أن لا صديق لها ولا دينَ ولا ربّ؟ الدول التي خرّبت العالم وسمّمت الأرض في حربين عالميتين كرمى لمصالحها وتربّعها على عروش السلطة والسيطرة، ما الذي يدعو الإنسان إلى الوثوق بلقاحِها! هذا العقلُ الهوليوودي الذي يذكّرنا من خلال أفلامه السينمائية بأنّ أميركا وحدها هي القادرة على السيطرة على الأمور، كلما حصلَ خطأٌ بيولوجيٌّ في مختبرٍ يديرُه أفرادٌ متحاملٌ بعضُهم على بعض، بينما يتضح للمشاهد بأنّ الأهداف محض تجارية استهلاكية. هذا العقل الهوليوودي المبدع، يتموضعُ فوق شبكةٍ من العقول الماسونية- الصهيونية التي تفيضُ مثل العقل الأول فتنتجُ عالماً من الشرور. في الواقع هذا العقل هو الإلهُ بالنسبة إلى الرجل الأبيض الذي يحركُ أطراف الماريونيت من خلف ستارة بيته الأبيض. هو إلهٌ يمتلكُ القوةَ دونَ الطيبة. والخوف كل الخوف من إلهٍ تحقّقت لديه القوة ولم تتوافر فيه الطيبة. هو الإله الذي ابتكرَه الرجل الأبيض ليشعرَ بالأمان خلال ممارسة شروره. لكن هذه ليست عبادة الأحرار التي قدّمها برتراند راسل في «عبادة الإنسان الحرّ».
يبدو أن الديمقراطية كانت إحدى هذه الشبكات الإيهاميّة التي تغطّي طبقةً أخرى من الأفعال الاستبدادية، التي تقوم في ما بينها علاقاتٌ وأواصر، بنيتُها إرادةُ القوة والسيطرة.
قدرٌ هائلٌ من قوة العقل وانتفاء الإيمان، يتطلّبه التمثّل بصورة الديمقراطية من أجل التحكّم من خلال الطبقات المُخفاة من السلطة؛ تلك الأنساق القائمة التي لا يراها المساكين من الشعب، بينما تمتدُّ جذورُها إلى سائر بقاعِ الأرض، منذِرةً باحتقانٍ وانفجارٍ وشيك.
لعلّنا نعودُ بعد زيادة الضغط علينا من المنابر التي عوّدونا عليها وشغلونا بها فانحسرَت مجالات إبداعنا الحقيقي، وخبَت عزيمتُنا على الجدّ والكتابة، وكادت شعلةُ فكرِنا تنطفئُ بفقدان الدافع، لأنّ الدافع اختزلته اللايك والكومنت والتفاعل الغزير، لكن الفارغ في منصاتٍ عرفنا أنها مشبوهة لكن منّينا النفسَ بأنّ علينا استغلالها لمصلحتنا. لعلنا نعودُ بعد برهةٍ حين يغلقونَ صفحاتنا لأنّ فيها اسمَ مقاومٍ وقائدٍ هنا، أو عبارة فيها إساءة لكلمة صهيوني أو أميركي، ولأن فيها صورةً لبطلٍ صنديد أذلّهم في إحدى الجبهات... لعلّنا بعد ذلك نعودُ مرغمينَ إرغاماً محموداً حميداً إلى الورق لنقولَ كلمتَنا قبلَ أن نمشي... ولا ضيرَ في ذلك أن نكتبَ بأسماء مستعارة كما فعل من قبل الشهيد الدكتور شريعتي. معلّمُ الثورة الذي جمع من حوله الشباب وكان له التأثير الأكبر من خلال القلم.
استُبدلت الصحف الورقية والمجلات بالصفحات الإلكترونية والمدونات الرقمية. وانحسرَ نشاط الكاتب والمفكر والفيلسوف الذي كان منذ القدم يعوّل على قلمه لإصلاح شكل الحياة والمجتمع والسلطة والعالم، وتضاءلَ إلى حدّ منشور على الفيسبوك وندوة افتراضية لا يحضرها سوى عدة أشخاص غرباء عن واقعهم. وأمام هذا الواقع الزائف، أمام حقيقةٍ جديدة، هي جيلٌ جديدٌ لا يجيدُ التفكّر، ولم تسمح له ضوضاء السرعة بأن يكتسبَ أدوات التفكير وفعل التأمل في وجوده وذاته وماهية الكون، كيف سيتمكن الإنسان الجديد من التحصّن واكتساب المناعة أمام ذلك النسق المرعب، وذاك الوحش الماكث خلف شبكة علاقات السلطة والقوة؟
بعد كل السيناريوهات الماضوية، واختلاف نظام الأشياء ما بعد الحداثة، نقفُ اليوم أمام خطابٍ ثالث، بعد وعينا بالخطابين اللذين فشلا في قتلِ عقلنا البشري بضربةٍ قاضية؛ خطاب السلفية الرجعية، وخطاب التغربن أو الاستغراب اللذين أدخلانا طوالَ عقودٍ في قلبِ دوامةِ الانحطاط ومحاولات النهوض الهزيلة. اليوم افتُضحَ الخطاب الثاني، والخطاب الأول أخفق منذ زمنٍ في مواكبة الواقع المعيش وصار عبثاً التشبّث بثوب شعارات الأصالة دون محاولات تفكيكها وإعادة قراءتها بما يلائم الراهن. إننا أمام خطابٍ ثالث، هو خطاب «السرعة» أو الخطاب الاستهلاكي. سرعة دفق المعلومات والمغريات الافتراضية من أجل التحكّم عن بعد بالعقول وبالسلوك. سرعة بثّ الأوبئة في حربٍ ناعمة سريعة، لا يجدُ الإنسان أمامها الوقت ليعالج نفسه بل ليفهم حتى، فيلجأ إلى السرعة بدوره للحصول على الدواء أياً يكن! الإنسان مطالَبٌ اليوم بالسرعة في اتخاذ القرار من خلال زرٍّ يضغط عليه بإصبعه. لا داعيَ للضغط حتى؛ بل باللمس. السرعة في ترويج الإيحاءات والدلالات والرموز والمعاني من كلّ المنافذ. هذه السرعة نفذت وتسلّلت إلى أدقّ تفاصيل الحياة اليومية دون أن يشعر الإنسان، لأنّ الحصاد السريع والآني لعمله بات يزوّده بجرعةٍ من المخدّر المنعش. فأمسينا أمام الأغنية السريعة والفيلم القصير والمسلسل القصير بأحداثه السريعة، واللوحة السريعة تحت عنوان «التجريد»، والتطبيقات السريعة التي يظهر بها الشبابُ أيقوناتٍ ليس لما يفعلون في الحياة، بل لما لا يفعلون. مشاهير بسبب التفاهة، فرط السوق وفرط السلعة وفرط الجنس وهستيريا اللحاق بالرائج. احتفاءٌ جماعيٌّ بالتفاهة وتسطيح الفكر تحت عنوان واحد هو «التريند» على تيك توك وسناب شات و و و... أوقاتُ شبابِنا وأبنائنا أحرِقَت، وحلّت القطيعة بينهم وبين جوهر العمل والجدّ. لا جلَدَ على الدراسة ولا حلّ المعادلات الرياضية ولا لاختبار الفرضية الكيميائية. والضربة القاصمة كانت مع ابتكار وباء كورونا الذي قضى على الحافز الأخير، وأعلى من شأن «الأونلاين»، لكي يموتَ العقلُ جماعياً، يموتَ الإنسانُ فعلياً... مات الواقع وانطفأ الأمل في العثور على الحقيقة أمام كل هذه الشبكات الحديدية المتداخلة. الأملُ اليوم مقبورٌ دفنّاهُ بأيدينا يومَ فتحنا أبوابَ عقولنا على مصراعيها أمام بحر الزيف المنبجس من وسائل الإعلام والعقول «الأداة» لشبكاتهم التي لا تعرف النوم ما لم تسيطر على ذرات وجودنا بالكامل.
لكنّما تشخيص حالة الإنسان اليوم صارَ عمليةً شاقة، فلقد اختفت العلاقة بين الدال والمدلول، وتفوق الدالّ وصار هو الأصل. وآلَ صدامُ الحضاراتِ إلى ما لم يتنبأ به هانتيغتون؛ انعدام تكافؤ الصدام والمواجهة، وتوحّش الطرف المتوسّل بالقوة.
هكذا يُقضى علينا... وغايةُ هذه الورقة، الوعيّ بالذات والعودة إليها... قبل أن تموت!

* مترجمة وباحثة