يتصدّى القسم الخامس من الدراسة (لـ«المؤشّر العربي» لعام ٢٠١٥) لـ «دور الدين في الحياة العامّة والحياة السياسيّة». وتبدأ المشاكل في هذا القسم قبل أن نطّلع على النتائج: ما المعني بالتمييز المُصطنع بين الحياة العامّة والحياة السياسيّة؟ أم ان الجملة تعني عطف الحياة العامّة على الحياة السياسيّة؟ أليست الحياة العامّة هي الحيّز خارج النطاق الخاص من عائلة وتجمّعات خاصّة؟ ما علينا، لنفترض أن هناك فروقات ستتبيّن في النتائج. لكن المشكلة الأكبر في هذا القسم أنه ينبغي قياس «مستوى التديّن في المنطقة العربيّة» عبر سؤال المُستجوبين إذا كانوا يعدّون أنفسهم «متديّنين جدّاً» أو «متديّنين» فقط. هنا تبرز مضاعفات استيراد المفردات والقيم الغربيّة في اللغة والمنهجيّة العربيّة في الاستطلاع. وهناك جوانب عديدة من هذه المعضلة هنا، وبعضها فقط يتعلّق بالقياس وطرقه. إن مفهوم التديّن هو مفهوم غربي مسيحي حيث يُميَّز في المجتمعات الغربيّة بين المسيحي الولادة وبين المسيحي في المواظبة على القيام بالواجبات الدينيّة حسب شروط الكنيسة. ليس هناك مِن هذا التمييز في الإسلام. لا يُميَّز في الإسلام بين المُسلم (فقط) والمُسلم المتديِّن ربما على افتراض (خاطئ حكماً، لكن مُتساهِل) ان كل المسلمين مواظبون (ومواظبات) بالتساوي في القيام بالواجبات الدينيّة. وتبرز الفروقات في المفاهيم بين المسلمين وبين المسيحيّين الغربيّين حتى في الإجابة عن الهويّة الدينيّة للفرد. لقد لمس كل مهاجر عربي إلى بلاد الغرب هذا الفارق في السؤال عن الهويّة الدينيّة: عندما يجيب مهاجر عربي على سؤال عن الهويّة الدينيّة بأنه (أو أنها) مسلم أو مسيحي، فإنه يعرّف عن دين الولادة فقط. بينما الإجابة البريئة عن الولادة يُفهم منها في بلاد الغرب تعبير عن اعتناق ومواظبة دينيّة حاضرة. كما أن قياس التديّن في الاستطلاعات الغربيّة يكون عادة في إحصاء المرّات الذي يذهب فيها المسيحي إلى الكنيسة، وهذا القياس لا يسري على المسلمين: لا يزور المُسلم «الأكثر تديّناً» الجامع تعبيراً عن تديّن مفرط، كما هو الحال عند المسيحيّين الغربيّين. ثم، يمكن للمسلم أن يكون شديد التقى والورع من دون الذهاب إلى الجامع (بالرغم من فروض صلاة الجماعة). وإذا كانت زيارة الجوامع هي مقياس شدّة التديّن فإن هذا يعني أن الملك فهد وصحبه في العائلة قد ذابوا تقىً وورعاً، أو أنهم بلغوا الحالة الصوفيّة المرجوّة.
والأحكام الغربيّة (المسيحيّة واليهوديّة) في تصنيف التديّن هي غير ما كانت عليه في التاريخ الإسلامي الأكثر تساهلاً بالمقارنة (طبعاً، كان ذلك قبل زمن وضع زبيبة الصلاة على جبهات الساسة كشرط من شروط الصلاحيّة السياسيّة وكان ذلك قبل تسرّب العقيدة الوهابيّة -بقوّة المال والسلاح- إلى الثقافة الدينيّة في العالم العربي، لكن حتى غلاة الوهابيّة متساهلون من ناحية عدم إصادر أحكام أو تصنيفات على نمط حياة أمراء آل سعود — البعيد كل البعد على ما يُفرض من دين في مملكة القهر، طالما هم يحكمون «بما أنزل الله»). وليس هناك في الإسلام من إخراج للمؤمن عن دينه، كما كان يحدث في أوروبا (وحتى ظاهرة التكفير كانت نظريّة أكثر مما كانت ممارسة). لكن الحكم على الأحكام الإسلاميّة والتديّن فيه يجب ان ينزع عنه الصفة الحاضرة حيث تلوّث (أي الحكم) بممارسات وطقوس وهابيّة لا تمثّل في الإسلام أكثر مما يمثّل شهود يهوه في المسيحيّة). والإسلام شهد ظاهرة فكر المُرجِئة (وهي فكرة خارجة عن أحكام تصنيف التديّن الصارمة في المسيحيّة واليهوديّة والإسلام الحاضر) الذي نادى بعدم تكفير أي مسلم (طالما هو نطق بالشهادتيْن مهما خالف من أحكام الشرع) بناء على الآية القرآنيّة «وآخرون مُرجَوْن لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوبُ عليهم والله عليم حكيمٌ». وإرجاء الحكم على دين أو تديّن المؤمن إلى يوم القيامة أو ترك أمر الحكم إلى الله بالكامل فكرة غريبة عن صرامة تصنيفات الكنيسة التي أودت بحياة الملايين في أوروبا بتهم الكفر أو السحر أو الإثنيْن معاً. وفكرة «الإيمان قولٌ بلا عمل» تتضمّن التساهل (النسبي طبعاً) في تاريخ الإسلام.
ما يُقصد من سؤال
«هل أنتَ متديّن»؟ بأي مقياس يصنّف المرء أو غيره درجة تديّنه؟

طبعاً، يحمل كل دين (مما يسمّى الأديان السماوية) في طيات العقيدة تصنيف «نحنٌ وهم»، أو الجنّة والنار، أو الخير والشرّ، منذ ما قبل هبوط الوحي بأنواعه على منطقة عانت من شدّة حرارة الشمس. لكن التصنيفات والأحكام تختلف بين الأديان، وتختلف في صفوف الدين الواحد، كما تختلف في الطوائف في الدين الواحد. وبهذا، ما يُقصد من سؤال «هل أنتَ متديّن»؟ بأي مقياس يصنّف المرء أو غيره درجة تديّنه؟ قد يعتبر مؤمنٌ نفسَه مسلماً حتى لو احتسى الخمرة، فيما قد يعتبر مؤمن آخر هذا الاحستاء مخالفاً لشروط التديّن. وأكثر من ذلك، إن السؤال في الموضوع في المنطقة العربيّة يسري (أو لا يمكن ان يسري) على مستجيبين من أديان مختلفة ومتنوّعة. فالتديّن عند القبطي هو غير التديّن عند المسلم في الجزائر مثلاً. لكن هناك ما هو أفدح في هذا النوع من الاستطلاعات في العالم العربي والدول التي تحكم باسم الإسلام.
هل هناك حدّ أدنى من الحريّة للتعبير عن الدين والتديّن في العالم العربي والإسلامي؟ ورد هذا الأسبوع خبر من باكستان عن ولد قطع يده وجلبها إلى إمام جامع القرية لأن الأخير كان قد سأل الجموع إذا كان هناك بينهم مَن لا يحبّ الرسول، وفهم الولد السؤال خطأً ورفع يده، مما أدّى إلى تقريعه وتكفيره من الجمع ومن الإمام، فهرع الولد إلى منزل كي يقطع بنفسه اليد الذي رفعها في عدم حب الرسول. نحن في زمن قُتل ويُقتل فيه في البلدان الإسلاميّة من يُشكّك في ولائه الديني، وحيث يطبّق الحكم السعودي عقوبة قطع الرأس على من يخالف التفسير الوهّابي في حب الرسول. وكيف يمكن لأي مواطن (أو مواطنة حيث تسري على النساء طاعة الدين أكثر من الرجال) في أي من الدول المُستطلعة أن يجيب بحريّة عن أسئلة تتعلّق بالدين والتديّن. الكنيسة في لبنان لا تزال تحارب شهود يهود وعبدة الشيطان، ومُحتكرو تطبيق الفضيلة — بالتعريف الديني الصارم — يحاربون محلاّت بيع الخمور في سائر أنحاء لبنان (ويتساوى في هذا مُتزمّتو السنّة مع متزمّتي الشيعة —يبدو ان السنّة والشيعة لا يجمعون إلا على ما فيه قمع الفرد في بلادنا). لكن هذا لا يعني أبداً ان حالات الكفر والزندقة والتجديف هي نادرة كما توحي الكتابات الغربيّة عن الموضوع أو ان هناك حملات اضطهاد واسعة ضد الكفّار والمرتدّين بين المسلمين (كما يوحي الصحافي البريطاني، بريان وتيكر، في كتابه «عرب من دون الله: الكفر وحريّة المُعتقد في الشرق الأوسط». ولماذا تكون حريّة المعتقد بالعرف الغربي عن العرب صنو الكفر وليس الإيمان؟). لا، لكنّ إمكانيّة الإجابة الصريحة على هذه الأسئلة —وليس في السعوديّة فقط— مُستحيلة. وحتى في المجتمعات الغربيّة، هناك خفر وخداع ومواربة في الإجابات عن عدد المرّات التي يزور فيها المؤمن او المؤمنة الكنيسة. والمتديّن في الكنيسة في الغرب يُقيس شدّة أو قلّة تديّنه بعدد المرّات التي يزور فيها الكنيسة، أو بعدد النقود التي يقدّمها للكنيسة يوم الأحد، أو بعدد الاعترافات التي يقدّمها للكاهن. في الإسلام، الأمر يختلف كثيراً. كيف يقيس المؤمن المُسلم شدّة تديّنه؟ بأن يصوم ٤٠ يوماً بدلاً من شهر واحد؟ أم ان يصلّى ست مرّات بدلاً من خمس؟ أم أن يطوف حول الكعبة تسع مرّات؟ هذه معايير لا معنى لها في الإسلام لأن ليس هناك من مرجع في المؤسّسة الدينيّة مُخوّل إلهياً —على طريقة بابا الفاتيكان— لإصدار الأحكام على المؤمنين وعلى تصنيف إيمانهم، أو طردهم من الإيمان أو القاء الحرم الكنسي من المجلس الكاثوليكي للإعلام.
لكن هذا لا ينفي وجود كفّار ومُشكّكين ومُشكّكات بالدين في العالم العربي والإسلامي وإن كان وجودهم قد يكون أكبر مما يرد في استطلاعات الرأي (وهناك استطلاعات رأي -عبر الهاتف، وهذا أفضل هنا- مثل «بيو» التي أوردت ان نسبة المُشكّكين والملحدين في السعودية تفوق دولاً إسلاميّة أخرى، وقد يكون ذلك بسبب الإفراط في فرض الدين والتديّن في المملكة). وقد أظهرت استطلاعات غير منشورة لكمال فغالي (الذي أثق باستطلاعاته أكثر من غيره في لبنان) أن نسبة الملحدين في لبنان لا تختلف عن النسبة في اميركا (نحو ٥٪ فقط)، لكن بعض المجتمعات الإسلاميّة (مثل جمهوريّات آسيا الوسطى) تشير إلى نسب عالية من الملحدين. وأرقام «المؤشّر العربي» تورد نسبة ٨٧٪ من «المتديّنين جدّاً» و«المتديّنين إلى حدّ ما». لكن كيف التفريق بين الفريقيْن، وهل الحكم على التنصيف يمكن ان يكون غير ذاتيّ؟ والتصنيف الوارد ميّز بين «غير المؤمن» و«غير المتديّن» مما يمكن ان يكون قد قلّل من نسبة «غير المتديّن» لأن التصنيف يمكن ان يكون قد خلط بينه وبين «غير المتديّن» (الكافر في عرف الدين). لكن نسبة «المتديّن جدّاً» لا تتعدّى الخمسين في المئة إلا في دولة موريتانيا فقط (ص. ٢٢٩). ونسبة المتديّنين «جدّاً» هي الأعلى في موريتانيا ولبنان والسعوديّة، أي بصرف النظر عن نوع الحكم. هل هذه تقيس درجة العلمانيّة (الاجتماعيّة، لا السياسيّة فقط) أو الابتعاد عن الدين في الحياة الشخصيّة؟ لأن تونس أتت في المرتبة الأولى من حيث قلّة عدد «المتديّنين جدّاً» (١٠٪ فقط). ثم أن قياس «المتديّنين جدّاً» في عصر الإسلاموفوبيا وعصر مساواة التديّن الإسلامي بـ«داعش» له محاذير؟ هل يخاف المؤمنون والمؤمنات في الإسلام من الإجابة بنعم عن سؤال قد يوحي انهم يتعطافون مع الحركة الممنوعة؟ هذه يجب ان تؤخذ في عين الحسبان.
وفي الاستطلاع نفسه (الشكل ١٨٣) تأتي نسب الملاحدة في كل الدول العربيّة أدنى من هامش الخطأ، ما لا يسمح بإبداء ملاحظات عنها باستثناء ان الجهر بالموقف من الدين في كل الدولة المُستطلعة غير ممكن لا قانوناً ولا اجتماعيّاً لأن له عواقب وخيمة خصوصاً بوجود غرباء من الجهة المُستطلِعة والتي قد يشكّك المرء بعلاقتها بالسلطة الحاكمة في دول مثل السعوديّة، حيث لا يُتاح لشركات الاستطلاع القيام بعملها من دون إذن من وزارة الداخليّة والمباحث. ثم لنفترض ان الإجابات كانت على مستوى العائلة: هل يستطيع الابن أو الابنة، أو الأب أو الأم بالمجاهرة بالفكر الإلحادي امام أفراد عائلتهم من دون الخشية من ردّة فعل مُستنكِرة ومُدينة؟
أما تعريف معنى التديّن فيظهر في الشكل ١٨٦ (ص. ٢٣٢) حيث تتوالى المعاني (بالتدرّج) من «إقامة الفروض والعبادات» إلى التمتّع بـ«الصدق والأمانة» إلى «حسن المعاملة» إلى «صلة الرحم» إلى «مساعدة الفقراء والمحتاجين». وهذه التعريفات تختلف جذريّاً عن قياس التديّن الشديد أو الخفيف في دول الغرب ويرسم علامات استفهام عن جدوى فئة الاستطلاع هذه. أي ان المرء يحكم على شدّة تديّنه من خلال خواص خلقيّة لا علاقة لها بالفروض والعبادات (٢٩٪ زائد ١٩٪ زائد ٦٪ زائد ٦٪، والمجموع يفوق عدد الذين قدّموا تعريف التديّن على أنه يتمثّل بـ«إقامة الفروض والعبادات»).
الأسئلة لا تراعي
الفروق السياسيّة بين النظم السياسيّة في
الدول العربيّة

وقد عارضت نسبة لا بأس بها مقولة أن «كل شخص غير متديّن هو بالتأكيد شخص سيّئ» (ص. ٢٣٦): وكانت تونس ولبنان في طليعة الدول التي رفض فيها المُستجوَبون هذه المقولة (بين معارض ومعارض بشدّة، مع ان التمييز بين النوعين من المعارضة لم يكن ضروريّاً ومَيّع الجواب في هذا الشأن). لكن كان ملفتاً ان نسبة ٨٣٪ رفضت هذه المقولة في السعوديّة، مع ان هذا الجواب لا يستقيم بوجود أسئلة أخرى. ففي سؤال عن رفض إعطاء حق التكفير لأي جهة لم يعارض بشدّة إلا ١٢٪ هذه المقولة (وعارضها —من دون شدّة— ٢٦٪ فيما وافق ٧٤٪ في السعوديّة على حق جهة ما في تكفير آخرين. لكن، كيف يستقيم الجواب هذا في تأييد التكفير مع الجواب عن عدم المساواة بين السوء وبين عدم التديّن؟ كما ان ٧١٪ وافقوا في السعوديّة على تخويل جهة ما (حكوميّة ام دينيّة) لتكفير أبناء وبنات أديان أخرى (ص. ٢٤١). وفي السعوديّة نفسها، فضّل ٦٥٪ التعامل مع أشخاص متديّنين: لكن إذا كانوا يوافقون ان السوء لا يرتبط بالتديّن، فلماذا إذن يفضّلون التعامل مع متديّنين؟ (وافق ١١٪ في لبنان، المتنوّع الأديان، على حق تكفير أديان أخرى).
لكن هناك إمكانيّة لسوء فهم الأسئلة في عدد من الأقسام. فالسؤال عن مقولة السماح للبنوك باستخدام الفوائد البنكيّة، أتى بأعلى النتائج في لبنان والسعوديّة، حيث وافق ٥٥٪ على السماح بالفوائد المصرفيّة. هذه ترسم علامات استفهام حول طريقة إجراء الاستطلاع. وتلت موريتانيا السعوديّة في نسبة الموافقة فيما أتى لبنان في الطليعة (ص. ٢٤٧). لكن قرار «المؤشّر العربي» في التعامل مع الدول العربيّة على أنّ عدد سكانها متساو أخلّ بالنتائج: كان يمكن أن تكون النتائج أقلّ تطرفّاً في عدد من الإجابات إذا ما اعتمدنا على الوزن الديمغرافي لكل دولة خصوصاً أن مصر والجزائر ذاتا الكثافة السكانيّة احتلّتا موقعاً وسطاً في الإجابات.
أما السؤال عن ان «الممارسات الدينيّة (هي) ممارسات خاصّة يجب فصلها عن الحياة السياسيّة والاجتماعيّة» (ص. ٢٤٩) فهو سؤال ملغوم، لأنه يحمل توجيهاً للمُستطلَع، وهذا مخالف لشروط الاستطلاع الحِرَفي، كما ان الجملة غير واضحة، أو بديهيّة لدرجة ان المعنى ضاع في البديهيّة. كان تسأل زوجاً: «إن التعنيف هو مرفوض، هل توافق على ذلك»؟ ويلاحظ المرء ان فلسطين تأتي دوماً في أدنى مراتب «القياس العلماني» في الاستطلاع، وقد يعود ذلك لزيادة في نسبة الدين والتديّن في المجتمع الفلسطيني، أو قد يعود ذلك لشروط خاصّة في الاستطلاع هناك. ورفض أكثر من نصف السعوديّين الفكرة المطروحة، فيما أتى لبنان في مقدّمة القائمة مع ان الأحزاب السياسيّة السائدة لا تنتهج العلمانيّة بأي شكل من الأشكال (بإستثناء الأحزاب المسيحيّة الطائفيّة التي تقبل العلمانيّة فقط لأن الديمغرافيا تغيّرت لصالح المسلمين).
والسؤال عن قبول مقولة عدم تأثير رجال الدين على اقتراع الناخبين فقد جاءت الجزائر في أدنى المراتب (أي من ناحية قبول تأثير رجال الدين على الاقتراع)، ما يوحي أن هناك سوء فهم للسؤال في الجزائر الذي لا يوحي انه أكثر البلدان العربيّة تأييداً لدور رجال الدين، فيما سجلّت فلسطين نسبة أكبر من السعوديّة لصالح دور رجال الدين. ولبنان الذي يعطي لرجال الدين من كل الطوائف (خصوصاً المسيحيّة) دوراً كبيراً في السياسة، أتى في مقّدمة الدول من ناحية رفض تدخّل رجال الدين في وجهة اقتراع الناخبين. كيف تتفق هذه مع واقع السياسة في لبنان؟ وكيف يمكن ان يرفض العراقيّون (والعراقيّات) بنسبة ٦٣٪ تدخّل رجال الدين في قرارات الحكومة وهناك دور بارز بين السنّة والشيعة لدور رجال الدين؟ ومقولة رفض استخدام «الحكومة» (لماذا يفضّل الاستطلاع صيغة السؤال عن «الحكومة» وليس عن «النظام»؟ هل لأن ذلك أقلّ حساسيّة لأجهزة المخابرات العاملة في الدولة، خصوصاً أن الحكومات في بلاد مثل الأردن مثلاً لا تتخذ قرارات سياديّة أبداً؟) للدين للحصول على تأييد الناس لاقت رفضاً بنسبة ٧٧٪ في السعوديّة وبنسبة ٥٧٪ في الجزائر، وبنسبة ٦٩٪ في فلسطين. هل يعني هذا ان هناك تأييداً عارماً في هذه الدول لاستغلال الدين من قبل «الحكومة»؟
والأسئلة لا تراعي الفروقات السياسيّة بين النظم السياسيّة في الدول العربيّة. فالشكل ٢١٤ (ص. ٢٦٠) يسأل المُستجوبين عن حق المرشّحين في الانتخابات في استخدام الدين من أجل كسب الأصوات. لكن ما معنى السؤال في دولة مثل السعوديّة التي لا انتخابات فيها (الانتخابات في السعوديّة لا تختلف عن طقوس البيعة القبليّة وهي تخضع لشروط وضوابط أكثر صرامة من شروط العمل الحزبي في جمهوريّة السيسي: لا، بل إن ٧٢٪ من المُستطلَعين في السعوديّة رفضوا حق استخدام الدين من قبل المرشحين، فيها هم أعلنوا تأييدهم لآل سعود، وهم خبراء في استغلال الدين لنيل البيعة).
والموضوع العلماني تمّ التعرّض له في سؤال عن تأييد أو معارضة مقولة «من الأفضل للبلد ان يتم فصل الدّين عن السياسة». لكن لماذا الامتناع عن استخدام مصطلح العلمانيّة، حتى لو أسيء فهمه في العالم العربي؟ ولماذا قيل فصل الدين عن السياسة لا عن الدولة؟ ما القصد من وراء التمييز في السؤال؟ قد يُفهم من ذلك مراعاة للحفاظ على الدين في جوانب من جوانب الحكم. والأكيد ان الإجابة هنا تتضمّن مغالطات عدّة بالإضافة إلى عدم التصريح من قبل المُستطلَعين: كيف يمكن ان يطالب ٦٦٪ من العراقيّين بفصل الدين عن الدولة فيما يجمع السنة والشيعة على تأييد احزاب وشخصيّات طائفيّة، أو ان يزعم ٨٠٪ من اللبنانيّين أنهم مع فصل الدين عن الدولة ولبنان من أكثر الدول طائفيّة ومعارضة للعلمانيّة (ونحن نعلم ذلك في حالة لبنان لأن هناك انتخابات دوريّة فيه ويستطيع فيه المرء —خلافاً للسعوديّة أو الأردن مثلاً— التعبير بحريّة عن خيارات شخصيّة في السياسة). أما في السعوديّة فقد فضّل ٣٤٪ فصل الدين عن الدولة (وكيف يستقيم هذا مع دعم النظام الموغل في استغلال الدين في كل قراراته وخطابه؟).
المشكلة ان الاستطلاع هنا خاض في مسألة ليس سهلاً على العربي (والعربيّة) التصريح بها، حتى لو كان منهجيّة الاستطلاع دقيقة وعلميّة وحتى لو كانت وسائل الاستطلاع مُوحدّة وحتى لو كانت العيّنة مُنتقاة بعناية فائقة. إن الاختلاف مع النظام في الكثير من الدول العربيّة هو مثل الاختلاف مع عقيدة الدين: والعقوبة واحدة في عدد من البلدان.
يتبع...

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)