يصادف العام المقبل الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، قرنٌ كامل وصلت الصين في نهايته إلى المزاحمة على قيادة العالم منجزة أكبر تجربة بشرية في النهوض الاقتصادي والسياسي. أصبح هذا الصعود الصيني المتواصل الكابوس الأكبر المهيمن على عقل النخبة الأميركية وتصوّراتها، ولم تكن سياسات إدارة دونالد ترامب «العارية» تجاه الصين إلّا التعبير الأكثر وضوحاً عن ذلك. تحت عنوان «عناصر التحدّي الصيني»، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريراً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 بلهجة شديدة العدائية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني الذي «أطلق حقبة جديدة من منافسات القوى العظمى» بهدف قلب النظام العالمي ووضع الصين في مركزه وخدمة «الأهداف التسلّطية وطموحات الهيمنة لبكين». يُفتتح التقرير باقتباس، يُراد منه تأكيد النوايا «الخبيثة» للصين، للرئيس الصيني شي جينبينغ، مفاده: «يجب علينا أن نركّز جهودنا على تحسين أحوالنا وتوسعة مستمرة لقوتنا الوطنية الشاملة وتحسين حياة شعبنا وبناء اشتراكية متفوّقة على الرأسمالية ووضع الأسس لمستقبل نفوز فيه بالمبادرة ونكون في موقع مسيطر» (خطاب أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، كانون الثاني/ يناير 2013).
Xi Zhang (الصين)

أولاً: مخاوف متسارعة
بلغت المخاوف الأميركية من صعود الصين، ذروتها بعد جائحة «كورونا» حيث برزت الأخيرة أكثر كفاءة بأشواط في الاستجابة للوباء محلياً وخارجياً بالمقارنة مع أميركا. تحاول واشنطن استعياب ذلك بشنّ حرب معلومات ضدّ الصين لتحميلها مسؤولية تفشّي الوباء عالمياً. لم تكن مسألة الوباء إلّا «حبّة الكرز على قالب حلوى» الصعود الصيني والهلع الأميركي بشأنه. تدور المخاوف الأميركية حول التطوّر التكنولوجي الصيني، والاختلال في الميزان التجاري، وزيادة الاستثمار في الأنشطة العسكرية. تركّز كلّ من واشنطن والصين على المجال الإقليمي في جنوب شرق آسيا، فالأولى ترى أنّ منع ظهور منافسيين إقليميين ودوليين لها، يكون من خلال تقييدهم بتوازنات إقليمية منهِكة ومستدامة، فيما تسعى الثانية، أي الصين، إلى تحقيق هيمنة مستقرّة في محيطها القريب بدايةً، قبل أن تتوثّب بقوة أكبر نحو الخارج.
أجرى باحثون من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» CSIS، متخصّصون في المسألة الصينية (مايك غرين، بوني غلاسر، سكوت كينيدي، جود بلانشيت) مسحاً شارك فيه 400 من قادة الفكر من 12 مؤسّسة وطنية في أميركا (قطاعات الزراعة والصناعة والأمن القومي وحقوق الإنسان)، إضافة إلى مفكّرين عالميين من 16 دولة في آسيا وأوروبا، وعيّنة من ألف مواطن أميركي (أعلن عنه ضمن بودكاست «رقعة شطرنج آسيا» في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020). أظهر المسح أنّ 54% من الرأي العام الأميركي يرى في الصين التحدّي الأكبر بوجه أميركا مع أغلبية وازنة لديها تصورٌ سلبيٌ تجاهها. وعن كيفية الاستجابة لذلك، رأى 45% من الرأي العام و81% من قادة الفكر الأميركيين، أنّه يجب ملاقاة الصين من خلال الحلفاء والشركاء، وليس بمواجهة مباشرة. ويعتقد بلانشيت أنّ الصينيين يراقبون ميزان القوى وتعامل أميركا مع الجائحة، فيتأكّد لديهم أنّ أميركا قوة آفلة مع مؤسّسات ديموقراطية متدهورة في مقابل صعود الصين، ولذا يعتقد الرئيس الصيني بأنّ الوقت يسير إلى جانب بلاده.

ثانياً: الأسطول الأعظم
لدى الأميركيين قلق رئيسي من نمو الإنفاق العسكري الصيني، الذي بات فارقاً بشكل هائل مع دول الجوار المفترض أن تنخرط في الجهود الأميركية لتطويق الصين. فقد وصل الإنفاق العسكري الصيني، عام 2019، إلى 260.1 مليار دولار، وهو مبلغ يوازي ضعف الإنفاق العسكري لكلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا وسنغافورة. وحتى لو أضفنا إنفاق دول الهند وأندونيسيا وماليزيا والفيليبين وتايوان وتايلاند، فتبقى الصين متقدّمة عليها جميعاً. لكنّ واشنطن قلقة من تطوّر البحرية الصينية على وجه التحديد، كونها القادرة على «إسقاط» القوة الصينية نحو العالم ((projection of power وهذا هو مسار حتميّ لانتقال أيّ دولة من قوة إقليمية إلى قوة دولية. بالمناسبة، أطلق الجيش الأميركي حديثاً مشروعاً مع شركة «سبايس إكس» لتطوير استخدام مركبات فضائية لنقل مواد لوجيستية توازي حمولة طائرة النقل الضخمة «سي 17» (قادرة على نقل دبابة بوزن 70 طن)، إلى أيّ مكان في الكرة الأرضية عند حالة الضرورة في وقت قياسي لا يتجاوز الساعة الواحدة.
لذلك، تتراكم الهواجس الأميركية من تطوّر سلاح البحرية الصيني نوعاً وكمّاً. فبحسب تقرير سنوي للبنتاغون (2020)، أصبحت البحرية الصينية هي الأكبر في العالم بامتلاكها 350 سفينة حربية صينية مقابل 293 أميركية. وتجاوزت الحمولة الكلّية للسفن الحربية التي أطلقتها بحرية الجيش الصيني، بين عامي 2015 - 2019، ضعف تلك الأميركية عن الفترة نفسها. ولمواجهة هذه الفجوة، كان وزير الدفاع الأميركي السابق مارك إسبر تعهّد بزيادة حجم الأسطول الأميركي، عبر سفن تكون أصغر وأكثر رشاقة، وجزء منها غير مأهول، بما يمنح الأسطول الأميركي قدرة على انتشار أوسع، وهذه الميزة تتيح له النجاة من الصواريخ الصينية واستيعاب الهجمات من نقاط متنوّعة بشكل أكبر. لكنّ هذه الزيادة تواجه مشكلة مالية، حيث يجب أن ترتفع ميزانية بناء السفن من 11 % إلى 13% من ميزانية البحرية وهي النسبة التي كانت في حقبة رونالد ريغان (إيكونوميست- أيلول/ سبتمبر 2020).

ثالثاً: الانفكاك المستحيل
إضافة إلى صعود الصين بما يحمله ذلك من فرص ومخاطر للآخرين، شجّعت سياسات إدارة ترامب الأحادية الدول الأخرى على أخذ موقف أكثر حذراً تجاه المواجهة مع الصين. وهذا ما يعمّق مأزق واشنطن التي في أشدّ ما تكون بحاجة لمساهمة الحلفاء والشركاء في احتواء الصين. يشير أنتوني كوردسمان (9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) إلى أنّ وقائع الصعود الصيني إضافة إلى جائحة «كورونا» وما سيليها، سيجعل العيش في العالم الواقعي الجديد يفرض على أميركا علاقات مستدامة مع شركاء وحلفاء استراتيجيين حقيقيين. فأميركا التي تواجه تنافساً بل وصراعاً مدنياً وعسكرياً مع الصين وروسيا، أقلّ قدرة من أن تكون منقذ العالم عدا عن أن تكون شرطيه، بحسب كوردسمان.
المفارقة أنّ مسح «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» كشف عن وجود تفضيل قويّ في دول جنوب شرق آسيا لأن تتولّى أميركا العمل على «المشكلة الصينية» بشكل متعدّد الأطراف، ولكنّ الاتجاه الغالب بين نخب السياسة الخارجية في تلك المنطقة رفض الانحياز لطرف بين أميركا والصين، أي فضّل الحياد ورفض الوقوف بين «القطارين» الأميركي والصيني. لقد بلغ تقدّم الصين مرحلة لم يعُد الانفكاك عنها خياراً في الاقتصاد والتكنولوجيا، حتّى من المتوجّسين منها. فقد أظهر المسح أعلاه رفضَ 80% من قادة الفكر (وحتى الرأي العام)، وفي أميركا وأوروبا وآسيا، «الانفكاك» الاقتصادي الكامل (decouple) عن الصين، ولكن أيّدوا ممارسة ضغوط عالية في مجالات محدّدة، لا سيّما تلك التكنولوجية (مثل «هواوي») بذرائع حقوق الإنسان والأمن القومي وحقوق الملكية والخصوصية. هذه الذرائع تكشف عمق «الهيستيريا» الغربية من القفزة الصينية في تطبيقات الذكاء الصناعي، بفعل الداتا الهائلة المتاحة للسلطات الصينية مثل السجلّات الصحّية (يقال في القرن الواحد والعشرين، إنّ الداتا هي النفط الجديد والصين هي السعودية الجديدة). كما رفض المستطلعون من رؤساء الجامعات فكرة الانفكاك في مجال الأبحاث الجامعية عن الصين، وممّا قالوه: «لو كنّا انفكينا سابقاً عن الصين، لكنّا الآن متخلّفين مدّة شهرين بخصوص لقاح فيروس كورونا».
إنّ صعود الصين دولياً وإقليمياً يُعيد التوازن تدريجياً ونسبياً إلى العالم والمنطقة وهذا في صالحنا على المدى البعيد


رابعاً: الاستدارة نحو آسيا مجدداً؟
طرحت إدارة باراك أوباما مقاربة في السياسة الخارجية تقوم على مفهوم «الاستدارة نحو آسيا» لملاقاة الصعود الصيني باعتباره التهديد الأكبر لزعامة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، وهو ما يوجب التخفّف من التورّط المفتوح في أزمات الشرق الأوسط وحروبه. يشير أوباما، في كتابه الصادر حديثاً، إلى أنّ غرق جورج بوش الابن في الشرق الأوسط دفع حلفاء واشنطن الآسيويين للتساؤل عن أهمية منطقتهم لدى أميركا، ما دفعهم إلى زيادة الاندماج في الأسواق الصينية. لذلك، يرفض أوباما مقولة إنّ الاستدارة نحو آسيا هدفت لاحتواء الصين، بل لتأكيد روابط أميركا مع تلك المنطقة. لم يتجاوز أوباما أزمات الشرق الأوسط، وإن أوقف التورّط المباشر في حروبه وأنجز الاتفاق النووي مع إيران، فحِدّة التنافسات في المنطقة وجدّية المخاطر الناتجة عنها وضغط اللوبي الإسرائيلي وأشباه اللوبيات السعودية - الإماراتية، والاقتطاعات من ميزانية الدفاع والقوات البحرية أعاقت الاستدارة الأميركية نحو آسيا. وهذه الضغوط ستصطدم بها إدارة جو بايدن أيضاً، وإن كانت الحوافز لإنجاز هذه الاستدارة أصبحت أقوى بكثير الآن.
انتقد بول وولفويتز، أخيراً، أطروحة «الاستدارة نحو آسيا» لأنّها ارتكزت إلى استقلال أميركا طاقوياً عن المنطقة، في حين أنّها تجاهلت الاعتماد الكامل لشرق آسيا على هذه الإمدادات. ويرى أنّ هذه المقاربة كانت من حسن حظ الصين التي تقلقها الهيمنة الأميركية في منطقة الخليج الحيوية، وليس في بعض الجزر الصغيرة في بحار الصين الجنوبية والشرقية. ويجادل وولفوويتز أنّ النتائج المتواضعة لفكرة «الاستدارة نحو آسيا» لها عدّة أسباب، أبرزها أنّ «الانسحاب من الشرق الأوسط ليس منطقياً كجزء من استراتيجية حماية المصالح الأميركية في آسيا الباسيفيك». فحتّى مهندس فكرة «الاستدارة» كارت كامبل، أكّد أنّ فكرته لا «تدعو إلى الانسحاب من أيّ جزء آخر من العالم». فالشرق الأوسط لا يمكن أن يُعامل كأنّه ذا صلة ضعيفة بتنافس أو تصارع القوى الكبرى.
كانت مقاربة أوباما تجاه الصين مزيج من المشاركة والتسييج بجهد متعدّد الأطراف، في المقابل ذهب ترامب نحو معركة أيديولوجية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني. كثّفت إدارة ترامب تدخّلاتها في المنطقة وأعادت توسيع تعريف منطقة المصالح الاستراتيجية من «شرق آسيا» إلى «منطقة الهندي - الباسيفيك»، بما يكشف الصلة المتينة مع الشرق الأوسط. يرى سكوت كينيدي (مستشار كبير في الاقتصاد والتكنولوجيا الصينية) أنّ السياسة الأميركية تجاه الصين بدأت من «التكامل الصبور»، ثمّ «الضغط الصبور» الذي يشمل مزيجاً من الإجراءات الأحادية والجماعية، وصولاً إلى مرحلة ترامب التي توصف بأنها «المعارضة غير الصبورة» (عارض 71% من قادة الفكر الأميركيين سياسات ترامب تجاه الصين، كونها أضرّت بأميركا ولم تغيّر السلوك الاقتصادي الصيني، بحسب مسح CSIS).
أما مع بايدن، فيمكن الافتراض أنّ مقاربته الصينية ستكون أكثر حدّة من مقاربة أوباما، وأقلّ عدائية من مقاربة ترامب. فالتحوّلات توجب على إدارة بايدن مزيداً من التركيز على الصين وإكمال «استدارة» أوباما. في مقالته في مجلة «فورين أفيرز» (آذار/ مارس 2020)، طرح بايدن فكرة «سياسة خارجية للطبقة الوسطى» حيث تمثّل الصين «تحدّياً خاصّاً» يجب مواجهته «من خلال بناء جبهة موحّدة من حلفاء أميركا وشركائها. وفي هذه الحالة لا تستطيع الصين تجاهل أكثر من نصف الاقتصاد العالمي». ويؤيّد أنتوني بلينكن، مرشّح بايدن لوزارة الخارجية، مقاربة تخفيف حضور أميركا في الشرق الأوسط والتوجّه نحو آسيا لإعادة التوازن لمواردها هناك، حيث التوسّع الصيني على مختلف الأصعدة (مؤسّسة هدسون، تموز/ يوليو 2020). ستسعى إدارة بايدن إلى تعزيز الطرق الأنسب للمنافسة مع الصين، بما يحول دون الوصول إلى مواجهة مباشرة معها ثمّ ترك ممرّات للتعاون في قضايا ثنائية ودولية مشتركة بمقدار ما تثمر الضغوط في تغيير سلوك الصين «التوسّعي».

خامساً: الصين تتّجه غرباً
يتطوّر دور الصين في منطقتنا بشكل معتدل ولكن ثابت، مترافقاً مع تصوّرات إيجابية بالعموم من شعوب المنطقة (بحسب استطلاع «الباروميتر العربي» (2019) فضّل الجمهور العربي في 11 من أصل 12 دولة عربية التقارب الاقتصادي مع الصين أكثر من أميركا). ورغم أنّه ليس للصين استراتيجية معلنة تجاه الشرق الأوسط، وذلك للإبقاء على مواقف ملتبسة ومعتدلة ومرنة، لكن يمكن التعرّف إلى أهدافها: النفاذ المتواصل إلى مصادر الطاقة، وتعزيز نفوذها الجيو استراتيجي في الشرق الأوسط، وهو «المنطقة الأهم لها في القرن الحادي والعشرين خارج الباسيفيك» لأسباب مرتبطة بالطاقة ولمواجهة محاولة التطويق الأميركية، وهنا تأتي مبادرة «الحزام والطريق»، وحفظ الاستقرار الداخلي وفي محيطها ولا سيما في ما يخصّ التهديد الناشئ من أقلية الإيغور، وأخيراً تعزيز مكانتها كقوة كبرى بما يمتّن المشروعية الداخلية للحزب الشيوعي عبر حماية مصالح الصين ومواطنيها حول العالم (مجموعة كتاب، الصين في الشرق الأوسط، مؤسّسة راند، 2016).
لكن ثمة عنصر إضافي لفهم الاستراتيجية الصينية تجاه منطقتنا هو «الوقت»: تأجيل المواجهات إلى أبعد مدى ما دام الصعود الصيني متواصلاً بالسرعة المطلوبة بمعايير لها علاقة بالداخل والخارج. يرى الصينيون أنهم يبحرون مع تيار التاريخ الذي يفهمونه جيداً وتعلّموا منه الكثير والآن يصنعونه. التفسير الأولي يفترض أنّ التحشيد الأميركي في محيط الصين سيدفع الأخيرة بالضرورة إلى مقاربة صراعية مع واشنطن من خلال الشرق الأوسط. لكن يبدو أنّ الصينيين يفكّرون بشكل مختلف.
يرى وولفويتز أنّ الصينيين يحاولون تجاوز «التجربة اليابانية الانتحارية» في الحرب مع الولايات المتحدة (الهجوم على بيرل هاربر) ملتزمين مقولة صان تزو بأنّ «ذروة المهارة هي أن تكسب بدون قتال». إضافة إلى أنه، بحسب دراسة «راند»، بالرغم من المنافسة القوية الجارية على مستوى القوى الكبرى، الصين حريصة على حفظ علاقات تعاونية مع أميركا لا سيما في الشرق الأوسط. تدرك الصين أن واشنطن هي مزوّد رئيسي للأمن في الإقليم، حيث لا قوة أخرى بما فيها الصين، قادرة على أداء هذا الدور. إذاً، تسعى الصين لتجنّب الصراع مع أميركا قدر المستطاع وتكسب الوقت بالصعود السلمي، ولهذا فإن استجابتها للاستدارة الأميركية نحوها يجب أن تخدم ذلك المسعى.
بعد عام من قرار أوباما بالاستدارة الآسيوية، كتب وانغ جيسي (عميد معهد الدراسات الدولية في جامعة بكين) مقترحاً لانعطافة صينية في الاتجاه المعاكس أسماها «السير غرباً: إعادة التوازن للجيو استراتيجية الصينية» (2013). تجدر الإشارة هنا إلى وجود انقسام تاريخي في الصين بين مؤيّدي أن تكون الصين قوة بحرية تركّز على الشرق لتتحول إلى قوى عالمية عظمى أو أن تكون قوة برّية تركّز على الغرب والجنوب أي آسيا الوسطى وصولاً إلى الشرق الأوسط. لخّص يون صان (مؤسسة بروكينغز، 2013) مقاربة جيسي بأنّها تهدف إلى أن تتفادى الصين منافسة صفرية محتملة في شرق آسيا في ظلّ سعي واشنطن لاستعادة التوازن هناك. ففي آسيا الوسطى والشرق الأوسط مخاطر أقل لمنافسة صفرية بين القوّتين كونهما محكومتين بمصالح مشتركة (الطاقة ومكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي وعدم انتشار الأسلحة النووية) في أفغانستان وباكستان والعراق، وحيث لدى واشنطن نزعة تراجعية. هذا التوجّه غرباً إلى المناطق «التي كان الأباطرة الأوائل يحلمون بالوصول إليها» (وولفويتز)، تجسّد من خلال «مبادرة الطريق والحزام» حيث تُحوِّل الصين قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية وقوة ناعمة، ثم تأثيرات أمنية مستقبلية. وهذا التوجه يعني استعادة الصين للتوازن بين المجالين الشرقي (مثل تايوان وكوريا الشمالية) والغربي، وبين القوة البرية والبحرية.
هذا التركيز الصيني نحو غربها، بما فيه الشرق الأوسط، يحقّق للصين هدفين أساسيين: يعيد الصين إلى جذورها كقوة قارية بما يُضعف من فرص وقوع مواجهة في شرق آسيا، ويمنحها تأثيراً استراتيجياً إضافياً ضدّ واشنطن، عند الضرورة، بما يسمح بعلاقة أكثر توازناً بين الدولتين. أي أنّ التوجّه الصيني نحو منطقتنا هدفه تجنّب وقوع صدام مع الولايات المتحدة، إما بزيادة المصالح المشتركة وإما بتحسين لعبة التوازنات، ويستدل محلّلو «راند» على ذلك بالحذر الصيني في تطوير التقارب مع إيران. وداخلياً، يعزّز الاتجاه غرباً استراتيجية «التنمية الغربية الكبرى» (انطلقت عام 2000) الموجّهة للمناطق الصينية في غرب البلاد لردم الهوة التنموية والاقتصادية مع المناطق الساحلية، وكذلك تعزيز الأمن في المناطق الحدودية الغربية.
يشبّه وولفويتز الأطروحة الصينية بالتوجّه غرباً بلعبة صينية مشهورة اسمها «وي كي» أو «إذهب»، ومفتاح الربح فيها يكون بخداع العدو حول اتجاهك الحقيقي ونواياك، فتدفعه ليفتح لك مواقع جديدة تسمح لك بتطويقه على أمل أن لا يلاحظ الخصم استراتيجيتك الحقيقية. وهنا الصين، بحسب وولفويتز، تستدرج الولايات المتحدة نحو بحر الصين الجنوبي، بينما تقوم ببناء «عقد من اللؤلؤ» على مدى المحيط الهندي في باكستان وجيبوتي وسيرلانكا ميانمار. تمثّل مقاربة وولفويتز اتجاهاً قوياً في الحزب الجمهوري و«المحافظين الجدد»، وهي تتمسّك بدور تدخّلي في الشرق الأوسط لأسباب أيديولوجية مرتبطة بالإسلام وإسرائيل، والآن الصين.

سادساً: التداعيات الإقليمية
1 - الضغوط الأميركية المرشّحة للتصاعد على الصين ستزيح بمرور الوقت محور التنافس العالمي نحو الشرق الآسيوي، وهذا ما سيزيد من اهتمام الصين بمنطقتنا وتالياً الاهتمام الأميركي، وهكذا بدل أن تتحرّر المنطقة من وطأة الحضور الأميركي يجري ابتلاعها من «الثقب الأسود» الناشئ في جوارنا الآسيوي. هذا التشابك الأميركي - الصيني في الشرق الأوسط، دعا المجلس الأطلنطي لأن يوصي في دراسة حول «الدور المتغيّر للصين في الشرق الأوسط» (حزيران/ يونيو 2019) بأن يصبح الخبراء الأميركيون بشؤون الشرق الأوسط ملمّين بالصين والخبراء بالشأن الصيني أن يصبحوا محيطين بأحوال الشرق الأوسط.
2 - تصبح العلاقات الأميركية - الصينية أكثر تأثيراً في تشكيل مستقبل منطقتنا، ومع الفرص والعوائد الناتجة عن حضور الصين المتزايد على حساب أميركا، فإنّ الأمر لا يخلو من مخاطر وتحدّيات. تواجه أميركا معضلة موازنة حذرها من قضايا الشرق الأوسط مع الرغبة في احتواء نفوذ الصين هناك. هذا الأمر قد يدفع البلدين إلى مشاركة أكثر في شؤون الشرق الأوسط. وهكذا تكون المنافسة الدولية بينهما انعكست منافسة إقليمية أكبر، وهذا يعني ضغوطاً أكبر على دول المنطقة، بما في ذلك حلفاء واشنطن.
3 - سيبقى التوجّه الصيني المتزايد نحو بلادنا في المدى المنظور، ساعياً لعدم التصادم مع أميركا مفضِّلاً التغلغل التدريجي في المناطق الرخوة والنفاذ إلى الشبكات الإقليمية الواعدة والتعاون مع أميركا في مناطق أخرى والبقاء بعيداً عن مناطق مشتعلة أو ذات نفوذ أميركي صلب. زخم الاندفاعة الصينية وطبيعتها تجاه منطقتنا مرهون بالدور الأميركي في شرق آسيا مع تفضيل بكين أن يكون الشرق الأوسط «عامل تبريد» للعلاقة مع واشنطن، إلّا إن لم تترك الأخيرة خياراً لبكين إلّا المواجهة.
4 - إنّ دوراً صينياً أكبر في منطقتنا يمنحنا فرصة لتنويع الخيارات وتقييد المبادرة الأميركية. لكن علينا أن نعي أنّ الصين ستبني خياراتها بما يتناسب نسبياً مع ميزان القوى الإقليمي، ومع الدول والقوى القادرة على تأمين منافع أكبر وبكلفة أقل من منظار التفضيلات الصينية. والقيادة الصينية لن تنسى الدرس الأميركي من الشرق الأوسط، ولذا ستتجنّب التورّط في صراعات المنطقة المفتوحة وسياسة المحاور. وهنا قد يبرز تحدٍّ مستقبلي أن تصل واشنطن وبكين لتوافقات لضمان حدٍّ من استقرار الإقليم وتقاسم مصالحه بشكل يقيّد خيارات قوى المنطقة وعلى حساب مصالحها.

خاتمة
إنّ صعود الصين دولياً وإقليمياً، يُعيد التوازن تدريجياً ونسبياً إلى العالم والمنطقة، وهذا في صالحنا على المدى البعيد، ففي ذلك إضعاف لهيمنة أميركا وغطرستها. كلّ تقويض للنظام الدولي بصيغته الحالية هو فرصة لبناء نظام أكثر عدالة وتنوّعاً. مشروعنا الاستقلالي ينبغي أن يبني جزءاً من استراتيجياته على الاستفادة من التنافس الأميركي - الصيني الذي قد يصل، كما نأمل، إلى أن يصبح صراعاً. لكن علينا أن نحذر جداً من عنصر «الوقت». إنّ مساري التراجع الأميركي والتنافس الصيني - الأميركي على الأرجح أن يمتدّا لعقود في منطقتنا، وأثناء ذلك قد تصبح واشنطن أكثر شراسة في لحظات ما أو أكثر أذية، فضلاً عن الجهود التكيّفية الهائلة لحلفاء واشنطن ومن ضمنها مسار التطبيع.
ما تقدّم يعني أنّ مشروع المقاومة والاستقلال في بلادنا، واستكمالاً لنجاحاته في تقويض الهيمنة الأميركية وملحقاتها، يحتاج إلى سياسات مستدامة تضمن القدرة الفائقة على التكيّف مع تحوّلات هذا الصراع وتبعاته الدراماتيكية لعقود مقبلة ربما. فعلى دول وقوى المقاومة والاستقلال تجديد ذاتها من الداخل وتوسعة مشروعيّتها في الخارج. وهذا يستوجب بناء شبكات متعدّدة في الاقتصاد والتكنولوجيا والتنمية والثقافة والمعرفة بين تلك الدول والقوى، وكذلك مع الشركاء المحتملين داخل وخارج المنطقة. ينبغي لمشروع المقاومة في المنطقة أن يتّصف بسمات القوة الماراثونية: معرفة تفصيلية بمسار السباق ونَفَس طويل وبنية مرنة وتوظيف واعٍ للموارد المتاحة وتكيّف مع المنعرجات وضبط للسرعات وتجديد للطاقات وفهم دقيق للمنافسين وأحوالهم وتصميم لا يلين. يستمدّ التنافس الصيني - الأميركي طبيعته من سياقات القرن الحادي والعشرين، ويعيد تشكيلها طوال الوقت. ولذا على من يريد الانتفاع من «رياح» ذلك التنافس أن يمتلك عقلية هذا القرن المعقّد والمثير والمخادع والمتحوّل ليعرف كيف ينصب أشرعته ومتى.
* استاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا