بادرت مجموعة من الناشطين، المعنيّين بالشأن الفلسطيني، للدعوة لعقد مؤتمر المسار الفلسطيني البديل، في مدريد في خريف 2021، تحت شعار: نحو عقد ثوريّ جديد. اللافت في هذه المبادرة، اتخاذ «البديل» اسماً لها. قد يستفزّ هذا كثيرين، وخصوصاً الفصائل الفلسطينية، ولكنّه سوف يجد ترحيباً لدى فئات شعبيّة واسعة فقدت ثقتها بهذه الفصائل، وتبحث عن مخرجٍ حقيقيّ من الأزمة المزمنة. في النصف الثاني من السبعينات، بدأت تتردّد أصواتٌ تنادي بضرورة نشوء تشكيلاتٍ جديدة، بقيادة من نوع جديد، مؤهّلة لتصويب العمل الوطني، لكنّها كانت محدودة وغير مؤثّرة. بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وبنتيجة الخيارات المتعارضة التي فرضتها تداعياته، اشتدّت المناداة بالبديل، ونشأت أزمة حادّة في «منظّمة التحرير». اقتصرت محاولة التغيير، هذه، على الدعوة للالتزام بالحقوق والأهداف الثابتة، ولم تُجْرِ تغييراً نوعيّاً في البنية والأسلوب والممارسة. لذلك، كان مصيرها الفشل على الرغم من زخمها وتشكيلها تهديداً مؤقّتاً لمكانة القيادة الفلسطينية. البديل ضروريٌّ، منذ زمن بعيد، وبسبب عدم وجوده؛ استمرّت أزمة العمل الوطني، وتفاقمت على مدى العقود الماضية. لكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ أية مبادرة تأتي تحت هذا المُسمّى هي «المُنقِذ». فالمبادرة المناسبة للحالة الفلسطينية يجب أن تكون تراكمية، ومتنامية تدريجيّاً، وتتعامل مع الواقع السلبي ولكنّها لا تكون جزءاً منه، وصلبة في المبادئ لكنّها تشقّ طريقها بمرونة، وتدرك تعقيدات الظروف وتأخذها بعين الاعتبار، لكنّها تحافظ على بوصلتها موجّهة نحو المستقبل، نحو فلسطين. إنها مسار بمكوّنات من نوع جديد، وبنهج جديد، يمارس حقّه بالتعبير عن آمال شريحة واسعة من الفلسطينيين من دون ادّعاء أية صفة تمثيلية عمومية، بانتظار أن تؤكّد التجربة صحّتها من عدمها.«المسار الفلسطيني البديل» اسمٌ يحملُ معنيَيْن: الأول، العمل على دفع الفصائل الفلسطينية لانتهاج مسارٍ بديل عن السائد. الثاني، العمل على إنشاء إطار وطني يطمح للمساهمة في تكوين بديلٍ في الشكل والمضمون والمسار. إذا كان المعنى الأول هو المقصود، فبحسب ما أثبتته التجربة «لن يُصلح العطّار ما أفسده الدهر»، ويصبح النقاش في هذا الأمر عبثاً. أمّا الثاني، فيستحقّ كلّ الاهتمام؛ وسوف أبدي بعض الملاحظات على وثيقة أهداف المؤتمر المتوفرة على موقع https://masarbadil.org/.

ردّ الفعل كهدف
جاء في الوثيقة: «أولاً، الرد الشعبي الفلسطيني والعربي والأممي على مسار مدريد - أوسلو...»، و«ثانياً، الرد السياسي على المرحلة الراهنة...». السؤال هنا، هل يصحُّ أن يكون الهدفُ ردَّ فعل؟ لتحديد الهدف وصياغته أهمية قصوى في مستقبل أيّ مشروع. والهدف الأصيل، هو ما تريد تحقيقه لنفسك وبنفسك (فرداً أو مجموعة)، أي إنّه ينبع من الداخل. أمّا الهدف الذي يكون ردَّ فعلٍ، فهو فرعيّ، ومؤقّت، ومحدود في الزمان والمكان، ويأتي ليخدم هدفاً أصيلاً. فردود الفعل غير المنسجمة مع خطة العمل الاستراتيجية، تستنفد الطاقة والجهد بما هو آنيّ، وتُبعِدُ عمّا هو ضروري للمستقبل. إنّ خير مثال على ذلك، هو ما جرى في «ثورات الربيع العربي»، التي وإن نجحت في «إسقاط النظام» أو تهديد مصيره، إلّا أنّها فشلت في تقديم نموذجٍ جديدٍ أفضل. إنّ «إسقاط النظام»، ردّاً على ظلمه، ما هو إلّا هدفٌ فرعيّ لهدف أصيل يتعلّق بمصلحة البلد ومستقبله، وهذا ما تمّ تجاهله. وكذلك، شهدنا في التاريخ أنّ كثيراً من حركات التحرّر التي نجحت في طرد المُستعمِر فشلت في بناء دولة تُؤمِّن الحريّة والكرامة والتنمية لشعبها. كما نعرف عدداً من الأحزاب والقوى التي تنتفض ضدّ وصاية دولة ما على بلدها، لكنّها لا تعترض على وصاية أخرى. فالأصل في رفض الوصاية، هو السعي للتمتّع بالحرية ولممارسة حق تقرير المصير، وليس لأنها تأتي من جهة معيّنة. لذلك، يُفَضّل تجنُّب الأهداف المتعلّقة بردود الفعل والتركيز على الأهداف الأصيلة. ثم هل يصُحّ الردُّ الآن على فَعْلَة أوسلو وقد مضى عليها ثلاثة عقود!

الهدف بين العام والخاص
غالباً ما يكون لكلّ مشروع هدفٌ عامّ واحدٌ تُشتَقُّ منه أهدافٌ خاصة عدّة. في الوثائق التي بين يدينا، لا يوجد تحديدٌ للهدف العام. صحيحٌ أن بإمكاننا استخلاص فحواه من «وثيقة الأسس النضالية»، كأن نقول: تمكين الشعب الفلسطيني، بغضّ النظر عن أماكن وجوده، من ممارسة حقّه في تقرير مصيره في وطنه «فلسطين الانتدابية»؛ لكن هذا لا يعفي المعنيين من تحديد هذا الهدف بوضوح. هذا الأمر إلزاميّ لأنّه بناءً عليه تتحدّد الأهداف الخاصّة وخطط العمل التابعة لها.
تأتي الأهداف الخاصّة لتوفّر الظروف والشروط المناسبة لتحقيق الهدف الاستراتيجي/ العام، ويجب أن تكون محدّدة بدقة، وقابلة للقياس والتقييم بحسب معاييرٍ معيّنة، وقابلة للتحقيق. الأهداف الواردة في الوثائق، باستثناء الهدف السابع، لا تملك هذه المواصفات، وهي تصلُحُ لتكون مقدّمة تؤشر للمجالات المنْوي العمل فيها، ومنها تُشْتَقُّ الأهداف. على كلّ حال، هناك متّسع من الوقت لمزيد من النقاش في الأهداف الفرعية ولتطوير المبادرة.
ملاحظة أخيرة بخصوص الهدف السابع: إطلاق حركة شعبيّة موحّدة، وهيئة وطنيّة (مجلس المؤسّسات والجمعيّات الأهليّة الفلسطينيّة). بالنظر إليه، نجده محدّداً ونستطيع قياسه بناءً على النجاح في إطلاق الحركة الشعبيّة والهيئة الوطنيّة. لكن، حصر عضويّة الهيئة بالمؤسّسات والجمعيات سوف يحوّلها إلى هيئة تنسيق في ما بينها، وهي، بحسب دساتيرها وأنظمتها، قد لا تكون قادرة على القيام بجميع المهام التي تتطلّبها المبادرة. وللتنسيق بين الجمعيات مشاكله الخاصة، مثل المنافسة بين بعضها البعض، وكذلك المساواة في المشاركة في اتّخاذ القرار (هل صوت مندوب الجمعية الكبيرة يعادل صوت مندوب أصغر؟).
لم تأتِ الملاحظات المذكورة أعلاه، إلّا لتؤكّد أهمية المبادرة، وبالذات وثيقة الأسس النضالية، وضرورة العمل الجاد لتوفير الشروط اللازمة كافّة لنجاحها، على أمل أن تُحدِثَ خرقاً في جدار أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وتساهم في تصحيح مسارها باتجاه فلسطين.

* باحث وكاتب فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا