بعد انتصار العثمانيين على المماليك، في مطلع القرن السادس عشر (1516)، انتقلت البلدان العربية إلى حكمهم حتى الحرب العالمية الأولى، ومعها الأقليات اليهودية وخبراؤها متكيّفين مع السلاطين وحكّام الولايات. وساهم تميُّز خبرائها بالانفتاح على حركة الأنوار الأدبية والفلسفية في أوروبا، خلال القرن الثامن عشر، بتقرّبهم من مواقع السلطات الجديدة في بلدان أوروبا، وعلى ما شاع مذّاك عن رواد هذه الحركة من مبادئ المساواة بين الأقليات وحقوق الإنسان. وزاد ذلك في تسهيل اندماج أصحاب الخبرات العالية بين اليهود وتحوُّل البعض عن ديانتهم مع شيوع الفكر العلماني وتراجع الميول الكاثوليكية في أوروبا الغربية عن معاداة السامية وموروثات اتهام اليهود بصلب المسيح. كذلك، زاد في أشكال هذا الاندماج توسّع الحضور في الولايات المتحدة وإنكلترا للإنجليكانية، أو ما سُمي بالبروتستانتية - الكاثوليكية «المُعدّلة» الحاضنة لهم في الأسواق والإدارات.
لوحة للفنان الفلسطيني نبيل عناني («غاليري زاوية» ــ رام الله، دبي)

وسهّل من اندماج طلائع اليهود تحوّلهم عن الانغلاق على ديانتهم، بفعل إتقانهم لاكتساب لغات أوروبية وتعلّم أبناء طبقاتهم العليا. وهذا ما تبدّى لاحقاً في تكيّفهم وتفوّق اندماجهم في ألمانيا، خلال القرن التاسع عشر، بفضل تعلّقهم بالحداثة فيها، تعلّقاً انتهى على يد الحركة الصهيونية للتحوّل عنها إلى التحالف مع المحور الإنجلو - أميركي، بعد اتهام النازية لهم بخيانة ألمانيا وتحوّلهم لمناصرة الحلفاء والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً. وهو تحالف ساهم في انطلاق الحركة الصهيونية باتحاه بناء وحماية دولتها على أرض فلسطين لاحقاً.
وأدّى تحالف هذه الحركة مع المحور الأنجلو - أميركي، إلى تعطيل الانفتاح الثقافي الفرانكوفوني لليهود في أوروبا، الذي سبق وتمثّل في تأسيس المنظمة اليهودية الفرنسية «الآليانس» (Alliance Israelite Internationale) التي كانت قد تأسّست عام 1860، وقامت ببناء المدارس والحضانات في المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا وإيران وفلسطين لتدريس اللغة الفرنسية، ومن بعدها اللغة العربية والتعليم التلمودي، في أكثر من مئة مدرسة وحضانة، ولدعم الاندماج للجاليات اليهودية في فرنسا ومستعمراتها بما يُشبه الاندماج الثقافي السابق لليهود في ألمانيا. وكان ذلك الانفتاح الثقافي الفرانكوفوني يبعدهم عن الهجرة إلى فلسطين، على عكس ما أقدمت عليه لاحقاً الحركة الصهيونية من استغلال للعزل الثقافي لليهود الفقراء من شرق أوروبا والعالم، بغية ترسيخ نهجها التوطيني في «أرض الميعاد». وكان أن أدّى ذلك إلى تراجع منظمة الآليانس عن أيديولوجيا الاندماج لليهود في العالم المستوحى من قيم الثورة الفرنسية، التي كانت قد تبلورت لدى بعض النخب اليهودية المتأثرة بأيديولوجيّتها الداعية لـ«وحدة داخل العالم اليهودي تُمهّد لوحدة كونية تقوم على مساعٍ إنسانية أولية لمصلحة المضطهدين يهوداً كانوا أو غير يهود» (1).
انتهى هذا التراجع عن أيديولوجيا الاندماج الثقافي الفرانكوفوني لليهود في العالم، وتراجع معه حضور نهج «الآليانس»، بفعل استثمار الحركة الصهيونية للموجات الانفعالية للخطاب العربي القومي - الديني، وهو الخطاب الذي روّجت لـه الأنجليكانية في الولايات المتحدة والعالم، مستفيدة من موجات الانفعالات في الخطابات العربية السلطوية والشعبوية، التي استمرّت بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر.
وهكذا، تكون الحركة اليهودية قد تطوّرت، على امتداد عقود طويلة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، محتضنة من الاستعمارَين الفرنسي والإنكليزي للبلدان العربية لتنتهي في ظلّ الرأسمالية الأنجلو - أميركية، لتحقيق تعهّدها في بناء مجتمع استيطاني على أرض فلسطين، وفق وعود في التوراة قال عنها الباحث الأركيولوجي الإسرائيلي فنكلشتايل، إنّ «قسماً كبيراً منها كان دعائياً أسطورياً». وفي هذا الصدد، يُشير دنيس شاربيت (Denis Charbit) إلى أنّه «بعد مجيء مناحيم بيغن، عام 1977، من حزب العمّال إلى الحكومة وتحوّل الانقسام من يساريين ويمينيين إلى انقسام جديد بين علمانيين ومتديّنين بدأ الانقسام مع اليساريين أمثال يوري أفنيري، عام 1968، الذي عرض لمآسي تحقيق تلك الوعود...» (2).
في موازاة الاندماجات المتفاوتة طبقياً للأقليات اليهودية في البلدان العربية، كان توسّع الأسواق الأوروبية قد ترافق باستثارة انفعالات نخب الفئات العربية المتوسّطة. استثارة تمثّلت في حركات استقلالية وفي دعوات إلى استنهاض وحدة العرب والتصدّي لما يفكّك أمّتهم، بعدما تقاسم استعمارها الإنكليز والفرنسيون. وذهب الاستعمار الإنكليزي في انتدابه على فلسطين، وبدفع من المنظمة الصهيونية، منذ بداية الحرب العالمية الأولى، إلى إصدار وزير الخارجية الإنكليزي في حينه بلفور وعداً بـ«إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين». وطنٌ رعت الإدارة الاستعمارية تحقّقه على مدار أكثر من ربع قرن، عن طريق تسهيل الأعمال التأسيسية للمنظمة الصهيونية في إغراء يهود الفئات الوسطى في بلاد العالم، ولا سيما في أوروبا الشرقية، بالعودة إلى «أرض الميعاد»، ولينعموا بما يُوفّر لهم من تسهيلات توطين في فلسطين، حيث وصل عديدهم عام 1918 إلى 80 ألفاً، ليحلّوا في أرض الفلسطينيين الذين كانوا يشكّلون عشرة أضعاف المهاجرين إليها من اليهود الوافدين من بلدان العالم.
واصلت النُّخب الثقافية الفلسطينية والعروبية قصورها المعرفي عن التفريق بين الوجود التاريخي الديني لليهود وبين الوجود الصهيوني الغاصب في فلسطين


وفي الوقت الذي كانت تستثمر فيه الحركة الصهيونية، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، دعم الدول الأوروبية المستعمرة ومنها إنكلترا خصوصاً، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، لضمان الاعتراف بالشرعية الدولية بقيام الدولة الصهيونية القومية، كانت إنكلترا خلال استعمارها لفلسطين تُساهم معها في محاصرة وتعويق نمو مقاومة نخب الفئات الفلسطينية الوسطى، في الوقت الذي كانت تُبرز فيه الحركة الصهيونية للعالم أنّ شعبها الصغير الذي ظُلم في أوروبا الشرقية والغربية، بات يواجه عداءً قومياً - دينياً من 15 دولة عربية، تُعادي إسرائيل في ظلّ جامعة الدول العربية المؤسّسة عام 1945. واستمرّت الخطابات القومية - الدينية بعد هزيمة الجيوش العربية، عقوداً لم تنفك الحكومات العربية خلالها من الوعود بالقيام بالواجب القومي الديني للثأر ولفرض عودة المهجرّين الفلسطينيين إلى ديارهم «حفظاً لكرامة الأمّة من محيطها إلى خليجها». وظلّت هذه الخطابات تُحرِّك آمال الفلسطينيين في المخيمات وأوساط القوميين في الصحافة والجامعات والشوارع العربية، حتى مطلع السبعينيات، حين بدأ بعدها تفكّك الأنظمة القومية في سوريا والعراق، وانكفأت مع بداية القرن الـ 21 حدود التزاماتها القومية المُعلنة بحقوق الشعب الفلسطيني وبوحدة مقاومته، التي توزّعت بين قوميي الضفة الغربية وإسلاميي قطاع غزة المتنافسين على كسب رضى ودعم أمراء النفط.
وانتهى تفكّك قوى المواجهة في الأنظمة القومويّة العربية، مع تدرّج البعض منها إلى الظرف الملائم للخروج من مضائق التزامها المشيّع بالخطاب القومي الديني وتجدّد ميولها للدخول في رحاب التطبيع، مفاخرة بجديد اعتبارها بأنّ القضية الفلسطينية هي ملك الفلسطينيين وحسب، ولا مانع لدى هذه القوى من استنفار حلفائها في العالم الرأسمالي، ومعهم إسرائيل، لحماية حكوماتهم الخليجية من أيّ خطر إيراني مفترض على حدودهم.
وفي هذه الظروف الإقليمية المتزايدة التوتر، استمرّ تبنّي المسألة الفلسطينية، ولم يتوقّف التعهّد بتمويل المنظّمات التي كانت تُطمئن جماهيرها على حرص حكّام أمة العرب وأتباعهم، على اعتبارهم أنّ المسألة الفلسطينية هي مسألتهم الأولى، وأنّ القادة الفلسطينيين يواجهون المؤامرات معهم.
ومع جديد التغيّرات، زادت استفادة الدولة الصهيونية من عروبويّة خطاب غالبية الحُكّام العرب الذين لم يفرِّقوا بين يهودية الإيمان وصهيونية الدولة، التي لطالما حرصت مثلهم على عدم التفريق، فانتهوا إلى التطبيع مع الحلف الصهيو - أميركي، مساهمين في تحصين هيمنة هذا الحلف الاستراتيجية في الشرق الأوسط على المجتمعات والموارد العربية، وفي المزيد من تشريد الشعب الفلسطيني، وفي خذلان تأييد المعارضات اليهودية داخل إسرائيل وخارجها، ومنها جماعات يسارية وثقافية ودينية وعلمانية وإثنية تعيش في إسرائيل ظلامات التهميش العرقي أو الطبقي (3).
بدأت هذه الحكومات العربية التي انكفأ التزامها القومي وأعفت نفسها من المخاطرة في تحدّي التحالف الصهيوني - الأميركي، تركّز على أولوية مواجهتها السياسية الإسلامية السُّنية للحكم الإيراني الشيعي. وتُساعد في هذا التوجّه الولايات المتحدة الأميركية في حصار وتعطيل التأثيرات السياسية - المذهبية في الأوساط الشبابية الخليجية. وقد بلغ الانفعال السياسي لدول خليجية متزايدة في مواجهة هذه التأثيرت الإيرانية الطائفية - السياسية على حدود دولها ونفطها، حدود ترحيبها بالعروض الأميركية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل وتجاوزها لما كانت تُنادي به وتموّله طيلة عقود ضدها.
في مقابل هذه التطبيعات السياسية الاستراتيجية، ظلّ الفهم القومي الديني يسيطر على طروحات النخب الفلسطينية المناضلة والنخب العربية المؤيّدة لحقوق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه. وظلّت هذه الطروحات القومية - الدينية تُحرِّك المخيّمات الفلسطينية لإحياء مناسبات الاغتصاب والتشرّد في جامعات وجوامع وصحف عربية. يقتصر هذا التحرّك على دعم يساري في بعض الجامعات غير العربية، مُديناً الاغتصاب الصهيوني وتشريد الشعب الفلسطيني.
وفي موازاة هذا المستوى من التحرّكات الموسمية، واصلت النُّخب الثقافية الفلسطينية والعروبية قصورها المعرفي عن التفريق بين الوجود التاريخي الديني لليهود وبين الوجود الصهيوني الغاصب في فلسطين. في المقابل، واصلت الحركة الصهيونية القيام بوظيفتها في إشهار عدوانية الحكومات العربية المُعلنة ضد وجود إسرائيل في خطابات رجال الدين، وبعض الحكّام العرب في خطاباتهم القومية - الدينية السائدة. خطاباتٌ تواصل أنواعاً من التهديد يرتاح لعلوّها معظم قادة المقاومة «الصامدين» بتمويل من حكّام النفط، وقد باتوا الأقدر بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970 على تجاوز «محرّمات» تطبيع الأمة العربية مع مغتصبي فلسطين وتشريد شعبها، وقد أفهموا الدول المؤيّدة لإسرائيل وفي طليعتها الولايات المتحدة، أنّ عداءهم الأول بات لإيران المجاورة على حدود دولهم والمهدّدة لسلطانهم المتوارث على دولهم.
في موازاة هذه الرعاية القومية - الدينية التابعة والمتواطئة، ظلّت غالبية قادة المقاومة، بوعي أو بدون وعي، متمسكة بالفهم القومي الديني لا تفرّق:
- بين اليهود المعارضين سياسياً والمهمّشين إثنياً وثقافياً واقتصادياً، المغلوب على أمرهم داخل الدولة الإسرائيلية، وبين أجيالهم ممن يتذكرون زمن اندماجهم وصداقاتهم وعلو مواقعهم في أسواق المدن العربية وحاراتها أو يتذكّرون التأثير بسياسييها في بلدان منشئهم. ويكثر بينهم من يشاركون اليوم مع المنظمات التي تقود التظاهرات في مواجهة مخاطر الحكم الصهيوني المُتنعّم بالرعاية الأميركية خلف جدران أقامها على حدود إسرائيل تعلو ثمانية أمتار في مواجهة أرياف عربية محيطة يتزايد فيها الفقر خارج المخيّمات كما داخلها وظلت ترى في الدعم الاقتصادي والعسكري الإمبريالي للحكم الصهيوني سبباً في تهديد أمنها وعيشها.
- ولا يفرقون بين التهميش الطبقي - العرقي لليهود الشرقيين السفارديم والأفارقة وبين اليسر الطبقي العرقي لليهود الأشكناز الوافدين من الدول الغربية لاحقاً.
أجل لم يتجاوز قادة المقاومة، ومعهم مؤيّدون من القوميين العرب لقضيتهم، الفهم العاجز معرفياً عن التعامل مع الاختلالات البنيوية للتركيبة الطبقية للمجتمع في إسرائيل. وهو فهم ساهم معظم قادة المقاومة من خلال عدم تفريقهم، المشار إليه أعلاه ،في الحيلولة دون نمو المعارضات الطبقية والإثنية والاقتصادية والسياسية داخل التركيبة الصهيو - أميركية. وساهموا بفعل عجوزاتهم الثقافية والسياسية عن التجرّؤ والانفتاح على إمكانيات التعامل السياسي، ولو خارج إسرائيل والدول العربية، مع الجماعات والمنظمات اليهودية المتضرّرة من الحكم العنصري والتي تتجرّأ منظّمات شبابية على تعرية الصراعات المموّهة داخل هذا المجتمع الاستيطاني (4) في الوقت الذي لا يتجرّأ المقاومون الفلسطينيون على التلاقي والتنسيق مع القوى الديمقراطية واليسارية اليهودية داخل إسرائيل وخارجها لتعزيز المعارضات الفلسطينية واليهودية، في مواجهة العصبيات الدينية - القومية التي تغذّيها الرأسمالية العالمية ضدّ الفلسطينيين واليهود على السواء.

*باحث في علم الاجتماع

مراجع:
1 - André Chouraqui « L'Alliance Israelite Univercelle » puf 1960 ; page 169
2 - «هذا شعب هُزِم وكان ضحية المصريين والهاشميين والعراقيين والسوريين، وضحيتنا نحن طبعاً... هذا الشعب الذي قلعناه من أرضه لأنه ليس لديه مدافع ولا طائرات، وهذا الشعب الوحيد الذي لا يمكننا هزمه وسيظلّ يجعل حياتنا صعبة».
Histoire des relqtions entre juifs et musulmans E ditions Albin Michel , 2013 ,page 395
3 - من بين المعارضات اليهودية وبحدود متفاوتة نذكر: حركة السلام الآن، اليهود الحريديين (ناطوري كارتا)، اليهود المهمّشين المجلوبين من البلاد العربية، والفلاشا الأفارقة داخل إسرائيل وخارجها، حركتَي اليهود الأوروبيين من أجل السلام EJJP وIJAN في شمال أوروبا المنضويتين في BDS، أي الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل.
يُضاف إليهم المؤرّخون الجدد في إسرائيل، وهم مجموعة باحثين عملوا على الأرشيفين الإسرائيلي والإنكليزي اللذين فُتحا عام 1978 لقراءة أحداث عام 1948، وللتساؤل عن مرويات تأسيس إسرائيل، ومن بينهم:
Avi Schlaim, Ilan pappé, Benny Morris, Tom Segev, Finkell Stein, Yetzhak Orpaz, Amoz Oz , Abraham Yehochua.
Reference: Histoire des relations entre Juifs et Musulmans des origines à nos jours, ed. Albin Michel 2013, page 391,
4 - من هذه المنظمات، منظمة شبابية يهودية تتصدّرها آلتاي، وهي فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها، تُعتقل وتُسجن أحياناً لتظاهرها ضد الاحتلال الإسرائيلي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا