«لقد جئتُ إلى هذه الدنيا وحيداً، وهأنذا أرتحل عنها غريباً. إنّ الفترة التي قضيتها في السلطة لم تترك خلفها سوى الأسى. أنا لم أكن حامياً وحافظاً للإمبراطورية. حياتي، وهي أغلى ما أملك، قد أُهدرت بلا طائل. كان الله في قلبي ولكنّي لم أتمكّن من رؤيته. الحياة زائلة، وقد انقضى الماضي ولا يوجد أملٌ من المستقبل. الجيش الإمبراطوري بأكمله أصبح يشبهني: مرتاعٌ، مضطرب، بعيدٌ عن الله، متقلّبٌ كالزئبق. إنّي أخشى العقاب في الآخرة»
رسالة كتبها الشاه المغولي اورانجزيب لابنه من على فراش الموت، 1707 (دارليمبل، ص.62)


من السهل، مع مرور الزمن، أن يغيب عن ذاكرتنا الجماعية التفاعل التاريخيّ الكبير بين الهند وإقليمنا، وصولاً إلى عاداتنا واستهلاكنا ومأكولاتنا، من التوابل والحرير في قرونٍ ماضية ووصولاً إلى الأرُز والسكّر في القرن التاسع عشر. في الوقت ذاته، فإنّ سقوط السلالات المغولية في الهند، خلال القرن الثامن عشر، وانطلاق دورة الاحتلال البريطاني ونهب البنغال وما تبعها، كان ضربةً للعالم الإسلامي ونكبةً لا تقلّ عن سقوط السلطنة، بل لعلّها تفوقها أثراً بكثير.
منمنمة من القرن الخامس عشر

لو أنّنا - كتجربة ذهنيّة - نظرنا إلى هذه المنطقة من آسيا، بين الهند والمتوسّط، «من فوق» في مطلع القرن الثامن عشر - عصر «إمبراطوريات البارود» - لوجدنا المشهد التالي تقريباً: السلطنة العثمانية قد تجاوزت مرحلة توسّعها القصوى، وقد فشلت قبل أقلّ من عشرين عاماً في حصارها الثاني لفيينا، وهي لن تعيد الكرّة. تهميش الدولة العثمانيّة في عُقد التجارة العالمية قد اكتمل تقريباً، وأصبح العثمانيون يشترون التوابل والحرير الآسيوي من الأوروبيين بدلاً من أن يبيعوه لهم. كما أنّ الفوارق في الموارد والتكنولوجيا والديموغرافيا ستبدأ بالظهور أكثر فأكثر مقارنة بالجيران الأوروبيين الصاعدين.
أمّا إيران الصفوية، وهي هنا تعيش أعوامها الأخيرة، فهي تعاني بشكلٍ مزمن ممّا يسمّيه رودولف ماتي «لعنة الموارد». إيران هي بلدٌ ليس فيه احتياطات من الذهب أو الفضّة، فهو يحتاج بالتالي إلى التصدير من أجل الحصول على نقد. والبلد، في الوقت نفسه، لا يمتلك سلَعاً تصديرية مهمّة، اللهم الحرير وبعض المنسوجات، والحرير لا يُنتج إلّا في مناطق محدودة في الشمال. فوق ذلك، فإنّ من الصعب جدّاً أن تخلق «سوقاً وطنية» في الجغرافيا الإيرانية. يروي ماتي في كتابه عن الانحدار الصفوي («الانحدار الصفوي وسقوط أصفهان»، لندن، اي بي تورس، 2012. ولماتي، بالمناسبة، كتابٌ أقدم ممتاز عن التجارة والحرير في إيران الصفوية)، أنّ نقل البضاعة من أصفهان إلى مشهد، كان يستغرق أربعين يوماً على ظهر الجمال، ومثلها إلى قندهار. بينما الرحلة نفسها بين طهران وبندر عباس - عبر شيراز - تستغرق شهراً. من هنا، يشرح ماتي، ليس من الاقتصادي أن تتبادل موادَّ استهلاكية أو غذائية بين أطراف إيران، والشيء الوحيد الذي يمكن نقله بربحية هي السلع الغالية، كالحرير والمصنوعات. من هنا، كانت إيران تعاني باستمرار من نقصٍ وندرةٍ في الفضّة، وعجزٍ تجاري كبير مع الهند تحديداً (بينما كان لديها فائض نسبيّ في تجارتها مع العثمانيين والروس). بهذا المعنى، فإنّ التشظّي السياسي والجغرافي الذي طبع الحكم في إيران في تلك المرحلة، كان يوازيه تشظٍّ اقتصاديّ مشابه. كلّ مدينة إيرانية، يكتب ماتي، تأكل من إنتاج السهول التي تحيط بها، وتشكّل ما يشبه «الجزيرة» مع ريفها، ولا تتبادل مع باقي أرجاء البلد إلّا بالحدّ الأدنى. ونحن لم نذكر بعد أنّ ثلث سكان إيران، وقتها، كانوا بدواً لا تمتلك الدولة أي سلطة عليهم، وهي محاطة من كلّ جهات حدودها إما بأعداء أقوياء، كالدولة العثمانية وروسيا، أو بأقوام بدوية مقاتلة تميل للحرب والغزو (حين تقرأ ماتي، تصل إلى نتيجة بأنّ إيران الصفوية لم تشهد انحداراً فحسب، بل أنّ هذا الانحدار كان شبه محتّم، وأنّ من المستحيل أن تحكم بلداً كإيران في ذاك السياق التاريخي، وتبقيه موحّداً، إن لم يكن جزءاً من مشروع إمبراطوري أوسع، أو يقع على طريق تجارة دولي كبير).
أمّا الهند، ظاهرياً على الأقل، فإنّ حكّامها المغول كان لديهم «كلّ شيء»: موارد غير محدودة، رعايا كثيرون، جيشٌ مركزي هائل، ونمط تاريخي للتعاون بين مختلف فئات البلد، مسلمين وهندوساً وسيخاً. نحن نتكلّم هنا أساساً عن منطقة شمالي الهند الحالية، أي التي تمتد بين باكستان والبنغال، والتي كان يحكمها الشاه من دلهي. هذه المنطقة الجغرافيّة تتلقّى الأنهر الجبّارة التي تنبع من هضبة التيبت، وتمرّ هذه الأنهر في سهولٍ هائلة وخصبة، ولهذا هي تقدر، تاريخيّاً، على استيعاب كثافة سكانية هائلة. حين أمّنت السلالات المغولية لهذه الولايات قدراً من الاستقرار وحكم القانون (وهم جلبوا معهم تقاليد إدارية، فارسيّة أساساً، راكموها منذ أيام الايلخانة)، أصبحت الهند أكبر منتجٍ ومصدِّرٍ في العالم بلا منازع. يقول الباحث الاسكتلندي ويليام دارليمبل، إنّه كان من المستحيل على بلدٍ آخر أن ينافس الإنتاج الهندي وقتها. وهو يقدّر أنّ الهند أصبحت مسؤولة عن 25% من السلع التي تصنّع في العالم، وأنّ ناتجها القومي تفوّق على الصين في تلك المرحلة، ووصل إلى 40% من مجمل الناتج العالمي (أعتقد أنّ الرقم قد يفتقد إلى الدقّة، ولكنّه مؤشّر على حالة ذاك الاقتصاد الذي ظلّ، لقرونٍ، يصدّر كميات هائلة من السلع ويلتهم الفضّة بلا شبع، تأتيه من كلّ أرجاء العالم). هذا المجمّع الزراعي - الصناعي في الهند المغولية، كانت ترفده طبقةٌ مصرفية، تموّل مواسم الزراعة وتُقرض الدولة وتقيم شبكةً لتحويل الأموال بين أرجاء البلاد، على رأسها عائلة بنغالية أسبغ عليها الشاهات لقب «جاغات سيث» أي «مصرفي الدنيا»، وهم كانوا على الأرجح أكثر الأفراد ثراءً في العالم يومها.

الانهيار السريع
حين نتكلّم عن الهند، يجب أن نتذكّر أنّ التعبير هو نفسه مطّاطٌ وملتبس. لم يكن هناك شيءٌ واحدٌ، أو كيان واضح، اسمه «الهند» إلّا بسبب الاحتلال البريطاني وجمع كلّ أجزاء شبه القارة - للمرة الأولى - تحت سيطرةٍ واحدة. تاريخياً، الهند الحالية كانت عبارة عن فضاءٍ واسعٍ متنوّع، يحوي جملةً من الكيانات والحضارات والثقافات وهي، على الرغم من تواصلها وتفاعلها، فإنّ فكرة وحدتها العضوية أو أن تكون الهند كياناً موحّداً ضمن حدود «الراج» البريطاني، فهذا مفهومٌ حديث. تعبير «الهند» أصلاً يأتي من كلمة فارسية أخمينية، كانت تستخدم للإشارة إلى سكّان حوض نهر الاندس (أي باكستان الحالية وشرق أفغانستان). ولأنّ الياء في الفارسية القديمة تُقلب هاءً في السنسكريتية، فإنّ «إندوس» و«إندُستان» تصبح «هندوس» و«هندوستان». أمّا كلمة «هندي»، فهي كانت، في سياقات معيّنة، تشير فحسب إلى أهل الممالك الإسلامية في شمال الهند، بينما في حالاتٍ أخرى (وبخاصة في الاستخدام الأوروبي) تتّسع لتشمل شبه القارّة بأكملها، ومعها الهند الصينية والجزر والأرخبيلات في جنوب آسيا («اندو - نيسيا»)، وصولاً إلى السكّان الأصليين لأميركا.
كان «نجاح» الدولة المغولية أحد أسباب سقوطها. الشاه اورانجزيب، الذي حكم الإمبراطورية لفترةٍ طويلة في القرن السابع عشر، استخدم جيشه وموارده ليتوسّع بشكلٍ كبير في وسط الهند وهضبة الديكان ويهزم سلطناتها ويضمّها إلى مُلكه. غير أنّ هذا التوسّع السريع أوصل إلى سلسلة حروبٍ وثورات، ومن ثمّ حرب غوارٍ شنّها متمرّدو الماراثا الهندوس، كانت طويلة ومكلفة. ارتفاع الكلفة الأمنية للحفاظ على الدولة، اقترن بغارات الماراثا المستمرّة (بعضها وصل إلى أبواب دلهي) لتشكّل ضغطاً متزايداً على الدولة المركزية. كما أنّ تعصّب اورانجزيب وعنفه قد دمّر علاقة البلاط مع أكثر غير المسلمين في الدولة، هندوساً وسيخاً، بمن فيهم فئة الـ«راجبوت» المحاربة التي كانت تشكّل عماد جيشه، وما زال اليمينيون الهندوس اليوم يستحضرون أفعال اورانجزيب تحديداً لبناء سرديّتهم عن «الاضطهاد» الإسلامي للهندوس (راجع كتاب دارليمبل عن شركة الهند الشرقيّة: «الفوضى»، دار بلومبزبيري، 2019).
هذا الوهن ضاعفه الحظّ السيئ للسلالة، إذ تلَت عهد اورانجزيب، في بداية القرن الثامن عشر، مرحلة انقلابات وعدم استقرار سياسي، يتبدّل فيها أكثر من شاه خلال عامٍ واحد، حتى استقرّ الحكم على الشاه محمّد، وهو كان أسوأ شخصية ممكنة للتعامل مع الإرث الصعب لسلفه. الشاه محمّد كان، على عكس اورانجزيب، منفتحاً ومسالماً ومفتوناً بالآداب والفنون، ولكنّه كان جاهلاً بالكامل في شؤون الصراع السياسي والحرب (على سبيل المثال، يروي دارليمبل أنه حين غزا نادر شاه دلهي قادماً من إيران عام 1739، ونهبها وأفرغ الخزانة المغولية، وأصبحت الدولة على حافة التفكّك، والولايات بدأت تستقلّ عن المركز، أمضى الشاه ووزيره الأول الأشهر الحاسمة التي تلت الهزيمة وهم في حدائقهم في الريف خارج دلهي، يستجمّون ويصطادون السمك ويلاحقون الغزلان في السهول).
لولا هذه الاختلالات، لما تجرّأ البريطانيون وشركتهم في الهند، أو مثيلتها الفرنسية، على تحدّي السلطة وبناء جيوشٍ خاصة والتدخّل في السياسة. قبل هذه الأحداث بنصف قرن، حصل أن اصطدمت شركة الهند الشرقية مع الدولة، فقام الشاه بسهولةٍ وسرعة بهزيمة مسلّحيها، وتدمير حصونها، واحتلال كلكوتا وطردهم من الهند، قبل أن يسترحموه للعودة واستئناف تجارتهم. كما يقول دارليمبل فإنّه، حتى الثلث الأول من القرن الثامن عشر، لم تكن التكنولوجيا العسكرية الأوروبية أصلاً متقدّمة بشكلٍ واضحٍ على الشرقيين؛ وكان من المستحيل لقوة أوروبية أن تفكّر بمواجهة آلة الحرب المغولية في البرّ. أمّا بعد تفكّك الإمبراطورية إلى ولايات شبه مستقلّة، وتحوّل «نوّاب» الشاه إلى سلاطين، لكلٍّ بلاطه، بدأ الأوروبيون في الهند بالتسلّح وبناء أفواجٍ هندية تقاتل على النمط الأوروبي (الـ«سيبوي»)، «يؤجرونها» للكيانات المتصارعة ويتدخّلون في الانقلابات مقابل ثمن، بعدما اكتشفوا أنّ العائد من الحرب والغزو والنهب يفوق بكثيرٍ الأرباح التي كانوا يحصّلونها من التجارة (بل إنّ المحطّات التجارية التي تقع في حماية هذه الشركات أصبحت واحات سلامٍ واستقرارٍ في هندٍ مضطربة، واجتذبت الكثير من السكّان من المناطق المحيطة وتحوّل بعضها، ككلكوتا ومدراس، إلى مدنٍ ضخمة). حين وصلت شركة الهند الشرقية إلى السيطرة على كامل الهند تقريباً، في بداية القرن التاسع عشر، كان قد أصبح لديها ما يقارب الـ200 ألف جندي تحت السلاح، يأتمرون بأمر الشركة التجارية الخاصّة، وليس الدولة البريطانية حتّى - وجيش الـ«سيبوي» هذا كان، بالطبع، أكبر بأضعافٍ من الجيش البريطاني نفسه.
لم يكن هناك شيءٌ واحدٌ أو كيان واضح اسمه «الهند» إلّا بسبب الاحتلال البريطاني


أولى «الغنائم» البريطانية الكبرى في الهند، كانت إقليم البنغال الثري الذي وقع في أيديهم بدءاً من عام 1757 (رغم ضعف سلطة دلهي المركزية واشتعال الحرب في وسط الهند، وامتداد غارات الماراثا إلى البنغال نفسها، فإنّ الولاية شبه المستقلّة ومدنها العظيمة - داكا ومرشد آباد وغيرهما - كانت لا تزال مزدهرةً بشكلٍ كبير، وأهمّ أقاليم الهند اقتصادياً بلا منازع). والبنغال لم تسقط بفعل انتصارٍ بريطاني عسكري، فشركة الهند الشرقية، يومها، لم تكن تملك أكثر من مئاتٍ من الجنود في كلكوتا، بينما جيش البنغال «المحلّي» يعدّ أكثر من سبعين ألفاً. أمسكها البريطانيون بالصدفة وبالحيلة، عبر المشاركة في انقلابٍ ضدّ «نوّاب» البنغال وقتها، سراج الدولة، قادته عناصر في البلاط والجيش ومصرفيّي الإقليم، وقد استعانوا بالشركة البريطانية وجيشها الخاص لتنصيب حاكمٍ بديلٍ اسمه مير جعفر (وهو كان جنرالاً في الجيش عربيّ الأصل). بل يقول دارليمبل إنّ موظفي الشركة في الميدان، وعلى رأسهم روبرت كلايف، كانوا يرتجلون في اللحظة وينتهزون الفرصة، مخالفين تعليمات الإدارة في لندن التي كانت تنهاهم عن الاصطدام بسلطة المغول مباشرة.
قصّة «الانحدار» هذه، بعدما تحوّل حاكم البنغال إلى دمية نصّبها البريطانيون، تصبح مرعبةً وحزينة. انطلق موظفو الشركة وعملاؤها، على مدى سنوات، في سباقٍ لنهبِ البنغال والسيطرة على مواردها، يصفه المؤرّخ دارليمبل بأنّه كان عملية «تشليح للأصول» (asset stripping)، أي أنّ الإقليم الذي كان يستورد الفضّة ويخزّنها على مدى قرون، أصبحت الفضّة تخرج منه بكمّيات كبيرة إلى خزائن البريطانيين. روبرت كلايف، الذي قاد قوات الشركة في المعركة الفاصلة ضدّ سراج الدولة، عاد إلى أوروبا بعدها بغنيمة جعلته - بحسب دارليمبل - من أكثر الأفراد ثراءً في أوروبا، بينما أصبح وكلاء الشركة هم بمثابة القانون في البنغال، وقد كانت الثروات التي جمعوها هناك وقوداً لتعزيز التوسّع العسكري لشركة الهند الشرقية. في هذه الأثناء، كان تدمير الاقتصاد المحلّي يحصل بوتيرةٍ جعلت الإقليم ينتقل من حالة الثراء إلى مجاعةٍ كارثية، خلال سنواتٍ قليلة، عام 1770، قتلت الملايين وغيّرت وجه البنغال إلى الأبد. حتّى أنّ مدناً كبيرة مثل مرشد آباد خُرّبت في تلك المرحلة العصيبة، ولم تعُد إلى التعافي بعدها.

سقوط أصفهان وصعود النجف
حتى عام 1722، لم تكن أصفهان هي العاصمة الصفوية فحسب، بل كانت أيضاً المركز الأوّل للتعليم الديني الشيعي، وفيها عشرات المدارس ومئات المساجد وأهم العلماء. والمؤسّسة الدينية فيها كانت بالغة الثراء؛ لديها أوقاف ضخمة، الدولة تكرّمها وتسبغ عليها، وبفضل التبرّعات والمصاهرة، يمتلك الشيوخ الكبار أراضي واسعة وخصبة في السهول حول أصفهان (وكانت المدرسة الأصولية - التعبير يأتي من «أصول الفقه» - سائدةً فيها، بينما المدرسة الأخبارية المنافسة تهيمن يومها في العراق العثماني). سقوط أصفهان السريع والدراماتيكي، عام 1722، على يد القبائل الأفغانية الغازية، كان بالنسبة لهذه الطبقة الدينية بمثابة «نهاية للعالم»، أو لعالمهم القديم على الأقل: نُهبت أوقافهم وأملاكهم، خسروا مواردهم التقليدية والدولة التي ترعاهم، وتهجّر أكثرهم، إما إلى العراق أو إلى الهند أو إلى مدنٍ ثانوية في إيران، بعدما عصفت بالبلد، إثر السقوط، مرحلة طويلة من العنف والقلاقل دمّرت أكثر المدن الرئيسية وأدخلتها في حصاراتٍ واحتلالات متوالية. كما أنّ إيران، في المرحلة الانتقالية بين الصفويين والقاجار، حكمتها جملة من السلالات غير الشيعية (الغزاة الأفغان ثم نادر شاه أفشر ثم الزند) كانت إمّا تعادي المؤسّسة الشيعية أو تستنكف عن دعمها ورعايتها. خلال دوامة السقوط هذه، كان للهند - وللمال الهندي تحديداً - دورٌ مركزي في إعادة تكوين هذه الشبكة الدينية التي تفرّقت مع سقوط أصفهان (وعلى أساس عابر للدول هذه المرّة، وبموارد جديدة) وفي تكوين المذهب الشيعي بشكله التاريخي الحالي.
للأكاديمي خوان كول بحثٌ مثير (دراسات إيرانية، خريف 1985) يتتبّع فيه خمسة أجيال لأسرة علمائية كبيرة، بدءاً بالملّا محمد تقي - مجلسي (خطيب الجمعة في أصفهان في القرن السابع عشر) وانتهاءً بالمرجع البهبهاني في القرن الثامن عشر الذي صار في النجف وأشرف على صعود المدرسة الأصولية فيها لتكون، قبيل وفاته، قد انتصرت بشكلٍ شبه كامل على الأخباريين في معقلهم السابق (حين توفّي الشيخ يوسف البحراني، آخر كبار المشايخ الأخباريين في النجف، صلّى عليه خصمه - وتلميذه السابق - البهبهاني، فيما يشبه إشارةً رمزية إلى انتهاء الخلاف مع الموت، وأنّ الصراع بين الفريقين قد حُسم). الفكرة هنا أنّه، بين سقوط أصفهان وصعود المؤسّسة الدينية من جديدٍ في النجف، مرّ أكثر من نصف قرنٍ حاسمٍ لعبت الهند خلاله دوراً محورياً.
مع ضعف سلطة دلهي، واستقلال الولايات الهندية عنها، خرج بلاطٌ شيعيّ في دولة «اود» الكبيرة والمزدهرة (توازي حالياً ولاية أوتار براديش)، وقد لجأ إليها الكثير من الشيوخ وعائلاتهم والإداريين والأدباء بعد خراب أصفهان، ووجدوا مكاناً في البلاط ومؤسّسات الدولة. أهمّ من ذلك، كان لـ«اود» مرفأ تجاري على خليج البنغال هو بندر هوغلي، كان أكثر أهمية من كلكوتا قبل الاحتلال البريطاني، ويحظى التجّار الإيرانيون والشيعة العرب فيه بمعاملة خاصّة وتسهيلات، فنشأت بسرعة - بعيد الانهيار الصفوي - شبكة تجارية جديدة تمتدّ بين البنغال وبندر عباس والبصرة، وأصبح تجّارها (هنوداً وفرساً وعرباً) من أهم مصادر الدخل والتبرّعات للعلماء الأصوليين، الذين استقرّ العديد منهم في النجف (كانت المدرسة الأخبارية ترفض إعطاء المؤسّسة الدينية حقّ جمع الخُمس والزكاة، أو الاجتهاد، أو إقامة صلاة الجمعة وإعلان الجهاد، فهذه كلّها عندها من مهام الإمام الغائب وحده ولا يحقّ لأحدٍ أن ينوب عنه فيها).
بل إنّ النجف نفسها ما كانت لتصبح مدينةً كبيرة ومركزاً علمياً رائداً لولا الدور الهندي في هذه المرحلة. النجف تاريخياً مدينة صغيرة، وعدد سكانها في بداية القرن الثامن عشر تقلّص بحسب الرحّالة إلى المئات فحسب؛ وهذا طبيعي، فالنجف في الصحراء بعيدةٌ عن الماء ولا يمكنها، في غياب مشاريع مكلفة لنقل مياه النهر إليها، أن تعيل كتلةً سكانية كبيرة أو أن تقوم حولها زراعة وتجارة. هذا ما فعلته دولة «اود» حين تبرّعت لبناء «قناة الهندية» التي سمحت للنجف بالنمو والتطوّر بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر (في الوقت نفسه، قامت «اود» بما يشبه «عملية إعادة تخطيط حضري» في بغداد حول منطقة المقام، وبنت فيها شوارعَ وأسواقاً وخدمات). وهذه مشاريع كبرى، تحتاج إلى مجهود دولةٍ لتمويلها، ولا تكفيها تبرّعات المؤمنين وتجّار البازار، وفي غياب الدولة الصفوية كانت «اود» هي البديل الوحيد الممكن. على الهامش هنا: قدّم نادر شاه، عن غير قصد ربّما، خدمة كبرى للحوزة في العراق. حين تفاوض مع العثمانيين على الخروج من العراق، ضمّن في المعاهدة شرطاً مفاده أنّ الإيراني، إن دخل العراق للزيارة وهو لا يحمل بضاعة، فلا يحق للدولة العثمانية أن توقفه أو تفرض عليه مكوساً، وكان لذلك كبير الأثر في تنشيط شبكة الزيارة إلى المدن المقدّسة في الفترة اللاحقة، وتحويلها إلى تقليدٍ شائع وجماعي.
في أواخر هذا القرن المضطرب، الذي تنحدر فيه دولٌ وتعمّ الفوضى في أقاليم لتصعد مكانها قوى جديدة ومدن بديلة، حلّ طاعون عام 1773 المدمِّر على العراق. الوباء، بالمناسبة، كان ضربةً حقيقية للمدن والاقتصاد في العراق العثماني، وهو كان أصلاً قد أوهنته سلسلة من المصائب والحروب على مدى أكثر من ثلاثة قرون، أقلّه منذ تخريب بغداد على يد تيمورلنك. بحسب جوان كول، حصل يومها خلافٌ يستحقّ أن يُروى، يشبه النقاش الحاصل اليوم حول الوباء والعزل والكمّامات. بدأ الكثير من سكّان المدن في العراق بهجرتها خوفاً من الطاعون، ففرغت المدن وبدأ البدو بالتوسّع نحوها، فحاولت السلطات المملوكية إجبار الناس على البقاء في مدنهم. بحسب كول، قام المرجع البهبهاني يومها (ومدرسته تعتبر المدرسة «العقلية») بإمرة تلاميذه بأن يرتحلوا إلى مدنٍ وأرياف بعيدة عن الوباء، باعتبار أنّ التوقّي في مثل هذه الحالة هو واجبٌ شرعي، وبخاصة أنّ المقامات تستجلب الزوار والاختلاط وتكون نسبة الانتشار والوفيات فيها مرتفعة للغاية. من جهةٍ أخرى، امتثل الأخباريون لأمر الدولة، وهم أصلاً يرفضون السببيّة العلمية في شأن المرض، وظلّوا في النجف وكربلاء وبغداد. عند انقضاء الوباء بعد سنتين، يروي كول، صمدت أكثر دائرة البهباني واستمرّت وما زال تلامذتها قائمين إلى اليوم، فيما حصد الطاعون أغلب الأخباريين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا