سأحدّثكم عن جورج حجّار. هذا لبناني غير معروف منكم، وله أيادٍ بيضاء في الثورة الفلسطينيّة، وفي انتفاضات في جامعات ونقابات كندا وأميركا. لكن قبل أن أتحدّث عن جورج حجّار، أريد أن أقرّعكم، واحداً واحداً وواحدة واحدة، لأنّكم لم تسمعوا به بعد. تبّاً لكم ولكنّ. أعرف أنّ ثقافة لبنان فاسدة وموبوءة، وأنّها ترفع حقراءً وأتباعاً للاستعمار والاحتلال إلى مرتبة القدّيسين، فيما يقبع أبطال وطنيّون- أحياء وشهداء - في غياهب الطمس والنسيان. كيف هناك جادة باسم شارل مالك وتجهل أجيال لبنانيّة جورج حجّار؟لم أعرف جورج حجّار ولم ألتقِ به. كنتُ أراه على الشاشات وأقرأ له مقالات وكتباً. وعندما كان يظهر على «الجزيرة» كنتُ أُلاحظ أنه مكبوت، وأنّ جهل العالم العربي بتجربته الثورية الثريّة ظلمٌ فظيع له - وهو كذلك. وكان يذكر تخرّجه من جامعة «كولومبيا» في الفكر السياسي، وطرده من أميركا في أواخر الستينيّات. وكنتُ أسمع ذلك، وأعبّر عن شكوكٍ لما يُعرف عن اللبناني من نزع نحو التبجّح والمبالغة. لكن قررتُ، في حينه، أن أبحث في الموضوع وصدمني ما اكتشفتُ: أنّ جورج حجّار ثارَ قبل أن تصبح الثورة شائعة (لفظيّاً) عند المثقّفين العرب، بعد عام 1967.

جورج ثارَ قبل الهزيمة، وازدادت ثورته بعد الهزيمة ولم تسكن عبر السنوات. جورج حجّار طارد بن غوريون في مطارات كندا، في عام 1960. جورج حجّار ما عمل في جامعة، إلّا وطُردَ منها بسبب شجاعته وإقدامه وثورته التي لا تستكين. تحدّث إدوار سعيد عن دور المثقّف في بثّ «رسالة» للعموم. حجّار فهم أنّ دور المثقّف يكمن في التحريض الثوري، ولم تصدّه عن ذلك موانع - لا مادّية ولا معنوية. حجّار أشجع مثقّف عربي عاش في أميركا وكندا، من دون منازع. هذا مثقّف جاهر باليسارية الماركسية الثورية في زمن لم تكن المكارثيّة فيه قد ماتت بالكامل. حدّثني مرّة زميل ماركسي عن تجربته كأكاديمي ماركسي، فقال: تصوّر أن تكون ماركسيّاً في السبعينيّات أو الثمانينيّات. حجّار كان ثوريّاً قبل ذلك، في زمن جي. إدغار هوفر، في «مكتب التحقيقات الفدرالي». لا كندا تحمّلت حجّار (حيث طُرد من جامعة واترلو اللوثرية)، ولا أميركا تحمّلته إذ طردته بعدما أشعل ثورة في «الجامعة الجنوبية في نيو أورلينز». وعندما أقول إنّه أشعل ثورة أعني ذلك. أشعل حجّار ثورة طلّابية سوداء، وبات دوره مكتوباً في تاريخ حركة الحقوق المدنية في ولاية لويزيانا.
يسرُّ المحاضر أن يسمع تصفيقاً في نهاية محاضرته، دليلاً على قبول الحضور لكلمته. لا، لم يكن هذا طموح جورج حجّار. حجّار لم يكن ليرضى بعد إلقاء محاضرته بأقلّ من تحريض الطلّاب على الثورة، والانطلاق بعد انتهاء المحاضرة لاحتلال مبانٍ، أو مطاردة قوّات شرطة، أو احتجاز حاكم الولاية، كما جرى في تجربته في نيو أورلينز. لم تتّسع جامعات كندا له، فما كان من جامعة للسود في نيو أورلينز، إلّا أن وجّهت دعوة له للتدريس فيها. لكنّها لم تكن تدري من دعت، وهالها التعرّف إليه عن كثب. الرئيس الأميركي السابق، جيرالد فورد، صرخ - قبل أن يصبح رئيساً - من الكونغرس الأميركي غاضباً، عن هذا الأكاديمي العربي الذي يجرؤ على اعتقال حاكم الولاية. سمعت قيادة الجبهة الشعبية بجورج حجّار في الستينيّات، ورتّب الشهيد باسل الكبيسي أمر زيارته إلى بيروت، بعد طرده من أميركا وتعثُّر حصوله على وظيفة جامعيّة في كندا، أو في أيّ دولة غربيّة. حجّار، خلافاً لنا جميعاً، ضحّى بكلّ شيء مقابل قناعاته ومبادئه، ومن دون تنازل أو هوادة. ليس للحياة قيمة من دون فلسطين، عند حجّار.
يروي حجّار سيرته في كتاب «الثوري التائه في عامل متحوّل»، لكنّ الكتاب أصغر من تجربة حجّار. كان يمكن لو أن تشارك في كتابتها مع شخص آخر، ربما لأنّه يمرّ في عجالة على أحداث وشخصيّات مهمّة جداً. كيف يمكن أن يمرّ عرضاً على أشخاص قابلهم وعرفهم، من طراز غسان كنفاني وجورج حبش ووديع حدّاد وأنيس صايغ؟ لا، بل إنّ الرفيق جورج نفرَ من كنفاني. وهنا المشكلة في تجربة جورج: حتى الجبهة الشعبية في عزّها - لا في ترهّلها وشيخوختها - لم تتّسع له. والأسباب بعضها شخصيّ وبعضها الآخر سياسيّ عقائديّ. استشرف حجّار الوضع مبكراً، ورأى معالم خيانة القضيّة مبكراً، وحذّر في مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر، في عام 1974 (الذي حضره بصفة مراقب، ص. 7 - 8) من إمكانية تشكيل مشروع «جمهوريّة أريحا» بعد تمرير البرنامج المرحلي. كان حجّار أكثر دقّة وصواباً من قيادة الجبهة الشعبية، في تقدير الخطر الداهم. صحيح أنّ الجبهة شكّلت، مع غيرها، «جبهة الرفض» في ذلك الحين، لكنّها سرعان ما رضخت لتحويلها إلى جهاز بيَد صدّام حسين يستخدمها كما يشاء، ويحلّها عندما شاء ذلك، في عام 1977.
عاش حجّار شظف العيش مبكراً، ويروي طفولته بصدق ومن دون استعطاف. ولم تبدر شكوى من جورج في رواية إفقار العائلة، لكنّه حزن عندما باع جدّه جدّياً، لأنّ جورج كان يناطحه (ص. 17) - لا تتعجّب أنّ جورج نشأ على مناطحة جدي. وجميل أن تقرأ جورج حجار وهو يروي أحداثاً سياسيّة عاصرها أو شاهدها، لأنّه لا يجمّل ولا يجامل ولا يهادن. رجالات الاستقلال اللبناني؟ لا، هؤلاء عند جورج «أذناب» (ص. 23) المستعمر، وهم بالفعل كانوا ذلك. وقرّر والد جورج أن يضعه في دير المخلّص رغبةً منه في تحويله إلى راهب (ص. 31). لكن من يحبس جورج في دير، هذا الذي عجزت حكومات الغرب والشرق أن تسيطر عليه؟ أرادوا في الدير أن يُخضعوا جورج، كما يخضعون غيره، لكن هيهات. ضاق العيش بجورج وهرب من الدير مشياً على الأقدام، وعاد إلى بلدته القرعون في البقاع.
وفي عام 1952، هاجر جورج إلى كندا، وبدأت رحلة زاوجت بين العمل اليدوي وانتهت في تبوئه مناصب أكاديميّة لم تدُم بسبب عناده المبدئي. عمل في مطعم، ومسَح أحذية، لكنّه ثابر على تعلّم الإنكليزيّة وتفوّق في الدراسة. لكنّه خلافاً لهشام شرابي في سيرته في «جمر ورماد»، لا يشارك الكاتب المديح الذي تلقّاه من أساتذته، بل يقول لك إنّ الأستاذ كتب على ورقته «ما هذه الخبيصة»؟ (ص. 70). وهنا يصعب الجمع بين لغة الثورة واللغة «الأكاديميّة» التي تُفرَض على التلميذ (ذكّرني ذلك في سنواتي في الجامعة الأميركيّة، عندما كتب رشيد الخالدي على ورقة بحث أعددتها أنها «مانيفستو» (منشور أو بيان) وكان مقصد رشيد الحسن أن يعينني على الانسجام مع متطلّبات الدراسة الجامعيّة والترقّي فيها).
عندما تتعرّف إلى سير المثقّفين العرب في الغرب، تجد أنّ معظمهم (مثل إدوار سعيد وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد) ما انصرفوا إلى النشاط السياسي، إلّا بعد هزيمة 1967. جورج حجّار كان ساخطاً ثائراً قبل سنوات طويلة من هزيمة 1967، وحضر جلسة في مجلس النواب الكندي، في عام 1961، حيث صرخ مُطالباً الحكومة الكنديّة بوقف مشروع القنبلة النووية الإسرائيلية. وبلغ من ثوريّة جورج أنّ خطيبته باتت تعترض على نشاطه، خصوصاً أنّه ما تظاهر أو خطب إلّا ولفت أنظار الصحافة بسبب تطرّفه - أو بسبب صوابيّة رؤيته الاستشرافيّة. الخطيبة شعرت بحرج عندما صدرت الصحيفة الكندية، وفيها صورة لجورج حاملاً يافطة كُتب عليها «فليسقط جنرالات النازيّة» (ص. 88) عن الإمبريالية الأميركية وحروبها. يسمّي جورج نشاطه هذا بـ«التسلية السياسية» (ص. 86). رُزق جورج بصبي، في عام 1963، وأطلق عليه اسم برتراند حجّار تيمّناً ببرتراند راسل. حصل جورج على الدكتوراه من جامعة كولومبيا في عام 1966. ولو أنّ جورج لم يكن ثائراً متطرّفاً، لكان قد تلقّى عرضاً بالعمل الفوري في الجامعة الأميركية في بيروت، لكنّ الجامعة ما كان يمكن أن تتحمّل هذا الثائر، ولا يمكن لها أن تتحمّله الآن. حتى الجامعات العربية، في الدول العربية التي كانت تعتبر نفسها ثوريّة (مثل العراق والجزائر) لم تتحمّل جورج. بعدما حورِب حجّار من قبل الصهيونية الكندية، وطُرد ظلماً من وظيفته في الجامعة، حطّ في جامعة ذات أغلبية سوداء في نيو أورلينز. سمعوا عن هذا الذي كان يشعل جامعات كندا بحركات التمرّد والانتفاض، وأرادوا أن يُصابوا بعدواه في زمن انتفاضة السود في أميركا.
جورج حجّار الثائر العالمي الذي لم يترك منطقة مرّ بها تعتب عليه في الثورة والتمرّد


لا أبالغ في قولي إنّ اسم جورج حجّار يسطع في تاريخ حركة حقوق السود في ولاية لويزيانا. هاكم شهادة المؤرِّخ آدام فيرلو في كتابه «العرق والديموقراطية: نضال الحقوق المدنية في لويزيانا، 1915 - 1972». يقول فيرلو عن حجّار إنّ فئة من المحافظين بين الأساتذة السود، لجأت إلى مناشدات عنصريّة فجّة فقط من أجل تقويض مصداقية جورج حجّار. ويعرّفه المؤرّخ على أنّه «أستاذ علوم سياسيّة عربي - أميركي، الذي تمتّع بصيت وتأثيرٍ بسبب تنديداته الناريّة» مثل: «النيغرز الفاشيون ونيغرز المنازل والبورجوازيّة السوداء المازوشيّة والليبراليّون البيض» (ص. 433، وكلمة «نغرز» لها تاريخ تحقيري من قبل البيض ضدّ السود، وهي تُستعمل أحياناً بين السود أنفسهم للتحبّب الشبابي أو لتحقير ذوي النفوس الضعيفة بينهم في التعاطي مع العنصرية البيضاء). حجّار سبق زمانه في تحذيره من خطورة الخطاب والاتجاهات الليبرالية البيضاء. ذهب إلى الأخير في مناصرته لقضايا السود، واختاره قادة الانتفاضة لاحتجاز الحاكم، وهل يمكن لهذا الثائر أن يرفض طلباً من الثائرين، ولو كان ذلك عبر وضعه في موقع المواجهة المباشرة؟ هاكم هذا الأستاذ الجامعي لا يتورَّع عن أن يقول لحاكم الولاية بعد احتجازه: «أرجوك أن تأتي معنا وأنا أضمن سلامتك» (ص. 128). يكفي أن تعرف عن هذه الحادثة كي تتعرّف إلى المدى الذي ذهب إليه حجّار لممارسة قناعاته من دون مساومة. عندها تدخّلت الدولة البوليسية، وطاردوا حجّار بالطوّافات ورموه في السجن. هذه حوّلته إلى بطل حقيقي لنضال الحقوق المدنيّة في الولاية وخارجها. وكانت سمعة حجّار تنتشر بين الطلّاب العرب، الذين كان حماسهم بعد حرب حزيران في أوجِّه، وكانت مهادنة الأساتذة الجامعيّين العرب تنفّرهم. لهذا، فإنّ المؤتمر السنوي للطلّاب العرب في لونغ بيتش، في عام 1970، اختار حجّار خطيباً أساسيّاً.
عاد حجّار إلى كندا وكان أشرس مناهض للصهيونيّة هناك، إلى درجة أنّك تجد كتابات ضدّه اليوم على بعض المواقع الصهيونيّة. قيل لجورج يومها - في حمأة معاداة الشيوعيّة - «كن شيوعيّاً صينيّاً ولا تكن ضد إسرائيل» (ص. 121). وهذه المعادلة لا تزال سارية هنا. ولقد شارك حجّار في تأسيس أولى منظّمات العمل العربي المشترك في كندا، كما ساهم في تأسيس منظّمات طلّابية وسياسية ثورية. ضاقت الدنيا بنيران حجّار. لكن قبل أن يترك كندا، في عام 1972، قاد تظاهرة في العاصمة أوتاوا، وأحرق العلم الأميركي (ص. 161).
وبعدما سُدَّت أبواب كندا وأميركا في وجهه، عاد حجّار إلى لبنان بعدما كان قد تعرَّف إلى قيادة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، في زيارات سابقة. لم تطُل تجربة حجّار في قيادة الجبهة: لم تكن التجربة ممتعة للطرفَيْن، وسألتُ عن ذلك مَن عرفه. أتى حجّار بمسحة من التكبّر الثقافي النخبوي في تواصله مع قيادة الجبهة. وهو، مثلاً، يذكر دوماً في إطلالاته أنّه خرّيج جامعة كولومبيا. لكن يا رفيق جورج: أنتَ كتبتَ عن الدور القمعي الخطير للجامعات، ولك كتاب بالإنكليزيّة عن الجامعة «كمكان عبوديّة»، فكيف يمكن أن تعتبر شهادة الجامعة النخبويّة مصدر اعتزاز أو تكبُّر؟ ثم إنّك، يا رفيقي، تقول عن غسان كنفاني ورفاقه إنّهم «أناس جهلة» في مناقشتهم لكتابك، وسخرتَ من إنكليزيّة ياسر عبد ربّه. لكن، يا عزيزي جورج: ما قيمة شهاداتنا العالية من جامعات نخبويّة غربيّة أمام مقالة لغسّان في «الهدف»، أو تصميم له لملصق أو مقابلة له، وبالإنكليزيّة مع صحافي أجنبي؟ وهناك ألف سبب وسبب للاعتراض على ياسر عبد ربّه غير لغته الإنكليزيّة الركيكة (طبعاً، ما كان على ياسر عرفات اختياره لتدشين الحوار بين منظمة التحرير والإدارة الأميركيّة، لكن هل قدّر عرفات يوماً الكفاءة فوق الولاء؟).
كان حجّار يعمل على نشر سيرة ليلى خالد، لتعريف الرأي العالمي بالقضيّة الفلسطينيّة (انتشر الكتاب بقوّة وتُرجم إلى لغات عدّة). واعترض غسّان كنفاني وقيادة الجبهة على مخطوط حجّار، ما أثار حنقه. ويقول لي الرفيق نوبار هوفسبيان، الذي عرف حجّار في تلك المرحلة، وسكن معه في شقّة واحدة، إنّ العلاقة بين حجّار والجبهة لم تصلح. كان حجّار يتوقّع أن يصبح قيادياً فوراً، بسبب مؤهّلاته الأكاديميّة، فيما كانت قيادة الجبهة ترى أنّ عليه أن يمرّ - مثله مثل غيره - في السلّم التنظيمي الإعدادي لأعضاء الجبهة. وكان حجّار فوقيّاً في التعامل. لكنّ وديع حدّاد قدّره وحاول أن يستفيد من معرفته وقدراته.
وحطَّ حجار رحاله في مركز الأبحاث الفلسطيني، لكنّه لم ينسجم مع أنيس الصايغ. والصايغ (مثل خير الدين حسيب في «مركز دراسات الوحدة العربيّة») كان ينفر من إدارة المركز بطريقة عشوائيّة أو قليلة الانضباط، حتى أنّ الصايغ منع القهوة والتدخين في المكاتب. انزعج الراحل أنيس لأنّ حجّار كان يسطّر على صفحات كتب مكتبة المركز. لكن لو أنّ حجّار صبر قليلاً على الصايغ لأدرك أنّه شريكه في الجذريّة السياسيّة (ومات جذريّاً رفضيّاً)، خصوصاً أنّ جورج تعرّض - كما يقول (ص. 195) لحملة من قبل هشام شرابي وإبراهيم أبو لغد، لأنّه كان يعارض نهج التسوية (شرابي، مثل إدوار سعيد، تغيّر عبر السنوات وأصبح أكثر جذريّة في سنواته الأخيرة). وعندما استُبعد عن ندوة في المركز اعترض، وبحقّ، فاستدعاه كمال عدوان إلى جلسة نقاش. وكان موقف جورج واضحاً وصادماً للمستمعين. دعه يروي لكم ما قاله للحضور: «في حال أنّ القمع والاستئصال قادمان (إلى لبنان) فعلينا أن نحرق (شارع) الحمراء» (ص. 196). طبعاً، لم يكن كلامه موقع ترحيب من قِبل «فتح» التي قاومت (وعن خطأ قاتل) الانجرار إلى الصراع اللبناني الذي انتهت فيه مُرحَّلة قسراً عن لبنان، في صيف 1982، بعد كمّ من الخطأ والآثام.
خيّر أنيس الصايغ حجّار، بين العمل في المركز والعمل في المقاومة، فقرّرَ وديع حدّاد أن يتفرّغ جورج للعمل في الجبهة في عام 1972. وشارك في تنظيم مشاريع نشر وطباعة عديدة، بعضها أثمر وبعضها الآخر لم يثمر. وبعد استشهاد غسّان كنفاني، أعدّ حجّار كتاباً بالإنكليزيّة عنه، لكنّه ضمّنه نقداً صارماً لتجربة المقاومة، وألمح إلى أنّ غسّان كان سينتحر لو عاش لسنّ الأربعين. الكتاب لم يرَ النور. يعترف حجّار أنّه كان يتوقّع أن يُعيَّن في اللجنة المركزيّة، أو اللجنة التنفيذيّة للإعلام (لكن بسام أبو شريف وتيسير قبّعة نقضا القرار، ص. 201). من المؤسف أن يقرِّر تيسير قبّعة مصير هذا الثائر المبدئي النقي، لأنّ حجّار استقال من الجبهة من دون ضجّة. ثمّ قرّرت منظّمة التحرير الاستفادة من قدراته، في «لجنة الإعلام الموحّد»، لكنّ حجّار سرعان ما اصطدم بماجد أبو شرار، الذي اتّهمه بتحقير «الأخ القائد العام للثورة أبو عمّار» (ص. 210). (لم ينسَ حجّار أن يذكر أنّ إنكليزية أبو شرار كانت متواضعة).
ثم حلَّ حجّار في جامعة الكويت، لكنّ الإقامة لم تطُل هناك أيضاً. إذ هو كتب في مجلّة «الرسالة» ضدّ النظام السعودي. اعترض وزير الدفاع والأمن (من آل الصباح) وصاح بعميد الجامعة: «شلون مسيحي وشلون شيوعي وشلون يشتم قرايبنا» (ص. 231). طُرد حجّار من الكويت، لكن ليس قبل أن يلقي في قاعة المحكمة خطبة ثوريّة عصماء، قد لا تكون قاعات المحاكم في الكويت قد شهدتها قبل وبعد ذلك. عندها، قبل حجّار دعوة من جامعة العراق للعمل في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة فيها. لكن أحداً لم يقدّر مواهب واندفاع حجّار، وكانت البيروقراطيّة القمعيّة السائدة عائقاً أمام طموحاته الثوريّة، في بلدٍ كان يومها يدّعي الثوريّة و«الرفض». وهناك نشر بحثه عن «جمهوريّة أريحا»، وهذا البحث يجب أن يُسجَّل كإنجاز لحجّار لأنّه استطاع استشراف المستقبل، أفضل بكثير من كلّ عناصر ومنظّمات جبهة الرفض. تركت تجربة العراق في نفس حجّار علقماً، وعلّق بغضب قائلاً: «إنّ بغداد العرب هي بغداد المرتزقة والانتهازيّين وباعة المنشورات الوهميّة» (ص. 278). في بغداد، حافظ حجّار على علاقته بوديع حدّاد، لكنّه لا يُسهب في الحديث في رسم صورة الشخصيّات المؤثّرة التي عرفها. نكتشف منه أنّ حداد كان مريضاً، وأنّه عانى منذ عام 1971، من الإحباط والشعور بالإخفاق (ص. 292). وشارك حجّار في التخطيط لعمليّة مقديشو. وعندما مات حدّاد، قال حجّار فيه إنّ «ربع المقاومة قد استشهد دفاعاً عن الحق العربي» (294). وفي عام 1977، شارك حجّار في تأسيس «الحركة الثوريّة العربيّة». حاول «كارلوس» استمالة حجّار بالنيابة عن صدّام حسين، لكنّ حجّار رفض. تجربته العراقيّة أفقدته أيّ أوهامٍ عن الإمكانات الثوريّة للنظام العراقي.
وفي عام 1978، طار حجّار إلى الجزائر ليعلِّم في جامعتها، لكنّه سرعان ما اصطدم بالتيارات الأمازيغيّة القويّة في الجامعة، ولم ينقذه استقطابه للطلّاب العروبيّين في الجامعة. ويبدو أن السلطات خافت منه هي أيضاً ورحّلته، بعدما صادرت منه ما حمله من أموال، وعاد إلى لبنان حيث علّم في الجامعة اللبنانيّة - فرع البقاع. لكنّ حجّار لم يستكِن أو يهادن. كان من الأوائل الذين نادوا بالمقاومة ضد العدوان الإسرائيلي، في عام 1982. وجورج صاغ شعار «فلسطينيّو اليوم وأرمن الغد إن لم نقاتل» في 3 تمّوز/ يوليو 1982 (راجع جورج حجّار، «الاجتياح الإسرائيلي للبنان والمقاومة المسلّحة»، ص. 16).
جورج حجّار، الثائر العالمي الذي لم يترك منطقة مرّ بها تعتب عليه في الثورة والتمرّد. هذا الذي أشعل انتفاضات وحركات تمرّد، وساهم في المقاومة، يعيش متقاعِداً في القرعون. كيف لا تتسابق وسائل الإعلام على إجراء مقابلات معه لتعرّف جيلاً جديداً عليه؟ هؤلاء الذين يهتفون «ثاوثاو» لم يسمعوا قطّ بجورج حجّار. أنا وأنتم ممتنّون لجورج حجّار. حثّ كارل ماركس الفلاسفة على تغيير العالم لا على تفسيره، وحجّار غيّر العالم، أكثر من مرّة وفي أكثر من مكان. ماذا تريدون منه أكثر من ذلك؟ كلّنا نصغر أمام تجربة جورج حجّار.

* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا