مئة عام مرّت على إعلان المندوب السامي الفرنسي هنري غورو، والبطريرك إلياس الحويك، والمفتي مصطفى نجا، قيام دولة لبنان الكبير من قصر الصنوبر في بيروت، وذلك بعد انهيار السلطنة العثمانية التي استمرّت إدارتها لشؤون المنطقة نحو 400 سنة. وكان السلطان سليم الأول قد أخضع بلاد الشام لسلطة الباب العالي، في مطلع القرن السادس عشر، ومنذ ذلك الحين نظّم العثمانيون إدارة شؤون الساحل السوري، وتكوّنت علاقات شائكة ومتناقضة أحياناً بين المجموعات المختلفة التي تسكن جبل لبنان وسهل البقاع ووادي التيم مع الحكم العثماني.
من مشروع مشترك بعنوان XAOS للفنانين الهولنديين نِك ليافبر وجوست ستوخوف

قضت الحرب العالمية الأولى على «الرجل المريض»، وحلم العرب بتأسيس البديل من المحيط إلى الخليج. لكن الأحلام تبدّدت وتحوّلت أحياناً إلى كوابيس صنعتها مآرب القوى الغربية المتسابقة لتقاسم المغانم من السلطنة المنهارة، ومنع العرب من توحيد صفوفهم لإعادة بناء قوة كبيرة في الشرق تمنع الغرب من استغلال موارده.
أمّا لبنان الكبير، لم يفلح في تكوين نفسه بمفهوم جامع، إذ تغلّبت الطوائف وبارانويا الأقليات على ركائز الجمهورية الديموقراطية. وبرعاية وإشراف عسكري فرنسي، صنع زعماء المجموعات المختلفة دولة تعتمد توزيع الحصص على الطوائف. وسبقت انتخابات المجلس التمثيلي، على أساس طائفي، صياغة دستور عام 1926، فكرّست التقاسم الطائفي للسلطة. فمنذ عام 1920، مروراً بجلاء الجيش الفرنسي عن لبنان بعد عام 1943، قامت جمهورية في لبنان بجمهور مقطّع الأوصال.
وبالرغم من محاولات جمع الطوائف تحت سقف واحد، تغلّبت الانتماءات الفئوية على الهوية الوطنية الجامعة. وصحيح أنّ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، شهدت مساعي بناء دولة القانون والمؤسّسات وتطوير الإدارة العامة، إلّا أنّ التنافس الطائفي والخلافات العميقة بشأن الهوية والانتماء والتوجّه السياسي والعقائدي، بددوا الآمال بقيام جمهورية ديموقراطية فعلية. ولعلّ الخلافات الحادّة بين اللبنانيين من أهم مسهّلات التدخّل الخارجي في شؤونهم، حيث ذهب البعض إلى حدّ الاستعانة الصريحة بقوى خارجية لمحاربة من يفترض أن يكونوا شركاءهم في الوطن.
مئة عام مرّت، وها قد عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليعلن من القصر نفسه - قصر الصنوبر - مبادرة إنقاذية لوليد لبنان الكبير، الغارق في مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وها قد فتحت ستارة المسرح اللبناني على جولة جديدة من الصراعات الطائفية والمذهبية، المتكيّفة غالباً مع خريطة الاصطفاف الإقليمي والدولي. ولا بدّ أن نسلّم بأنّ شعار الحياد للبنان يتحوّل إلى شعار فئوي، لا لأنّه صدر عن مرجع طائفي بل لأنّ جزءاً لا يُستهان به من اللبنانيين لا يحبّذونه. وهم لم يُستشاروا أصلاً بشأن تعريف الحياد، وقد عدّه البعض مطلباً خارجياً أكثر من قناعة وطنية جامعة.
مئة عامٍ من الصراعات الداخلية والاجتياحات العسكرية الخارجية والتدخّلات الإقليمية والدولية. مئة عامٍ من تنافس الطوائف والمذاهب، لتحصيل امتيازات وحقوق لكلّ منها كمجموعة منفصلة ومتناحرة أحياناً مع مجموعات أخرى. مئة عامٍ من الاصطفاف وإعادة الاصطفاف وتبدّل المواقف والمواقع والتحالفات الداخلية والإقليمية والدولية. مئة عامٍ، ولم تبقَ قوّة استعماريّة - بمختلف أشكال وأنواع الاستعمار - إلّا وتدخّلت في رسم معالم الكيان اللبناني، الذي بدا ألعوبة أو مسرح اختبار أو حلبة لتصفية حسابات. مئة عامٍ من السعي إلى المشاركة، من خلال محاصصة مقوّمات دولة ضعيفة لم يتّفق أبناؤها تماماً على هويّتها وشكلها وبنيتها، ولا حتى على أساس قيمها كجمهورية ديموقراطية.
مئة عامٍ من الفشل. وأعتقد أننا ما زلنا نمتنع عن تشخيص ذلك الفشل بشكل صريح - ربما بهدف تجنّب الصدام - أو نختلف على جسّ النبض، وكأنّ انتظام دقّات قلب الوطن هي مسألة وجهة نظر.
فإذا سلّمنا بأنّ وظائف الدولة الأساسية تتمحور حول العقد الاجتماعي، فيمكن قياس الفشل على أساسه. لا يلتزم اللبنانيون، اليوم، بعقد يمنح صلاحية إحقاق الحق وإدارة شؤون البلاد للدولة، بل يبادر أولياء الطوائف إلى الدفاع عمّا عدّوه حقّاً لهم في المحاصصة، بواسطة قوة السلاح أحياناً أو بواسطة التعطيل أحياناً أخرى.
وتبيّن أنّ التسويات لوقف التناحر بين الطوائف، لا يمكن أن تتم من دون تدخّلات خارجية انتقلت من مؤتمرات جنيف ولوزان إلى «الطائف» والدوحة، لتعود أخيراً إلى قصر الصنوبر حيث تحوّل المفوّض السامي الفرنسي إلى رئيس، وأضيف إلى من يمثّل البطريرك والمفتي، مجموعة من ممثلي الطوائف والأحزاب والتيارات الأخرى.
قد تنجح المبادرة الفرنسية بنسبة نجاح سابقاتها من المبادرات والمؤتمرات والإصلاحات في حلقة المنظومة اللبنانية الدائرية المفرغة، بسبب بدعة مساكنة الطوائف. هذه البدعة ليست قابلة لبناء دولة، بل هي السبيل الأنجح لتدميرها. فلا يمكن أن يقتنع مواطن ينتمي إلى طائفة معيّنة بحقوقٍ أقل من حقوق مواطن ينتمي إلى طائفة أخرى، بداعي الحفاظ على مناصفة الحصص بين طائفتَين. ولا يجوز أن يُحرم الناس من حقوقهم الفردية، لداعي الحفاظ على حقوق المجموعات الطائفية.
نظراً لما تقدّم نسأل: هل نحن بحاجة إلى مؤتمر تأسيسيّ؟
أعتقد أنّ ما نحتاج إليه في لبنان فعلاً، هو عقد اجتماعي جديد يستبدل العقد السابق. فمستوى ثقة المواطن اللبناني، اليوم، بالدولة ومؤسّساتها كافّة تدنّى إلى حدّ كبير. ولا شك في أنّ تراجع الثقة تضاعف أخيراً، بسبب الأزمة المالية وتمدّد الفساد وانفجار المرفأ. وأثبتت الطبقة السياسية الحاكمة أنّها إمّا عاجزة أو ممتنعة عن فكّ احتجاز المصارف لأموال الناس، وعن محاسبة الرؤساء والوزراء المسؤولين عن انفجار المرفأ، الذي أدى إلى قتل الناس في بيوتهم، ووقف الفساد ومحاسبة الفاسدين الكبار. وما زالت الواسطة والمحسوبيات توفّر استثناءات لتطبيق القوانين وللتوظيف العشوائي وللاستفادة من موارد الدولة. أمّا البوليس، فتحوّل إلى جناح عسكري لحماية المنظومة الحاكمة، بدل أن يخدم الناس من خلال السهر على تأمين الحقوق والسعي إلى إصلاح السلوك الجنائي.
وتنقل وسائل الإعلام معلومات عن فساد الرؤساء والوزراء والنواب والمدراء والضبّاط والقضاة، وتعرض مستندات وتسجيلات صوتية ومرئية تدلّ إلى حجم الفساد. كلّ ذلك، ولا يحرّك القضاء ساكناً ولا يتجرّأ قاضٍ على أن يتخطّى الحدود التي وضعها الحكّام أمامه، من خلال تدخّلهم في التشكيلات القضائية، ومن خلال محاصصة المراكز والمناصب والدوائر، بما فيها الدوائر القضائية.
وعلى المستوى المالي، يتصرّف حاكم المصرف المركزي وكأنّه حاكم مطلق الصلاحيات، حيث إنه يحظى بحماية بعض رجال الدين وبرعاية زعماء الطوائف والأحزاب. يرفض الرجل تسليم المستندات للتدقيق المالي، بينما يزيد ذلك من اقتناع الناس بأن في ما يخفيه، جنايات على أرزاقهم وعلى ما تبقّى من أموال في خزينة الدولة.
بعض السياسيين في الحكم تنبّهوا على ما يبدو إلى حجم الأزمة، ولكن بدل أن يبحثوا عن حلول جذرية تعيد بعضاً من الثقة وتصلح بعضاً ممّا تحطّم وتطلق خطّة إصلاحيّة جدّية، ابتدعوا سبلاً لتخدير الشعب، من خلال إجراءات شكلية ووعود واهية بمستقبل أفضل. وجاء تأخير تشكيل الحكومة وظهور الخلافات على تناتش الحصص في منظومة الحكم، ليكشف حقيقة فشل الجمهورية. جمهورية لا يبدو أنّها قابلة للإصلاح، وقد وصلت الأزمة إلى حدٍّ يجعل الترقيع بدون جدوى هذه المرة.
خلال السنوات الماضية، التقى زعماء الطوائف والمذاهب والأحزاب والتيارات سعياً، كما قالوا، للحوار وبحثاً عن حلول لصراعاتهم ولمشاكل الدولة. أنتج الحوار تسويات اعتمدت المحاصصة في ما يشبه المعادلة الشعبوية «مرّقلي لمرّقلك». وبقي التنافس الفئوي الطائفي المذهبي والسياسي على حاله، ما أدّى إلى مزيدٍ من تعطيل العمل الحكومي وتخريب مؤسّسات الدولة.
الدستور اللبناني بقي حبراً على ورق يلجأ إليه السياسيون فقط للمطالبة بصلاحيات في لعبة المحاصصة والتنافس. أمّا الاحتكام إلى الدستور، للمطالبة باحترام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثلاً، والذي يتضمّن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فحدِّث ولا حرج، علماً بأنّ نسبة الفقر في لبنان تضاعفت أخيراً، ويُحرم الكثيرون اليوم من أبسط حاجاتهم المعيشية.
قد لا يعترض أحد على الحاجة إلى تغيير ما، وربما إلى تغيير جذريّ واسع النطاق، خصوصاً بعدما وصلت إليه البلاد من انهيار اقتصادي واحتدام التوتّرات الطائفية والمذهبية والمناطقية، وتمدُّد الفساد والإفساد وتفشّي النظام الزبائني والتراجع الثقافي والتربوي. وقد يُتّفق على عقد مؤتمر وطني، لكن مهلاً، ما الذي يضمن نجاح مؤتمر كهذا وعدم تحوّله إلى مادّة خلافية تُضاف إلى سجل المشاكل بين اللبنانيين؟
لا شيء يضمن الحؤول دون ذلك، تماماً من دون إرادة جامعة وصادقة وجدية للبحث عن حلول. أعتقد أنّ على الدعوة أن تكون موجّهة للمشاركة في مؤتمر عام، لا للمشاركة في مؤتمر تأسيسي حيث إنّ للمشاركين بالمؤتمر العام وحدهم قرار تحويله إلى مؤتمرٍ تأسيسيّ. ولا شك في أنّ حجم المشاركة في المؤتمر، وشموله جميع الأطراف والمجموعات التي تنتمي اليوم إلى الكيان اللبناني الهشّ، يحدّد مدى نجاحه حتى لو لم يتحوّل إلى مؤتمر تأسيسي.
أمّا إذا قرّر المؤتمرون تحويل المؤتمر إلى مؤتمرٍ تأسيسي، فلا بدّ من تأييد جماهيري من خلال الاستفتاء الشعبي العددي العام. ومن يرفض الديموقراطية العددية، إنّما يحبّذ التمييز بين من يفترض أن يعيشوا معاً في بلد تُحترم فيه حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان هي حقوق فردية بالأساس، ولا يجوز أن تتفوّق حقوق جماعات ومجموعات وطوائف على حقوق الأفراد. لكلّ مواطن حقوق أساسية لا تنقص عن حقوق مواطن آخر، ولا تزيد عنها أيّاً كان انتماؤه الطائفي أو المذهبي. أمّا إذا رفضت بعض المجموعات والأحزاب والتيارات الديموقراطية العددية، فلا أعتقد أنّ المجال لقيام جمهورية في لبنان يبقى قائماً، لأنّ المساواة بين الناس تشكّل أساس الجمهورية الديموقراطية.
هذا الساحل الجميل، وهذه الجبال الشامخة، وهذا السهل المعطاء، وهذا المناخ اللطيف، يجعل من لبنان من أجمل البقع الجغرافية على سطح الأرض. أما شعبنا الغني بتاريخه وبتنوّع أصول أبنائه والمتأثّر بتيارات عقائدية وثقافية وفكرية من الشرق والغرب والجنوب والشمال، لا بدّ أن يجد سبيلاً لتأسيس جمهورية يعيش فيها كلٌّ منّا حياة كريمة نكون فيها معاً في دولة التعددية والحرية والديموقراطية.
والمؤتمر التأسيسي يا حضرات السيدات والسادة، يبصر النور يوم تتوفر في نفوس كلٍّ منّا إرادة جدية صادقة لتقبّل الشراكة الصادقة، بعيداً عن التمييز الطائفي وعن الصراعات الفئوية.
وبالرغم من كلّ ما نمرّ به من ويلات ومصائب، يبقى يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، مناسبة وطنية جامعة لا بدّ أن نستذكرها ونحييها، حيث إنّها احتفال بانتهاء الانتداب الفرنسي. إنّ فشل قيام الجمهورية اللبنانية لا يفترض أن يستدعي عودة الانتداب الفرنسي، ولو بشكل مبادرة إنقاذية، بل هو يستدعي منّا مراجعة أسباب الفشل وتشخيص مشاكلنا بشكل واضح وعلني وصريح، والجلوس معاً من دون أيّ تدخل خارجي. وكأنّني أتحدّث عن كوكب آخر.

* كاتب من أسرة «الأخبار»، متخصص في العدالة الجنائية وحقوق الإنسان

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا