إلى روح الصديق د. خالد عايد أبو هديب، الذي ناقشت معه موضوع المقالة، فشجّعني على كتابتها، وكان ذلك قبل سنوات عدّة. عندما غادرَنا، على حين غفلة، تذكرت الموضوع المنسي، فأحببت تكريمه على النحو الذي يُحبْ. المقاومة والتحرير مصطلحان مختلفان، وقد اعتدنا على الخلط بينهما، واستخدامهما وكأنهما يحملان المعنى ذاته. لُغويّاً، تعني كلمة مقاومة، أنّ طرفاً يقوم باعتراض مسار طرفٍ آخر يستهدفه، ليعيق تقدّمه أو يوقفه. أمّا كلمة تحرير، فتدلُّ على أنّ طرفاً مكبّلاً يسعى لكسر القيد الذي فرضه عليه طرفٌ آخر، لينعمَ بحرية العيش المناسب له. نلاحظ أنّ مصطلح التحرير يعبّر بوضوح تام عن الهدف المتوخّى، وهو التمتُّع بحرية الحياة الملائمة. في المقابل، مصطلح المقاومة لا يُنبِئنا، عن الهدف النهائي للمُقاوِم، وإن كان بإمكاننا أن نخمّن أنه يسعى للحرية. للتوضيح، أوردُ مثال نضال الأسرى الفلسطينيين ضدّ ظلم السجن لدى الاحتلال الإسرائيلي: من حينٍ إلى آخر، يقوم هؤلاء الأسرى بالاحتجاج على ظروف السجن غير الإنسانية، وينظّمون إضرابات لإجبار المحتلّ على وقف الانتهاكات التي تمارَس بحقوقهم كأسرى حرب، وبالتالي يكون تحسين ظروف الاعتقال هو الهدف. في المقابل، يقوم بعض الأسرى، كأفراد أو مجموعات، بالإضراب عن الطعام بهدف انتزاع الحرية والخروج من السجن. يُظهر هذا المثال أنّ المقاومة، في الحالة الأولى، لا تضع التحرّر من السجن هدفاً لها، وتكتفي بتحسين ظروف حجز الحرية؛ بينما في الحالة الثانية، هدفُ الخروج إلى الحرية لا لبس فيه. لنأخذ كوابح السيارة مثالاً آخرَ. تُستخدَم هذه الكوابح لمقاومة السرعة ودرء الاصطدام بما هو أمامك من سيارات وخلافه. لكن، في بعض الأحيان، لا يضمن الدوس عليها تلافي الحوادث، وإنما التخفيف من وطأتها فقط، وأحياناً أخرى قد يفاقمها إذا تمّ بطريقة خاطئة.
إذن، المقاومة، كمصطلح، أضيق أفقاً من مصطلح الحرية، والتحرّر قد يمرُّ بمرحلة المقاومة، لكن ليس كلّ مقاومة تؤدّي للتحرير. يكمن الفرق الجوهري بينهما، في أن العمل المقاوم يصبح بلا قيمة، إذا لم يتحدّد هدفه وضدّ من هو موجّه، أمّا الحرية فقيمتُها بذاتها. لذلك نميل دائماً لقَوْل، نريد أن نعيش أحراراً، لا لقول، نريد أن نعيش مقاومين.
لا تهدف هذه المقالة للانتقاص من مكانة كل مَنْ اتخذ مِنَ المقاومة اسماً، ولا لتمجيد كلّ من اتخذ من التحرير اسماً له، فهذا ما لا يخطر على بالنا. إذ، قد تنشأ حركة مقاومة ولا ترضى عن التحرير بديلاً، كما يمكن أن تكون هناك منظمة تحريرٍ وتقبل بما دونه. القصد من هذه المقالة توضيح الفرق بين المصطلحين، لأن هذا يجعل الهدف النهائي أوضحَ، ويساعد على إجراء تقييمٍ موضوعيّ للظاهرة وتقويمها.
عندما نقول مقاومة، سوف نميلُ، في اللاوعي لدينا، نحو التكريز على نشاطها المقاوم، كمّاً ونوعاً، وقد نُهمِل الهدف النهائي، مع أن التقييم الموضوعيّ الصحيح يجب أن لا يقع في هذا المطب. أمّا، عندما نقول تحرير فسوف ينشدُّ انتباهنا، أكثر، إلى الإنجازات المتعلّقة بالتحرير ومدى اقترابنا منه. لذلك، نجد أنّ التنظيمات الفلسطينية، عند صدور تقييمٍ يؤشر إلى فشلها في تحقيق الهدف الأساسي لنشوئها، وهو التحرير، تسارع، دفاعاً عن نفسها، للخلط بين المقاومة والتحرير، وذلك بسرد العمليات البطولية التي قام بها أعضاؤها، والتضحيات الكبيرة التي قدّمتها، من شهداءٍ وجرحى وأسرى، وكذلك الانتفاضات والهبات الجماهيرية المشهود لها في كلّ العالم. لا شك في أن التضحيات كبيرة جداً، لكنها مهما عظُمَت لا تتحوّل إلى هدف، وتظلُّ تقاسُ بمدى الاقتراب من هدف التحرير. كانت انتفاضة الحجارة نموذجاً للمقاومة العظيمة، لكن يجب أن لا ننسى أنها كانت، أيضاً، الجواد الذي امتطته المرجعية الفلسطينية للوصول إلى أوسلو. تم ذلك، لأن أفق هذه المرجعية كان أضيق من أن يتّسعَ لهدف التحرير. كما أنّ انتفاضة الأقصى، وعلى الرغم من التضحيات الجسام، كانت نموذجاً آخر لمقاومةٍ من دون أفقِ التحرير، لذلك استطاع الاحتلال فرض مزيد من القيود على السلطة الفلسطينية وسكان الضفة. المقاومة ردُّ فعل، وليس كل ردِّ فعلٍ يؤدي لنتيجة إيجابية، ولذلك يتحاشى القائد الناجح ردود الأفعال، ويتبنى المبادرة المدروسة الواضحة الأهداف.
يبدو أن مصطلح المقاومة، قد تمت استعارته من التجربة الأوروبية من دون الأخذ باختلاف الظروف المحلية ومتطلّباتها. إذ إنّ المقاومة، في البلدان التي احتلّها الجيش النازي، كانت قد نشأت لتُخلخل سيطرة المحتل وتضعفها، ولتسهّل مهمة جيوش الحلفاء في تحقيق النصر وتحرير البلاد. نرى في هذه الحالة تكاملاً بين المقاومين والمحرّرين، لكن بتوزيع الأدوار بين الطرفين، حيث يبني كلُّ واحدٍ منهما برنامجه الخاص. بطبيعة الحال ستكون خطة عمل كلٍّ من الجانبَين ومهمّاتهما تختلف عن بعضها البعض على الرغم من تقاطعهما. في ظرفٍ آخر، اتّخذت كل الحركات، من شرق آسيا إلى أميركا الجنوبية والوسطى مروراً بأفريقيا، التي كانت تكافح من أجل الاستقلال عن الدول المستعمِرة، تسمية التحرير لا المقاومة.
مهمة المقاومة إبطال فعل الآخر أو إضعافه، أما التحرّر فينبعُ من الذات نفسها، وهو تفعيلٌّ لما في داخلها، وهو مستدام لا يعرف حدوداً ثابتة. لذلك، يتفوّق مشروع التحرير على مشروع المقاومة، وتبعاً لذلك التسمية، لكن بدون إهمال أهمية المقاومة ودورها عندما تتطلّبها الظروف. بناءً على ما تقدّم، هناك ضرورة لتحديد مفهومَيْ المقاومة والتحرير لأهمية ذلك في كفاح الشعوب.
*كاتب وباحث فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا