أمّا بعد، فقد بان خيط أبيض الانتخابات الأميركية من أسودها، بعد حملات انتخابية غير مسبوقة، إن لناحية حدّة الخطاب السياسي بين المرشحين ومستواه، أو لجهة السلوك المرافق، والذي اتّسم بالبلطجة والعنف، والذي يشبه تماماً مسار الولايات المتحدة الأميركية وصورتها الحقيقية كراعية للإرهاب في العالم وقاعدته. لقد انجلى غبار الموقعة تلك عن انتصار «مؤجّل» للمرشح الديموقراطي والذي أصبح رئيساً، وعن هزيمة مدوّية للمرشح الجمهوري الآتي، في الأساس، من خارج الصراع السياسي التقليدي المتوارث، والذي أعطى للسياسات الأميركية في العالم الصورة الأوضح عنها، وعن طبيعتها القائمة على الحروب والحصار والعقوبات... وكي لا نقع في فخّ المقاربة، بين السابق والحالي، نؤكد أنّ لا فرق بين إدارة بائدة وأخرى آتية، والمراهنة على أيّ منهما هي كمن يستجير من الرمضاء بالنار. وعليه، فإنّ العالم يستفيق اليوم على ولايات متحدة منقسمة أفقياً؛ سلاح في الشوارع، خطاب عنصري مقيت، عقوبات متنقلة وحصار يستهدف شعوباً ودولاً وأفراداً، وأساطيل تملأ البحار تغذي حروباً وتحمي ديكتاتوريات وترعى إرهاباً وتسمّنه حتى يحين موعد استخدامه؛ نظام إمبريالي متسلّط ومستبد، يحاول رسم صورة العالم على مثاله. هي إدارات توارثت العالم كشركات استثمارية، أقامت الحروب ولم تقعدها، نهبت الاقتصاد العالمي ودولرته في أكبر عملية نصب عرفها التاريخ. استباحت الأجواء والماء والفضاء والإعلام، وها هي الأنظمة في منطقتنا، المعلّقة اليوم على أبواب الانتظار، تراهن على الآتي كما راهنت على البائد، تُسرع لتجديد أوراق اعتمادها عند الساكن الجديد صوناً لمصائرها: فهل المنتظر من الإدارة الجديدة العودة عن قرارات سابقة لناحية قضايا العرب وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية؟ ومن دون أيّ تردّد فإن الجواب بالنفي هو المؤكد؛ فالكيان الصهيوني هو الابن الشرعي الوحيد والمدلّل لذلك النظام الإمبريالي التوسّعي المهيمن وموقعه المتقدّم في منطقتنا. فالعرب يسارعون اليوم لمزيد من التبعية والاستزلام ولدفع الجزية المفروضة عليهم منذ ما يقارب القرن من الزمن. والثابت هو أنّ السياسات الأميركية في منطقتنا ستبقى كما كانت، إذ يمكن أن تتبدّل الأساليب لكن الجوهر واحد، وهو ما تحدده مصالح الولايات المتحدة الأميركية وليس رغبات الحكام في منطقتنا ولا مستقبل شعوبها.
لم تنحَز أميركا تلك يوماً من الأيام لمصلحة الشعوب، حتى إلى شعبها، والتفاوت المخيف بين فئاته خير دليل على ذلك. وعليه، فإن مخاضاً سيطول في منطقتنا بانتظار الوافد الجديد إلى البيت الأسود، ولكن النتيجة معروفة؛ انحياز إلى الكيان، مزيد من بيع السلاح، كثير من المشاكل المتنقلة، وربما الحروب... وما على شعوبنا العربية وقواها إلّا تنظيم صفوفها لمواجهة مستمرة وعلى مختلف الصعد. أما بالنسبة إلى فلسطين، فالكلام واضح وكذلك القول، بأن لا جديد منتظراً من إدارة أميركية همّها الأول والوحيد هو أمن الكيان ووجوده، ولقواها الوطنية المقاوِمة نقول: أكملوا بناء المواجهة المشتركة على قاعدة توحيد كلّ الفصائل على أساس مشروع المقاومة وقيام الدولة الوطنية على التراب الفلسطيني، وعاصمتها القدس.
أمّا لبنان، المنكوب بفضل نظامه السياسي وطبيعته وسياساته التي تسبّبت بانهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، والانتشار المخيف لجائحة كورونا من دون حسيب أو رقيب، وسط تفاقم الوضع الصحي، المهدّد بالانهيار بشكل كامل، ما قد يؤدي بدوره إلى أزمة قد تطيح بالبلد وبكل شيء فيه. وإذا أضفنا إلى هذا الوضع، حالة الاهتراء السياسي، المتمثلة بعجز السلطة المتنفّذة والقابضة على عنق الشعب اللبناني كما لو أنها مصيره المحتوم، فسنرى عندها أي واقع أسود نحن قادمون عليه. إن هذا البلد لا يمكن أن يُحكم من الطغمة السياسية والطائفية والمالية نفسها؛ لقد أفسدت وسرقت ونهبت واستبدّت وساومت وفاوضت واستجلبت... لحماية مصالحها، حتى لو كان ثمن ذلك كشف البلد سياسياً واقتصادياً ومالياً وصحياً. وهي المشتبه فيها عند الشعب اللبناني؛ الأموال المهربة والصفقات والولاء وسوء استخدام السلطة ودفع البلد إلى الاحتراب الداخلي. هي التي وقفت عاجزة أمام انتفاضة الشعب اللبناني، فلجأت إلى القمع والتوتير المذهبي والتنكيل، وهي التي وقفت مرتبكة أمام مدّ شعبي رافض لها فاستقالت، مدعية الاستجابة لمطالب الشارع، وتحوّل بعض رموزها إلى منظرين للثورة وقادة لها، وقد كانوا هم وسياساتهم المتوارثة كما حكمهم، سبب البلاء الذي نحن عليه اليوم. لقد استنجدوا بالخارج ودسوا عنده الدسائس، و«التفسيد» بعضهم على بعض... وهم الذين يمنعون اليوم التحقيق الجنائي في الحسابات والمصارف وتحت حجج واهية كرفع السرّية المصرفية، بالرغم من مطالعة وزارة العدل، ما قد يدفع بالشركة المعنية إلى المغادرة. وهم من أعطوا حاكم البنك المركزي حصانة وفعلاً، وإشرافاً على سياسات نقدية وهندسات مالية دفع ثمن معظمها الشعب اللبناني من ودائعه المحجوزة في المصارف، فيما أصحاب الدولة والرأسمال يضاعفون أموالهم من جنّة ضريبية وسياسيات متواطئة ويخرجونها إلى الخارج، وعلى مرأى ومسمع من شركائهم وحماتهم: مصرف لبنان وجمعية المصارف وأجهزة المراقبة الدولية، التي تغضّ الطرف عن ذلك، لأسباب سياسية متعلّقة بالتوظيف السياسي لهذا الملف من أجل فرض المزيد من العقوبات والحصار المالي على لبنان لتدفيعه الثمن المطلوب منه، أقله من موقعه المقاوم ومن حدوده المتاخمة لفلسطين المحتلة، مع انفكاكه عن قضايا الصراع في المنطقة، وبخاصة منها ما هو متعلّق بالقضية الفلسطينية.
إن بناء الدولة الوطنية القادرة والمنتجة من خلال مشروع بديل وسلطة بديلة مرتكزة في أساسها إلى نبض الشارع، سيكون الممر الإجباري لاستكمال المواجهة الدائرة


فهم الذين عطّلوا البلد وباعوه إلى شركاتهم العابرة، أفسدوا الهواء والماء والقضاء والطبيعة والأخلاق، وها هم اليوم يعيدون السلوك نفسه، ومن بوابة المحاصّة والميثاقية والمداورة والمثالثة والمرابعة والفدرلة واللامركزية والمذاهب والطوائف والعيش المشترك.... يجهدون من أجل كل هذا، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها، مستجيرين بأصحاب السطوة ورجال «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كي يساندوا ويعاضدوا ويعتلوا المنابر مهدّدين متوعّدين بالويل والثبور وعظائم الأمور، مانحين صكوك الغفران لهذا وموقعين الحرم على ذاك، فيما سبب استشهاد مئتي مواطن وجرح الآلاف وتدمير نصف بيروت ومرفئها، لا تزال خاضعة للابتزاز السياسي والنكايات والعنتريات والتدخلات وتعطيل القضاء والتستّر على المجرمين، ما قد يضيّع الفاعل ويجهله كما بقية الملفات التي مرّت من عمر الطائف، المنتهية صلاحيته، وحتى اليوم. هذا ما كان ينقص البلد، المشرعة أبوابه على كلّ الرياح الآتية من مغرب الدنيا ومشرقها، وهو الواقع على تقاطعات القضايا والملفات الكبيرة في المنطقة.
لم يكن ينقص لبنان وهو المصاب بداء لا براء منه، إلّا خفة تعاطي مسؤوليه وعجزهم؛ فالشعب اللبناني يعاني المجاعة والموت على أبواب المستشفيات طلباً لحبة دواء، فيما مافياته، المحمية بولاءاتها الطائفية والسياسية من مسؤولين ووزراء وأصحاب التجارة المشروعة والمحرّمة أو الممنوعة، يسطون على ما تبقى من إمكانيات، فيضيع الدواء فاسداً وغير صالح للاستخدام بين مخازن منهوبة ومكشوفة للهواء الطلق، ويختفي مع تجارة مشتبه فيها تقوم على السمسرة وتكديس الأموال والاحتكار. أما لقمة العيش المجسدة برغيف خبز فقط، وليس بموائد البطون المتكورة من تخمتها، فلها إدارة فاسدة مع وزير من كوكب آخر، ليذهب معهما الطحين، الآتي لدعم صمود الشعب اللبناني في وجه الكوارث التي حلت به، إلى المجاري فتغمره المياه وتستبيحه القوارض، فيما أطفال وعائلات يحلمون به وهمّ بحاجة ماسّة إليه. هذا أنتم بما تفعلون، وهذا غيض من فيض ما أنتم عليه، لا تستحون ولا تخجلون، وتطالبون بحصتكم في الوزارات والحكم والإدارة، وتنتفخ وجهوكم احمراراً وأنتم تصرخون على المنابر، طلباً للحصّة وللعون من الداخل المستنفر والخارج المتربص.
لم يكن ينقص لبنان، وهو الواقع على حدود المواجهة الحقيقية في المنطقة مع عدو صهيوني متربص ومشروع أميركي متمادٍ، إلّا التخبط في موقفه السياسي من منظومة ملتبسة أطرافها؛ بين الحائر في ولائه الخارجي ومندرجاته، والجالس منتظراً تطورات الخارج لكي يبني على الشيء مقتضاه. لم ينقصنا ونحن على حدود تلك الأزمات، وأحياناً كثيرة في قلبها، إلّا أن نرهن قرارنا الوطني وبكليته إلى الخارج، فيما المطلوب أكثر من ذلك؛ مواجهة أصبحت مستحقة آن أوانها وغدت ضرورية. فالتفاوض مع العدو الصهيوني في ظلّ وسيط غير نزيه لا أمل منه ولا نتائج مرجوة. فماذا لو قبل العدو الصهيوني بالحدود التي يطالب بها لبنان في ظل سلاح العقوبات الموضوع عليه والتهديد به عند كل محطة سياسية كي يفرض على لبنان المزيد من الشروط؟! ماذا لو طلب الأميركيون التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يرفضه لبنان، وقايضوه باستخراج النفط والغاز؟ هل سيُسمح له أن يستخرج نفطه أو غازه فيما لو رفض؟ بالطبع لن يكون الأمر كذلك، لأنه ممنوع عليه، كما على بعض دول المنطقة وبأمرٍ أميركي، الاستفادة من خيراته الطبيعية في بناء اقتصاد منتج يحقق الاستقلالية ويكسر الهيمنة ويفّك التبعية، في حين أن العدو الصهيوني سيتمكن من ذلك كي يضمن تفوقه.
هي مواجهة مفتوحة، لذلك فإنّ وضوح التموضع السياسي فيها يتطلب وضوحاً في فهم ماهيتها؛ أميركا ومشروعها في المنطقة هو الخطر، والعدو الصهيوني ودوره في هذا المشروع هو الخطر. العقوبات الأميركية الانتقائية المسلطة على لبنان والتي طالت شخصيات سياسية محددة، سيجري استخدامها كي تفرض أجندات سياسية معينة؛ إننا، إذ نرفض هذه العقوبات ضد أيّ طرف في لبنان وندينها، إلّا أننا ندعو، في الوقت نفسه، إلى تحويلها فرصة حقيقية لتجذير الصراع، ولتأمين أفضل ظروف المواجهة من أجل ضمان نجاحها؛ فالإدارات الأميركية، ديموقراطية كانت أم جمهورية، لا يهمها إلّا مصالح الولايات المتحدة ومشاريعها، فلا تراهنوا على الإدارة الجديدة، ولا على العدو الصهيوني الذي لا حدود لمطامعه، لذلك لا تنتظروا ترسيماً لحدود معه، أساساً هي واضحة المعالم ومحددة وموجودة في خرائط الأمم المتحدة. إنّ حدود الاشتباك الدائر في المنطقة تستهدف إعادة تكوينها بشكل جذري وتقسيمها إلى ولايات على القياسات المطلوبة والمرسومة لها في الخريطة الجيو- سياسية العالمية، مقاومة عربية شاملة هي أفضل رد. لبنان في القلب من كل تلك القضايا: المقاومة العسكرية ربما ستكون الطريقة، التي أثبتت نجاعتها مع الاحتلال الصهيوني، لذلك فإن تعزيزها من خلال مشروع سياسي وطني أصبح مطلوباً، لا بل ضرورياً. أمّا النظام السياسي الحاكم والمرتكز إلى أسس طائفية ومذهبية وتبعية مفرطة، فقد أكّد وبوضوح عجزه عن إدارة تلك المواجهات المفتوحة على غير قضية.
إن بناء الدولة الوطنية القادرة والمنتجة، من خلال مشروع بديل وسلطة بديلة، مرتكزة في أساسها إلى نبض الشارع، سيكون الممر الإجباري لاستكمال المواجهة الدائرة، وإعطائها بعدها الوطني والطبقي والقطاعي، كي تكون قادرة على تقديم نفسها كبديل جدّي للسلطة الحاكمة اليوم، بقواها وبرامجها وسياساتها. هذا ما نقوم به اليوم إلى جانب القوى التي نتقاسم معها تلك الهواجس؛ مع لقاء التغيير والمبادرة والتحالف الاجتماعي والمجموعات الشبابية الأخرى، كي نكمل الانتفاضة ببعديها السياسي والاجتماعي. لذا لا حاجة للمراوحة وللانتظار؛ فالمواجهة مفتوحة والخصم جاهز... فما علينا إلّا المبادرة، وسنبادر.

* افتتاحية العدد الأخير من مجلة «النداء»
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا