قد تختلف الرؤى في لبنان حول المقاومة - كما كثير من القضايا - وهو أمرٌ طبيعي، بل وصحّي إن عُمل على إدارة هذا الاختلاف بشكل هادف وبنّاء. لكن سيكون الأمر مختلفاً عندما نشهد خطاباً سياسيّاً - إعلاميّاً في مختلف وسائل الإعلام، وقنوات التواصل الاجتماعي، يسعى إلى شيطنة المقاومة ومجتمعها، والتحريض عليها، بل والذهاب إلى استخدام لغة عنصريّة في أكثر من مورد تجاه ذلك المجتمع وأهله.إنّ من يتتّبع العديد من وسائل الإعلام اللبنانيّة - فضلاً عن غير اللبنانيّة - لن يبذل جهداً كبيراً حتّى يلمس طبيعة ذلك الخطاب، الذي يستهدف المقاومة ومجتمعها، وغاياته، والذي يتجاوز حدود التعبير عن الرأي بنزاهة وموضوعيّة، والتزام الحريّة الهادفة والبنّاءة، إلى ممارسة التحريض والشيطنة وتحريك الشعور الطائفي، وتعزيز الوعي العنصري بين المجتمعات والطوائف اللبنانيّة.
في بيان خلفيّة هذا الخطاب، قد نجد من يرى أنّه تنفيذ لتوجيه خارجي يرتبط بأبعاد إقليميّة ودوليّة؛ وقد نجد من يرى فيه تحضيراً لمناخ الفتنة الداخليّة، التي تتطلّب رفع منسوب الشعور الطائفي والعنصري إلى مستويات تساعد على إشعال الفتنة والحروب الداخليّة؛ وقد نجد من يرى فيه جزءاً من لعبة الاستهداف الداخلي لأغراض انتخابيّة وقضية الصراع على السلطة، وقد نجد من يرى فيه تعبيراً عن وعيٍ ما لدى بعض الجهات ووسائل إعلامها...
لكن بمعزل عن كلّ ذلك، فإنّ ما يعنينا هنا هو السؤال التالي: هل يساعد هذا الخطاب - بمعزل عن أي جهة صدر عنها، أو أي فئة يستهدفها - على إعادة بناء الدولة، وعلى تحقيق جميع تلك الأهداف والمطالب، التي يريدها الشعب اللبناني في الإصلاح والاقتصاد والاجتماع والإدارة...؛ وخصوصاً أنّ من يتبنّى ذلك الخطاب ويمارسه، يدّعي في الوقت نفسه أنّه يريد الدولة وبناءها، ومعالجة جميع العوائق التي تحول دون استعادتها؟
أستطيع القول وبوضوح، إنّ هذا الخطاب يعاني من انفصام بنيويّ وتناقض بيّن، فهو في الوقت الذي يدّعي حرصه على الدولة، فإنّه يعمل على هدمها؛ وفي الوقت الذي يقول فيه إنّه يريد استعادتها، فإنّه يجهد في تقويض أهمّ مقوّماتها المجتمعيّة والسياسيّة. بل هو يمارس أخطر جريمة بحقّ الدولة والوطن، عندما يسعى إلى نشر ثقافة هدم الدولة في قالب بناء الدولة، وعندما يعمل على إفشاء ثقافة تقويض الدولة في لباس استعادتها وحضورها، لأنّ العديد من الفئات التي سوف تتأثّر بهذا الخطاب ستعمل حينها على هدم الدولة، وهي تظنّ أنّها تبنيها؛ وستعمل على تقويض مقوّماتها، وهي تتوهّم أنّها تستعيدها وتحكم بنيانها؛ وهذا أخطر ما يمكن أن يعاني منه الاجتماع العام، عندما تستحكم في عقول مجمل فئات المجتمع ثقافة الهدم والفشل والقطيعة والتخلّف والتنازع... وهم يعتقدون أنّهم بذلك يبنون دولتهم، ويستعيدون وطنهم، لأنّ هناك فرق بين من يمارس الهدم وهو يعلم قبح فعله، وبين من يمارس الهدم، وهو يعتقد أنّه بفعله هذا يبني الوطن والدولة، لأنّ الأوّل يمكن أن يتراجع عن خطيئته عند أدنى يقظة ضمير، أمّا الثاني فسوف يوغل في الهدم والتدمير، لأنّه يعتقد أنّه يمارس به البناء. وسوف يكون أصعب عليه أن يتراجع عن خطيئته، لأنّه بالإضافة إلى خطيئة الهدم، فإنّه يعاني من تشوّه الوعي، وعمى الرؤية، بل من وجود وعي زائف، وهذا أخطر من غيره، لأنّ المشكلة سوف تكون أعمق، وأصعب علاجاً، وأشدّ ضرراً على الدولة والوطن. وللأسف هذا ما يقوم به هذا الخطاب، أي هو يمارس تشويهاً للوعي، ويسعى إلى بناء وعي يناقض الدولة، ويعمل على إيجاد ديناميّة ذاتيّة لهدمها؛ وكل ذلك تحت عناوين بناء الدولة واستعادتها.
إنّ العائق الأساس الذي يحول دون بناء الدولة في لبنان واستعادتها هو غلبة الوعي الطائفي والمذهبي واستفحال العصبيّات على أنواعها


وبيان ذلك، إنّ العائق الأساس الذي يحول دون بناء الدولة في لبنان واستعادتها هو غلبة الوعي الطائفي والمذهبي، واستفحال العصبيّات على أنواعها، وحضور العنصريّة والفئويّة، وتقدّمها على أيّ وعي عقلاني، أو شعور وطني، أو رؤية جامعة، يمكن البناء عليها لإقامة الدولة وإصلاح النظام.
فإذا آمنّا أنّ تلك هي المشكلة الأساس في لبنان؛ فهذا يعني أنّه إذا أردنا بناء الدولة، علينا أن نعمل على تخفيض مستوى الوعي الطائفي لصالح الوعي الوطني، وأن نحاصر العصبيّات الفئويّة لصالح انتماء جامع وعابر للطوائف والمذاهب، وأن نعالج جميع المشاعر العنصريّة لصالح مستوى من الحسّ الوطني الذي يتمحور حول المصالح الوطنيّة وبناء الدولة، وهو ما يتطلّب التواصل الهادف، وتحويل وسائل الإعلام إلى ملتقى للحوار البنّاء، والتقريب بين مختلف الفئات، وفهم الآخر كما هو عليه، وتفهّم هواجسه ومتطلّباته، بدل أن تستحيل إلى منصّات للشيطنة، والتحريض، وزرع الشقاق بين اللبنانيين، وتوسيع التباعد بينهم.
وهو ما يحتاج إلى بناء خطاب يجمع ولا يفرّق، ويعمل على توسيع المشتركات وليس هدمها، ويبني الثقة بين الطوائف بدل أن يقضي عليها، ويسعى إلى فهم هواجس ومتطلّبات كلّ فئة بدل شيطنتها، ويجهد لمدّ الجسور مع الآخر الوطني، بدل بناء الأسوار معه وإعلائها، ويساعد على اجتراح رؤية الحدّ الأدنى التي يلتقي حولها الجميع للاستناد عليها، والانطلاق منها لاستعادة الدولة وحضورها، بدل العمل على زرع العداوات بين مكوّنات الاجتماع اللبناني، وتنمية الأحقاد لديها.
وعليه، فإنّ ذاك الخطاب السياسي والإعلامي الذي تتبنّاه بعض الجهات ووسائل الإعلام في لبنان، وبغضّ النظر عن الشعارات والخلفيّات؛ فإنّه لا يسهم في بناء الدولة، عندما يعمل على توسيع الشروخ بين أبنائها، ولا يساعد على استعادتها، عندما يهدم ما تبقّى من ثقة بين مكوّناتها، ولا يعزّز مقوّمات حضورها، عندما يعمل على تقويض أيّة إمكانيّة لتوسيع المشتركات بينها والبناء عليها.
إنّ تلك الجهات ووسائل إعلامها مدعوّة إلى إجراء مراجعة لخطابها وسياساتها، لتكون صادقة في ادّعائها الحرص على الدولة، وأشدّ انسجاماً مع العناوين والشعارات التي تُطرح، ولتدرك أنّ بناء الدولة لا يكون بشيطنة الآخر، والتحريض عليه، وممارسة الإلغاء بحقّه، وهدم ما تبقّى من ثقة بين اللبنانيين، وتوسيع الشروخ بينهم، وزرع الأحقاد والعداوات بين فئاتهم، والذهاب بعيداً في تشويه الوعي لديهم، بما يفضي إلى تقويض الأساس المجتمعي لبناء الدولة، لأنّ أحوج ما نحتاجه في مشروع بناء الدولة، هو تعزيز وجود وعي وطني عابر لجميع الفئات، يكون الأساس لبناء الدولة واستعادتها. وأمّا الإمعان في تشويه الوعي، وحشوه بمزيد من الفئويّة والعنصريّة والكراهية والحقد والتباعد والعداوات واللّاثقة بين فئات الاجتماع اللبناني؛ فهو أدلّ دليل على أنّ هناك من لا يريد الدولة، وأنه يستخدم «بناء الدولة» كمجرّد شعار لممارسة منطق الإلغاء بحق الآخر، وأنّ الأزمة في لبنان تتجاوز أي حديث عن الطبقة السياسيّة، أو النظام... لتصل في عمقها إلى محتوى الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي الكامن خلف أي خطاب أو سياسة، وهو ما يدلّ على أنّ التغيير في لبنان يجب أن يطال جميع الأبعاد والمستويات السياسيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والثقافيّة والاقتصاديّة وغيرها، وأن الإصلاح يحتاج بالدرجة الأولى إلى إصلاح الوعي وتطهيره من جميع الرسوبات العنصريّة والفئويّة، ليدرك تالياً من يمارس ذلك الخطاب أنّ مشروع استعادة الدولة لا يمرّ من خلال العمل على شيطنة أي فئة من فئات الاجتماع اللبناني العام وطوائفه، بما في ذلك من يتمسّك منها بخيار المقاومة ومجتمعها، وممارسة أكثر من إلغاء بحقّه، والتعامل معه بنوع من العنصرية والفئوية، وأنّ بناء الأوطان إنما يحصل بالتعاون والإنصاف والشراكة العادلة، والعمل على بناء رؤية جامعة، وهويّة عابرة، وانتماء يحضن جميع مكوّنات الوطن؛ حتى لا تتحوّل وسائل الإعلام تلك إلى معاول تهدم الوطن حجراً وبشراً، وهي تتباكى عليه، ولا تقيه فعلها.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا