سننطلق هنا في سياق الإجابة عن السؤال الوارد أعلاه، من نتيجةٍ يصحّ اعتبارها حقيقة مؤكّدة، مفادها أنّ المشروع الذي أطلقه أنطون سعادة، بدءاً من عام 1932، عبر إعلانه ولادة الحزب «السوري القومي الاجتماعي»، في تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام، كان متكاملاً من الناحيتَين التاريخية والسياسية، وفي بُعده الذاتي كانت تتوافر له، بشخص سعادة ذي الفكر التركيبي الذي بلغ ذروته في مؤلّفه المهم «الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّدية»، قيادة استطاعت أن تجب مفاعيل الماضي والحاضر، وتوظّفهما بطريقة ناجعة في خدمة المستقبل. مفاعيل تلحظ مناخاً عامّاً، كان سائداً بُعيد خروج اتفاقية «سايكس ـــــ بيكو» (1916) إلى العلن، ومن ثمّ ثبوتها واقعاً في عام 1920. وكان بإمكان ذاك المناخ أن يلحظ ويدعم إمكانية قيام وحدة بين أطراف سوريا الطبيعية، الأمر الذي يمكن لمسه بوضوح في المقرّرات التي خلُص إليها المؤتمر السوري العام، المنعقد خلال عامَي 1919 ــــــ 1920. ولربما يكفي لإثبات كفاءة سعادة، القول بأنّه كان أول من استشرف خطر المشروع الصهيوني في المنطقة، سابقاً بذلك أفكار القومية العربية التي كانت قيد التبلوُر بعقدين من الزمن على الأقل، وهو كذلك كان أول من ربط بين اتفاقية «سايكس ــــــ بيكو»، التي رسمت الخريطة السياسية للمنطقة كما نعرفها اليوم، وبين «وعد بلفور» (1917)، الذي قدّمت فيه الإمبراطورية البريطانية تعهّداً بقيام وطنٍ قومي لليهود على أرض فلسطين. ويجب تسجيل نقطة بالغة الأهمية، في هذا السياق، وهي تبدو شبه غائبة عن الأدبيات العربية التي تعرض ذلك الحدث، تتمثّل في أنّ هذا الوعد كان في ملاحقه قد تضمّن آخر، لا يقلّ أهمية وخطورة، بتوريث الكيان المزعوم الآخذ بالتبلوُر قاعدة مادية واقتصادية وتكنولوجيّة، تتفوّق على محيطها كعامل لا بديل عنه للتمكين في ذلك المحيط.السردية السابقة، من شأنها أن تعزّز السؤال، وتجعله أكثر إلحاحاً: لماذا فشل مشروع أنطون سعادة؟ شخّص سعادة معوّقات نهوض المنطقة، بأمرَين اثنين اعتبرهما المانعَين الأكبرَين أمام وضع أرجلها على سلّم الارتقاء الحضاري:
ــ أولهما، الهجمة الغربية الشرسة التي تستهدفها، والتي ترتكز في أهم قوائمها على قيام كيان استيطاني متفوّق في قلبها، يستطيع كبح جماح نهوضها، ووضع حراك مجتمعاتها التي انفلت عقالها ــــــ منذ التحرّر من السطوة العثمانية خريف عام 1918 ـــــ في السياقات التي أُريدَ لها أن تكون فيها. وهو سيقول في «خطاب العودة»، في الثاني من آذار/ مارس 1947: «في حالة الاستقلال الحاضرة، خرجت الأمّة من القواويش التي كانت فيها، خرجت من الحبوس داخل البناية التي أعدّ لها الاستعمار، ولكنّها لا تزال ضمن السور الذي يحيط ببنايات السجن، نحن الآن خارج القواويش لكنّنا لا نزال ضمن السور». وعليه، فقد ذهب إلى إطلاق حركة مقاومة شاملة، منذ عودته إلى بيروت قبيل أكثر قليلاً من عام على قيام «الورم»، داعياً من خلالها إلى رصّ الصفوف، في مواجهة الخطر المُحدق الذي كانت تراسيمه تظهر من خلال الشقوق. الدعوة إياها، كانت قد بلغت ذروتها في حرب فلسطين، التي احتدمت ربيع عام 1948، وحُسمت في أتونه.
ــ ثانيهما، حالة التشظّي الديني والمذهبي والإثني، التي يعيشها النسيج المجتمعي للمنطقة. وعليه، فقد ذهب إلى استبعاد مطلق لأيّ دورٍ للدين في حركة الصراع المستمر، من أجل نهوض الأمة السورية. وعلى الرغم من أنّه كان قد دعا إلى فصل الدين عن الدولة، وليس عن المجتمع، إلّا أنّه لم يستطِع أن يلحظ أنّ النهوض في المنطقة كان قد ارتبط عضوياً بالإسلام ــــــ والحالة عينها حاصلة في اليهودية، ولربما كان ذلك هو ما يفسّر حالة التنافر التي ستظل قائمة ما بين الدينين ــــــ بعكس المسيحية التي كان رسوّها تاريخياً مرتبطاً بعاملَي الوهن والترهّل. ولربما أمكن القول بمناظير اليوم، إن تلك العلمانية التي اعتبرها لاصقاً ضرورياً لافتراقات الأديان والمذاهب والإثنيات، كانت مفرطة، بمعنى أنّها كانت قفزاً عالياً، يفوق قدرات المجتمع الموجهة إليه، ولا تتناسب مع درجة التطوّر التي كان يسجّلها خطّه البياني.
شكّل مشروع سعادة حلمَ نهوض كبير وهو يمتلك مشروعيّة كانت كافية لنجاحه، وعلى الرغم من الضربات التي تلقّاها كان من الممكن له أن ينهض من جديد


فشل مشروع أنطون سعادة من حيث النتيجة، بفعل عاملَين أساسيين: أولهما ذاتي، يتعلّق ببنية الحزب ومفهومه للتنظيم؛ وثانيهما موضوعي، له علاقة بالتلاقيات التي أحدثها ذلك المشروع، حتى بين أعتى الخصوم. فمن المؤكد أنّ سعادة، الذي كان يمتلك المنهج والرؤيا، وكذا الكاريزما الطاغية، لم ينجح في بناء رعيل يمثّل سدّاً بديلاً في حال غياب رأس الهرم الذي كان يتوقّعه ولا شك، بل وكان حاضراً في ذهنيّته على الدوام. ظهر ذلك ــــــ أكثر ما ظهر ـــــ في الفترة الممتدة ما بين حادثة «الجمّيزة» الشهيرة، في حزيران/ يونيو 1949، وبين اغتيال سعادة الذي جرى في 8 تموز/ يوليو من العام ذاته. وما يمكن قوله في أداء الحزب خلال تلك الفترة الحرجة والمفصلية في تاريخه كثير، ولكن يمكن تكثيفه عبر مجموعة من المعطيات، أبرزها أنّ الحلقة الضيّقة المعنيّة باتخاذ القرار لم تلحظ المخاطر المترتبة على لجوء سعادة إلى حماية حسني الزعيم الذي كانت تُجمع كلّ التقارير على مزاجه المغامر والمتقلّب والذي لا يؤمَن جانبه. والأخطر هو أنّها لم تضع في اعتباراتها ما يمكن أن يكون قد أفضى إليه لقاء هذا الأخير مع موشي شاريت وزير خارجية كيان الاحتلال، الذي جرى في بلودان، منتصف حزيران/ يونيو عام 1949، (وفق رواية رجل الاستخبارات سامي جمعة الذي قال إنه حضر الاجتماع، في حين ذكر عادل أرسلان وزير خارجية حسني الزعيم، في مقال نشره في جريدة «الحياة» اللبنانية، في 26 آب/ أغسطس 1949، أنّ اللقاء جرى في القنيطرة)، وتحديداً في اليوم التالي لوصول سعادة إلى دمشق لاجئاً من تداعيات حادثة الجميزة. إذ لا يعقل أن لا تضع تلك الدائرة في حساباتها أنّ شاريت، الذي كان يرى في مشروع سعادة خطراً يهدّد كيانه، لن يسعى إلى طلب رأسه في مساومة تشعّبت بنودها، ولا أدلّ على ذلك من أنّ بن غوريون كان قد كتب في مذكّراته، يوم 9 تموز/ يوليو 1949، أي في اليوم التالي لاغتيال سعادة، أنّ «حسني الزعيم مهتمّ فعلاً بالسلام معنا». وما يمكن لحظُه هنا، هو التفاوت الكبير في البنية التنظيمية للحزب، ما بين رأس الهرم، وبين قياداته التي أظهرت عطباً في منهجيّتها وحساباتها، التي قادت إلى «تموز / يوليو الأسود السوري القومي»، إذ ظهر الحزب، بعد ذلك التاريخ الأخير، كمَن سلّم مستندات قضيّته كلّها إلى محامٍ «شاطر»، وما جرى هو أنّ ذلك المحامي مات، ولم يكن هناك من أحد ملمّ بملفّ القضية التي اتّخذت مُنحنيات انحدارية من بعده. ومن حيث النتيجة، عجز «الخلَف» عن مواجهة التحديات التي صنعتها تلاقيات الخصوم الذين جمعهم الهدف المتمثّل في تحطيم مشروع سعادة.
بعد اغتيال سعادة، تلقّى مشروعه ضربة قاصمة، إلّا أنّ الجنين لم يكن قد جرى إجهاضه تماماً. ولربما حدثت تلاقيات في الهدف السابق الذكر، ما بين مصر وآخرين يرون في ذلك المشروع خطراً يهدّد مشاريعهم وأهدافهم، فقاهرة جمال عبد الناصر كانت تلحظ، منذ ما قبل منتصف الخمسينات، تبلُور «حلف بغداد» المهدِّد لدورها ومشروعها القومي، ولذا، قرّرت التقارب مع دمشق لمواجهة المخاطر التي تستولدها ولادة ذلك الحلف. وفي قراءتها لآلية ذلك التقارب، كانت ترى أنّ داخل الجيش السوري، كُتلتان تقفان عائقاً أمام حصوله: الأولى، كتلة «السوريين القوميين» بزعامة المقدّم غسان جديد؛ والثانية، كتلة «البعثيين»، بزعامة العقيد عدنان المالكي. وفي أعقاب الإعلان عن ولادة «حلف بغداد»، ظهرت تراجم تلك القراءة، عبر إرسال عبد الناصر، محمود رياض سفيراً له إلى دمشق، موكِلاً إليه مهمّة الاتصال بالعسكريين والسياسيين السوريين، لتهيئة مناخات التلاقي ومواجهة الرياح القادمة التي كان يخشى أنّها سوف تعصف بالكثير.
هناك، اليوم، الكثير من المؤشّرات التي تدل على مصلحة مصرية كانت قائمة في ضرب كُتلتَي الثقل الأوزن داخل الجيش السوري ببعضهما البعض، وفي هذا السياق يؤكد سامي جمعة، الضابط في «المكتب الثاني» في مذكّراته «أوراق من دفتر الوطن» أنّه في شهر كانون الثاني/ يناير 1955، وتحديداً قبل عشرة أيام من اغتيال المالكي، حدث أن أُلقيت قنبلة أمام منزل هذا الأخير، لكنّها لم تحقّق الغرض المرجو منها، وبنتيجة للتحقيقات، ثبُت وجود شبكة تخريب يقودها العامل في السفارة المصرية عدلي حشاد. ويؤكد القيادي البعثي نبيل شويري لصقر أبو فخر، في كتابه «البعث وحطام المراكب المبعثرة»، أنّ اغتيال المالكي أزاح عقبة كبرى من أمام محمود رياض ومحسن عبد النور، الملحق العسكري في السفارة المصرية في دمشق، وهو قولٌ يلحظ اتهاماً مستتراً للقاهرة، على قاعدة أنّها المستفيد الأكبر من حدوث الفعل.
شكّل مشروع سعادة حلمَ نهوض كبير، وهو يمتلك مشروعيّة كانت كافية لنجاحه. وعلى الرغم من الضربات التي تلقّاها بفعل التلاقيات الإقليمية سابقة الذكر، كان من الممكن له أن ينهض من جديد، في ما لو نجح منظّروه في تجديد الأفكار بما يتلائم مع الزلازل التي ستشهدها المنطقة عموماً، وسوريا الطبيعية على وجه الخصوص. ما جرى، هو أنّ التلامذة ذهبوا إلى افتراقات عدّة، تمظهرت أبرزها في تبرّؤ سعيد عقل من فكر سعادة، الذي سبق أن وصفه بـ«الساحر»، كتعبير عن ولعِه بكاريزماه وفكره. بل إنّ عقل ذهب، في ما بعد، إلى اجتراح نظرية «التراصف الحضاري»، التي ردّدها عشية وصول الجيش الإسرائيلي إلى مشارف بيروت، صيف عام 1982، والتي تدعو، باختصار، إلى وجوب الوقوف مع هذا الأخير في خندق واحد في مواجهة الفلسطينيين «البرابرة». أمّا أدونيس، فقد ذهب إلى اجترار أمجاد «مهيار الدمشقي»، وفي مطلق الأحوال، فإنّ أفكاره كانت قد توقّفت عند «الثابت والمتحوّل»، الذي نُشر أواخر السبعينات من القرن الماضي، وفيه كان هناك تشخيصٌ دقيقٌ للفكر العربي، الذي حدّد مرضه بكونه «اتّباعياً»، وليس «إبداعياً»، من دون أن يستطيع وضع وصفة ناجعة للخلاص من ذلك الداء.
يُسجّل لفكر سعادة أنه كان ـــــ ولا يزال حتى الآن بدرجة أقل ــــــ ملهماً لجيل واسع من الشباب. صحيح أنّ ذلك الفكر لم يستطِع منع قيام دولة إسرائيل، إلّا أنّه كان بالتأكيد أحد المعطّلات الحضارية لتمدّد مشروعها. ظهر ذلك في مقاومة جيش الاحتلال في الجنوب اللبناني، وفي النجاح في إيقاف انزلاق المنطقة نحو العصر الإسرائيلي، خريف عام 1982، ولو بشكل مؤقّت، وفي الأزمة السورية البادئة ربيع عام 2011. كان ذلك الفكر أحد الحصون الحامية من التهتّكات التي أصابت النسيج المجتمعي السوري، والتي كانت تهدّد بتشظّي وزوال الهوية السورية.
* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا