«اللي بِكبِّرْ حَجَرَه ما بيصيب»مثل فلسطيني
لا يمكن للقوى الفلسطينية الحالية أن تتّفق على برنامج وطني متكامل، وتنفّذه. هي فقدت الأهلية لذلك منذ زمن بعيد. يكفي النظر إلى الماضي، البعيد منه والقريب، لنصل إلى النتيجة المذكورة أعلاه. لكنّ هذه المقالة، تأتي على عكس قناعتي التي ترسّخت بناءً على تجربة الحركة الوطنية الممتدّة على مدى أكثر من نصف قرن. سوف أفترض أنّ هذه القوى قد تحرّرت من قيودٍ كانت تكبّلها عند كلّ محاولة للمِّ الشمل الفلسطيني، وسوف أتخيّل أننا أمام قوى من نوع جديد تضع نصب عينيها المصلحة الوطنية العامّة أولويةً لا يمكن استبدالها بمصالح حزبية أو ذاتية. لذلك، أقترح مقاربةً قد تبدو ساذجة، لكنّها، على ما أظن، عملية قابلة للتحقيق، ويمكن أن تؤسّس لحلٍّ لأزمة العمل الوطني الفلسطيني.
بناءً على ما صدر عن اجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية، وكذلك النقاشات والحوارات عبر وسائل الإعلام المختلفة، نستطيع حصر أهم القضايا المتداوَلة بين المعنيين في أربع نقاط، وهي:
ــ إصلاح «منظّمة التحرير» وضمّها لجميع الفصائل الفلسطينية.
ــ تحديد العلاقة بين المنظمة والسلطة.
ــ مستقبل اتّفاقيات أوسلو وإدارة شؤون الضفّة والقطاع.
ــ إسقاط «صفقة القرن».
سوف نتناول هذه النقاط باختصار شديد.
منذ نشأة «منظمة التحرير الفلسطينية»، والحديث عن إصلاحها وعن أزماتها لا ينتهي. لكن ما بعد أوسلو يختلف عمّا قبله، لأنّه تمَّ إلغاء مواد الميثاق الوطني، وعددها حوالى 17، التي تتعارض مع ما اتُّفِقَ عليه في أوسلو، على أن تُجرى التعديلات لاحقاً، ولم يتم ذلك إلى الآن. إذن، بات الميثاق بحكم المُلغى؛ وإلغاء الميثاق إلغاءٌ للأساس الذي يمكن أن يرتكز إليه أيّ إصلاح. ثمّ إنّ المنظمة باتت مكبّلة باتفّاقات وتعهّدات إقليمية ودولية، هي محطّ خلافٍ عميق لا يمكن أن يُسوّى في الوقت الحالي.
أما بالنسبة إلى العلاقة بين السلطة والمنظمة، يكفي التذكير بأنّ الأولى قد ابتلعت ما تبقّى من الثانية التي لم تعد تُستحضَر إلّا في مناسبات شكليّة. بتنا أمام واقع مقلوب، فبدل أن يُغذّي الأصلُ الفرعَ بات لدينا العكس.
يمرُّ تصحيح العلاقة بين السلطة والمنظمة، عبر الموقف من اتفاقيات أوسلو. الإبقاء على أوسلو يعني بقاء العلاقة الحالية من دون تغيير جوهري، لأنّ قوة السلطة نابعة من قوة اتّفاق أوسلو ومن تجسُّدِه في الواقع الفلسطيني. فهل إلغاؤه، في الظرف القائم، ممكنٌ؟ لا أعتقد ذلك، لأنّ الطرف الذي سار في مسارها، وهو الطرف الأقوى فلسطينياً، قد ربط مصيره بها بالكامل وبات غير قادرٍ على التحرّر منها، وهو لا يملك القوة الأخلاقية ليعترف بخطئه أويتنحّى جانباً. ثمّ، إنّ إلغاء أوسلو إلغاءٌ للسلطة، ويترتّب على ذلك التفكير بمصير إدارة شؤون الضفة والقطاع، بما في ذلك عدد الناس الهائل الذين ارتبطت حياتهم بمؤسسات السلطة. المشكلة الأكبر، أنّ السلطة باتت ربّ عملٍ لحوالى 200 ألف شخص، والمساعدات الخارجية هي أهم مصدر تمويل لها، وبدون أوسلو لن تكون هناك مساعدات.
بالنظر إلى هذه النقاط، يمكننا بسهولة الاستنتاج أنّ إنجاز الثلاث الأولى يتطلّب جهداً خياليّاً، وزمناً طويلاً ليس متاحاً في هذا الظرف. إنّ أصعب ما في هذه المهمّة هو أنّها تتطلّب من القوّتين المُهيْمِنتَيْن في الساحة الفلسطينية، «فتح» و«حماس»، أن تنقلبا على نفسَيْهما، فهل هذا ممكن؟ الأمر يتطلّب «ثورة في الثورة»، فأين نحن منها؟ لذلك، أقترح مقاربة خاصّة بهذه المرحلة، تضع جانباً هذه القضايا، والذهاب نحو هدف وحيد يشكّل خطراً مصيريّاً داهماً، ألا وهو، إسقاط «صفقة القرن».
من بين واجبات القيادة الناجحة/ الفعّالة، وضع أهدافٍ وبرامج تتناسب مع كلّ مرحلة من المراحل، وقابلة للتحقيق، من دون الإخلال بمتطلّبات تحقيق الرؤية والرسالة والأهداف الاستراتيجية المتبنّاة. لذلك، وبما أنّ جميع الجهات الفلسطينية تعتبر أنّ «صفقة القرن» خطرٌ يهدّد القضية الوطنية برمّتها (أرضاً وشعباً ومؤسّسات ومنظّمات)، يصبح إسقاطها هدفاً جامعاً، ولا يخلّ ببرنامج أيّ فصيل. وتكمن أهمية التركيز على هذا الهدف المرحلي، أنّه يتيح الفرصة لعملٍ مشترك سوف يشكّل فرصة لتجربة إيجابية تحفّز على تكرارها في مهمّة تالية تعالج القضايا الثلاث المذكورة أعلاه (يمكن البدء بها من الآن، لكن بمسارٍ موازٍ ومنفصل).
إنّ إسقاط «صفقة القرن» ليس مسألة حتمية، ولا تلقائية، ولا هي سهلة. يحتاج هذا الأمر إلى إخلاص صادق، وعمل شاقّ، وتخطيط صحيح، واختيار مناسب للوسائل والأدوات، وتنفيذ يجمع بين الدقّة والإبداع، ويشمل جميع الصُعد المحلّية والإقليمية والدولية.
يفترض هذا الاقتراح أنّ الذين سلكوا مسار أوسلو أيقنوا أنّ الدولة الموعودة سراب، وأيضاً أنّ الذين ظنّوا أنّهم قادرون على أن يبنوا سلطة على مقاسهم خارج أوسلو قد تخلّصوا من هذا الوهم، وكذلك الذين وقعوا في الرفض اللفظي أيقنوا أنّ العمل هو من يثبت صحّة الموقف.
أيتها «المرجعيات» الفلسطينية: لقد فقد الشعب الثقة بكم، لكن هناك بصيص أمل باستعادتها، إنها فرصتكم الأخيرة فلا تدعوها تفوتكم…

* كاتب وباحث فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا