إنّ المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والتي بدأت أول من أمس في الناقورة، تتعارض قطعاً مع المصلحة الوطنية، شكلاً ومضموناً. هذه المقالة لا تلحظ الشكل، ولا حتّى الجانب المبدئي من الموضوع، فالتالي إذاً يفترض جدلاً أنّ المسألة محضُ تقنية ويضعُ جانباً المسألة المبدئية (التي لا تقلّ أهمية على الإطلاق). إشارةٌ واحدةٌ إلى الشكل لتعلّقها بالجانب التقني: أشارَ دولةُ رئيس مجلس النوّاب، في مؤتمره الصحافي الشهير، إلى أنّ اتّفاق الإطار الذي أُعلن عنه، استهلك عشر سنوات للوصول إليه وبحالته، يُعدّ نصراً للبنان. السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو المكسب الذي حصل عليه لبنان بعد هذا الجهد، ولم يكن مُتاحاً من قبل؟ إذا حكمنا على الظاهر، وجلّ ما يمكن أن نفعل حيث لا اطّلاع على كواليس الأمور، نحن ذاهبون إلى مفاوضات مع إسرائيل، من دون شروط. ومتى كانت إسرائيل تتردّد في الجلوس مع أيّ مفاوض عربي من دون شروط؟ أين المكسب في ذلك؟
1 ــ نحن نتّجه إلى مفاوضات من وطنٍ مفكّك (من أعلى هرمه إلى أدناه) واقتصادٍ منهار ومجتمعٍ يائس. ليس هناك أسوأ من هذه اللحظة لمفاوضة إسرائيل على حقوقنا، خصوصاً إذا علمنا أنّنا نفاوضها بلا شروط. سيتنازل لبنان، حتماً، في لحظة انعدام الوزن والتوازن الاستثنائيّة هذه، عن الكثير ممّا أصررنا دائماً على أنّه حقّنا. وممّا لا شكّ فيه، لو أنّ المفاوضات حصلت منذ عامين، لكان وضع لبنان التفاوضي أفضل لأبعد الحدود.
2 ــ لبنان لم يبدأ رحلة الغاز بعد، باستثناء محاولة الحفر الأولى (البئر الأوّل في البلوك رقم 4). إسرائيل، بالتالي، لها أفضليّة تقنيّة إذا حدث الاتّفاق. فالبنى التحتية للإنتاج، والمعالجة والتصدير، موجودة في إسرائيل، ووضعها في نادي شرق المتوسّط للغاز الذي أُسّس وتفعّل، أخيراً، (EastMed Gas Forum) وما يؤمّنه هذا التكتّل من تسهيلٍ للتصدير يعطي إسرائيل أفضليّة أخرى. من جهةٍ ثانية، تملك إسرائيل، الآن، خبرة مهمّة في الحفر والتطوير والإنتاج. خبرة لا يملكها لبنان. لبنان في المقابل معتمد بالكامل على الشركات الأجنبيّة في كلّ نواحي الموضوع (وهي الخصم والحكم).
لسبب ما بدأ الحفر في البلوك رقم ٤ قبل البلوك رقم ٩ بحجّة أرجحيّةٍ جيولوجيّةٍ وهو ما يجافي المنطق العلمي


3 ــ بالتالي، تستطيع إسرائيل الحفر والإنتاج من المنطقة المتنازع عليها (والتي سيُسوّى أمرها خلال المفاوضات التي التي بدأت) سنواتٍ قبل لبنان، تحت أيّ سيناريو كان، ممّا سيعرّض الحصّة اللبنانية من المكامن الممتدّة عبر الحدود المائيّة في المنطقة «المتنازع عليها» وحتّى تلك في الجانب اللبناني الخاص، إلى خطر الاستنفاد. هذه مسألة مفروغ منها، من الناحية التقنيّة، في حقول ذات ميّزات وخصائص جيولوجية عالية، كالتي في شمال فلسطين المحتلّة. للمناسبة، رفض لبنان الانضمام إلى النادي المذكور أعلاه، بحجّة أنّ الدخول إليه تطبيع مع إسرائيل. ومن المهازل أن يسمّى ذاك تطبيعاً، فيما لا ينضمّ إلى المسمّى نفسه، ما بدأ البارحة.
4 ــ لسبب ما، بدأ الحفر في البلوك رقم ٤ قبل البلوك رقم ٩، بحجّة أرجحيّةٍ جيولوجيّةٍ للبلوك رقم ٤ مقابل البلوك رقم ٩، وهو ما يجافي المنطق العلمي. فحقول لبنان في جنوب البلوك رقم ٩، هي امتداد لحقول شمال فلسطين المحتلّة (ليڤياثان، تمار، تنين وكريش، وبالأخصّ الأخير، لمحاذاته المياه الإقليمية اللبنانية في المناطق «المتنازع عليها»). تجدر الإشارة إلى أنّ آخر بئر حُفر وأُعلن عن اكتشافٍ إضافيٍّ فيه، يقع شمال حقل كاريش على بُعد كيلومترات قليلة من المياه الإقليمية اللبنانية التي تُنازِعنا عليها إسرائيل.
5 ــ مع الوقت، بدأت الأمور تتكشّف وما لم يخرج إلى العلن، بدايةً، خرج في الأيّام القليلة الماضية. تبدّى أنّ شركة «توتال» لا تريد أن تقترب من الحدود وتفضّل البقاء عشرات الكيلومترات بعيدة عنها، وهذا ما أشار إليه الرئيس نبيه برّي، في مؤتمره الصحافي الشهير. السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كنّا نعرف بأنّ «توتال» لن تحفر قريباً من الحدود، لماذا لُزّم البلوك رقم ٩ قبل الاتفاق على الحدود مع إسرائيل؟ البلوك رقم ٩ لُزّم بسعر بخس، بكلّ المقاييس، مقارنةً بالبلوك رقم ٤ لأسباب جيوسياسية. لما لم ننتظر حتّى تسوية النزاع، فلا نبخّس بشروط تلزيم البلوك رقم ٩ إذا كنّا نعرف أنّ الحفر لن يبدأ، على كلّ حال، حتّى تسوية النزاع. من الرابح غير «توتال» في هذه الحالة؟ ومن الخاسر غير لبنان؟ والسؤال المهمّ هو: من المسؤول عن هذا المسار التنازلي؟
6 ــ تجدر الإشارة إلى أن الوزير جبران باسيل، (وهو الممسك بمفاصل الملف النفطي منذ عشر سنوات) شكّك بنزاهة شركة «توتال» في ما خصّ نتائج الحفر، منذ أسابع قليلة. بالتالي، إذا صدق وكانت شكوكُه مبنيّةً على وقائعٍ، فمصيبة تستدعي التحقيق (واللافت أنّها لم تفعل ولم تحرّك ساكناً)، وإذا لم يصدق فالمصيبة أعظم.
7 ــ أهمّ مكامن الغاز المحتملة في البلوك رقم ٩، تمتدّ عبر الحدود البحريّة مع فلسطين المحتلّة. كلّ التقديرات التقنية ترجّح ذلك. بالتالي، في اليوم التالي للاتفاق، ستبدأ إسرائيل بالحفر في تلك المنطقة، عند الحدود «الجديدة» بالضبط، مطمئنّةً مدعّمةً باتّفاق «يحميها»، وذاك حقّها القانوني بمعزل عن رأينا المبدئي والأخلاقي. لا يملك لبنان، عندها، إلّا النظر من قريب لسنواتٍ طوال، إلى ثروته تتآكل بموافقته.
* أستاذ جامعي وباحث وخبير في تطوير حقول النفط والغاز

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا