قبل أنور السادات لم يكن ثمة تطبيع. عصر ما قبل السادات مختلفٌ تماماً عمّا بعده. فالساداتُ كان انقلاباً، بل ثورة عاتية! ولكن أية ثورة؟ كان الساداتُ رِدّة كُبرى ونكوصاً عن كلّ سياسات ومبادئ مصر عبد الناصر. ومن ذلك موضوع التطبيع. فقبل السادات، كان المستسلمون العرب لا يجرؤون على المجاهرة بعلاقاتهم وارتباطهم مع دولة العدو الصهيوني. كانوا يخفون ذلك، بل وينكرونه في العلن، بينما هم غارقون في غرامهم السري مع دولة العدو. وذلك الوضع كان يحمل اعترافاً ضمنياً بالخطيئة والإثم. فمن يرتكب الحرام هو من يلجأ إلى ظلام الليل لكي يستر عورته. كان ذاك حال «المطبّعين» العرب الذين لم يجرؤوا على مفاتحة شعوبهم وقول الحقيقة لهم. لم يكونوا يدافعون عن سياستهم «التطبيعية» إن جاز التعبير. والواقع أنه لم يكن يوجد في ذلك الوقت مصطلح «التطبيع» ولا كان معروفاً. لم يكن أحد ينظّر للتطبيع أو يدعو له، حتى في صفوف أشد «المطبّعين» الذين كانوا مضطرّين إلى ركوب الموجة ومجاراة شعوبهم واستخدام شعارات تحرير فلسطين ورفض شرعية الكيان الصهيوني، في الظاهر طبعاً. ربما كان بورقيبة في تونس هو الاستثناء الوحيد.
زوروا فلسطين - ملصق سياحي من تصميم فرانتز كراوس (1936).

إلى أن جاء السادات. لم يكن الرجل مستعدّاً لمتابعة الأسلوب القديم في علاقة المطبّعين مع العدو. لقد قرّر الانقلاب جهاراً نهاراً إلى حدّ أحرج فيه المطبّعين القدامى وأوقعهم في حيص بيص، حين لم يستطيعوا مجاراة السرعة التي يسير فيها السادات والجرأة التي يتميّز بها، فاضطرّوا للاختلاف معه. لم يكتفِ السادات بفكرة القرارات «السيادية» ليبرّر بها سياسته تجاه دولة العدو، بل بدأ بتأسيس مشروع متكامل له أُسس ونظريّة بنى عليها «فلسفة» كاملة، يجوز لنا أن نسمّيها فلسفة الاستسلام، وأوجد لها منظّرين ودعاة كثيرين.
أولى ركائز تلك الفلسفة هي الموقف من قضية فلسطين والدولة الصهيونية. رأى الساداتُ أنّ «دولة إسرائيل» هي قدرٌ محتومٌ على المنطقة ولا رادّ له، ومن العبث، بل من الغباء، الاستمرار في الصراع معها ومعاداتها سياسياً وعسكرياً، لأنّ لا أملَ للعرب أبداً في الانتصار عليها. وما أظهرته مصرُ والعربُ، منذ عام 1948، من عداء للدولة اليهودية، كان خطأً فادحاً نتج عن سوء تقدير وجهلٍ ينمّان عن سذاجةٍ لا تليقُ بمن يفهم في السياسة! فإسرائيلُ قوية ومتقدّمة ومُدجّجة بالسلاح، وتحظى بدعم أثرياء اليهود في العالم، والأهم من ذلك أنّ معها القوى الكبرى في الغرب: بريطانيا أولاً، ثم أميركا الآن، فكيف يمكن التغلُّب عليها؟ قال السادات إنه لا يمكنه أن يهزم أميركا. وأضاف أنّ مصر أدّت ما عليها، وزيادة، تجاه فلسطين وقضيّتها، فخاضت حرب فلسطين عام 1948، ثمّ تعرّضت للعدوان الثلاثي عام 1956، وعدوان 1967، وبعدها حرب الاستنزاف، وأخيراً خاضت حرب 1973. فكفى ثم كفى! إلى متى تستمر مصر في دفع ضريبة الدم من أجل فلسطين؟! متى ستنتهي حالة الحرب؟ إلى متى تبقى مصر رهينة لفلسطين وقضيّتها الميؤوس منها؟! وهل يستحقّ هؤلاء الفلسطينيون كلّ هذه المعاناة؟!
وثاني تلك الركائز، هي الموقف من العرب والعروبة. قال السادات إنّ العرب لا يبالون بمصر، ولا يأبهون بما حلّ بأهلها من مصائب في «سبيلهم»! فالعرب، بنظر السادات، هم إما حقودون يكرهون مصر وشعبها، وإما نكرات رعاع وهمج! وفي كلا الحالين، لا يستحقون من مصر إلّا التجاهل إن لم يكن الازدراء. ولامسَ الساداتُ وتراً في نفوس المصريين، حين حرّضهم على إخوانهم العرب، وأثار فيهم «الحمية» الوطنية الفارغة المستندة إلى نظرية شبه عنصرية عن تفوّق المصريين الذين «يحسدهم» العربُ الناكرون للمعروف!
ثالث ركائز الفلسفة الساداتية موجّهة إلى الداخل المصري. قال السادات إنّ الحروب هي سبب كلّ مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية، وهي سبب الفقر المنتشر في البلد، وهي سبب البؤس ومعاناة المواطنين، وهي سبب انعدام الخدمات، وهي سبب هجرة المصريين للعمل في الخارج، وهي وهي وهي... وانتهاءُ حالة الحرب والسلامُ مع إسرائيل، من شأنه أن يغيّر كل شيء لأنّ مصر عندها ستنتبه إلى نفسها، وستُعنى بشؤونها وسوف تتفجّر طاقات أبنائها المبدعين الذين سينصرفون إلى ميادين العمل والإنتاج، بدلاً من ساحات الحروب والموت. أي باختصار: السلام مع إسرائيل هو الحلّ، وسيجلب الازدهار، والسلام هو الأمل وهو الحياة والمستقبل، وهو الشفاءُ لكلّ أمراض مصر. وعندما بدأ الساداتُ خطواته «السلامية» الكبيرة، عام 1977، أطلق وعدَهُ الشهير للمصريين: «1980 ستكون سنة الرخاء»!
لا داعي للدخول في تفاصيل المفاوضات بين السادات وقادة الكيان الصهيوني، لأنّ الكلام فيها يطول، ولكن ما يهم أنّ نتيجتها النهائية كانت إطلاق يد الصهاينة ليفعلوا ما يشاؤون في فلسطين، ومن دون أيّ خوفٍ أو حسابٍ لردّة فعلٍ أو تدخّلٍ من مصر (أكبر بلد عربي). وليس ذلك فحسب، بل إنّ مصر انتقلت فعلياً إلى الخندق المعادي لكلّ قوى الثورة الفلسطينية والعربية، على إطلاقها، وصارت تعتبر أيَّ مقاومةٍ ضد إسرائيل موجَّهة ضدّها أيضاً! وبدأت مصر ــــــ وما زالت حتى يومنا هذا ــــــ تقبض مبلغاً (تافهاً) مقدارُهُ مليارا دولار سنوياً مقابل «خدماتها» الكثيرة للسياسة الأميركية في المنطقة.
ثالث ركائز الفلسفة الساداتية موجّهة إلى الداخل المصري، حيث قال إنّ الحروب هي سبب كلّ مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية


كلّ ذلك جرى باسم السلام والتقدّم والازدهار ومواكبة العصر والنمو والرخاء و«من أجل مستقبل أطفالنا»، وفي سبيل «أجيال المستقبل» الذين من حقّهم أن يعيشوا في بلد هانئٍ وديموقراطي...
وبعيداً عن النظريات والمبادئ والأفكار الكبيرة، وبعيداً عن فكرة أنّ الالتزام القومي والعروبي والإسلامي والإنساني يفرض على مصر نصرة فلسطين ومقدّساتها، وبعيداً عن حتمية أنّ روابط القربى والجوار توجب على مصر مساعدة الشعب الفلسطيني المظلوم، وبعيداً عن فكرة تقديم التضحيات من أجل مبادئ الحق والخير... لو أحببنا تقييم المشروع الساداتي بعيداً عن ذلك كلّه، واعتماداً على المصالح والمنافع فقط، فما دام أنّ الأفعال بنتائجها والأمورَ بخواتيمها، فلنا بأحوال مصر اليوم العبرة والدليل، وعلى أساسها يمكننا أن نُصدر الأحكام. ولا بدّ أولاً أن نتّفق على أنّ النظام الحالي في مصر هو امتدادٌ لنظام السادات، وفيٌّ لنهجِهِ ويسير على هَديهِ وبالتالي يمكن اعتبار السادات مسؤولاً بشكل ما، عن مآلات الأحوال في مصر. فما هي أحوالُ مصر اليوم؟ بعد مرور 47 عاماً على آخر رصاصة أطلقتها في ميدان الحرب مع إسرائيل، ومرور 42 عاماً على معاهدة السلام التام والناجز مع إسرائيل، كيف هي مصرُ اليوم؟ في أسوأ حال، ولا جدال في ذلك.
أين هو الرخاء الذي وعد به السادات؟ أين هي الصناعة في مصر؟ أين مصرُ من عالم التكنولوجيا؟ ماذا تُصدّر مصر إلى العالم؟ لا شيء يُذكر. نقول ذلك بكل أسف، ونحن نقارن مدى التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي تشهده دول في المنطقة قريبة من مصر في حجمها، مثل إيران وتركيا (دع عنك كوريا وماليزيا). وما حال الزراعة في مصر؟ المتابعُ للشأن المصري يعرفُ مدى الإفساد والتدمير المبرمج الذي تعرّض هذا القطاع على يد رجل إسرائيل المعروف، يوسف والي، الذي شغل منصب وزير الزراعة لعشرات السنين.
وكيف هو قطاع التعليم في مصر؟ وقطاعُ الصحة؟ وماذا عن الوضع الديموقراطي والحزبي والانتخابات وتداول السلطة والبرلمان والمحاسبة واحترام القانون؟ صفرٌ كبير. انتخابات مزوّرة، وأحزاب شكلية.
أمّا على الصعيد الإقليمي والدولي، فحدِّث ولا حرج. فقدَت مصر مكانتها، وصار الجميع ينظر إليها باعتبارها تابعاً وذيلاً لسياسة أميركا في الشرق الأوسط (قبل فترة ليست بعيدة تسرّبت أخبار عن كلماتٍ في غاية السلبية، أقرب إلى الشتيمة، أطلقها رئيس جنوب أفريقيا على الرئيس المصري بسبب التبعية لأميركا) ومشكلة سدّ النهضة معروفة للجميع.
لا داعي للاسترسال في استعراض حال مصر، اليوم، وتبيان مدى تدهوره وانحطاطه، فالكلام بشأنه يطول. وهو يثبت أنّ نظرية السادات، التي تتلخّص في تسفيه كلّ فعلٍ مقاوِم للعدو الصهيوني، واعتباره معوّقاً لتقدّم البلد، وأنّ الحضارة والرخاء والنمو ستأتي من خلال «التصالح» مع إسرائيل، والقبول بها والتحالف معها، باطلة وخاطئة.
وأمّا «المطبّعون الجدد» في الخليج فأمرهم مختلف. هم لا يقلّون حماساً عن السادات في اندفاعتهم «السلامية» الجارية. ولكن إذا كان للسادات بعض العذر (على الأقل لدى أنصاره ومؤيّديه) في ما فعل، بحكم الحرب التي كانت تخوضها بلده مع الكيان الصهيوني لعشرات السنين، فإنّ هؤلاء «المطبّعين الجدد» ليسوا معذورين. فهم ليسوا تحت أيّ ضغط، ولا لهم أراضٍ محتلّة، ولم يخوضوا حروباً، ولا تعرّضوا لعقوبات... لا شيء من ذلك كلّه. ولذلك، فإنّ نظريات السادات وأسبابه لا تناسبهم تماماً. هم يحتاجون إلى «فلسلفة» جديدة للتبرير. وفي هذا السياق، ذهبوا في خطَّين متوازيين لا يلتقيان:
الأول، يتحدّث عن القيَم الإنسانية والتسامح والحضارة والتعايش، بما يقتضي الانفتاح على الآخر وقبوله، وذلك يشمل «دولة إسرائيل» الموجودة في المنقطة.
والثاني، ينطلق من مفاهيم دينية في غاية الرجعيّة تتحدث عن «اليهود»، حيث يقوم شيوخٌ سلفيون باستخراج نصوص من بطون كتب التراث الديني تذكر «اليهود» بخير، وتقول لنا بأنه كان للنبي محمد أصدقاء وجيران من «اليهود»، وإنّه كان يودّهم ويحسن إليهم، وبالتالي لا بأس من الإحسان لـ«دولة إسرائيل» أيضاً!
وهكذا، تنقلب المقاييس وتضيع البوصلة. فتارة باسم الإنسانية والتحضّر، علينا التعامل مع إسرائيل وقبولها، وتارة باسم الدين والإسلام، علينا التعامل مع «اليهود» وقبولهم. وفي كلتا الحالتين، يتمّ تجاهل حقيقة أنّ الصراع لم يكن يوماً مع اليهود، كيهود، بل مع صهاينة عنصريّين مجرمين، وأنّ إسرائيل هذه التي يربطون معها حبال ودّهم، ليست دولة عادية ولا طبيعية، ولم تكن يوماً إلّا كياناً غاصباً معتدياً قام على النهب والفتك والقهر. لا يتحدّث «المطبّعون الجدد» البتة عن الطبيعة العنصرية لـ«دولة إسرائيل» ولا عن خلفيتها الدينية. وهنا تنبغي الإشارة إلى نقطة أخرى، وهي أنهم لم يركّزوا كثيراً في دعايتهم التبريرية، على موضوع الازدهار الاقتصادي والعوائد المرجوّة من «السلام مع إسرائيل»، كما فعل السادات، لأنّهم يعلمون أنّ هذه الحجّة ليست مقنعة ولا لها أية وجاهة. فأيّ حاجة لدول الخليج النفطية بإسرائيل؟ ماذا ستستفيد منها؟ ماذا ستضيف إسرائيل وشركاتها الصغيرة لها، فوق ما عندها من شركات أميركا وأوروبا العملاقة، وشركات الصين واليابان؟!
وأبرز ما يجمع «المطبّعين الجدد» مع المطبّع القديم، هو العداء المحموم لكل فعلٍ مقاوِم ضدّ إسرائيل، ولحركات المقاومة عن بكرة أبيها. وهم جميعاً يفترضون أنّ إسرائيل هذه قدرٌ محتوم لا يمكن تغييره وأنها وُجدت لتبقى. ويتناسون أنّ في هذا العالم الواقعي أمثلة عديدة على زوال أنظمة واختفائها من على وجه الأرض، من دون عمليات إبادة جماعية وذبح (أبرزها طبعاً نظام الفصل العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا، وكذلك نظام الاتحاد السوفياتي)، فلماذا لا يحصل الشيء نفسه مع إسرائيل؟
* كاتب أردني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا