تناهى إليّ أنّ مقاومي النبطية يريدون الاحتفال هذا العام، ليس بذكرى ولادة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، في 16 أيلول/ سبتمبر 1982، بل بذكرى العملية التي نُفذت يوم عاشوراء في 16 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1983، والتي شكّلت شرارة أروع انتفاضة جماهرية كبيرة ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي والتي ما زالت أحداثها تتناقلها الأجيال ويؤتى على ذكرها كلّ عام في احتفالات عاشوراء في مدينة النبطية.لم أسأل ولم أستفسر. استشعرت خلفيات واعية ولاوعية لهذه الفكرة، والهدف: إحياء ذكرى عملية عسكرية نفّذتها مجموعة من الحزب الشيوعي، في مناسبة عاشوراء، التي تحيي ذكرى الإمام الحسين عليه السلام. وتالياً، صلة هذا الحدث بما آلت إليه الأمور في وضعنا الحالي. وإن عدم الترابط بين عمليتَي التحرير والتغيير لم يكن طبيعياً ولا منطقياً ولا عدل فيه، وقد أدى هذا القطع إلى ما نحن عليه الآن.
«أرنون» (1980): ملصق صممه بول غيراغوسيان تمجيداً لبطولات المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة

في صيف 1982، وبعد التحرّر من المعتقل داخل فلسطين المحتلّة، وبعد قرار إبعادي إلى بيروت، كنّا من مؤسّسي «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، وشغلت عضوية الهيئة العليا الوطنية، وكان هناك نائبان للرئيس، كنت أحدهما «السرّي». من البداية، عملت مع عدد محدود من الرفاق ممّا حافظ على نضالي السرّي حتى التحرير، ومن جملة هؤلاء الرفيق جوزيف سعد المسؤول الميداني عن النبطية، ومع رفيقة تدعى «سوزان» كانت صلة الوصل بين المركز في بيروت وخلايا مدينة النبطية والجوار، وكذلك مهمّة التنسيق بين مجموع الخلايا والتدريب وتنفيذ العمليات المسلّحة.
دام العمل حتى تحرير الجزء الأكبر من المناطق المحتلّة شتاء 1985، واصل البعض كفاحه النضالي، أمّا أنا فقد بدأت مشكلتي مع قيادة الحزب التي طلبت مني العودة للعمل في إدارة تنظيمه، وبدأت ألاحظ ظاهرة الزعامة عند البعض. تلى ذلك موقفي الرافض للترتيبات التي أبعدتنا عن الجنوب بعد التحرير، ما دفعني إلى طلب إكمال مهمّتي في المقاومة من العاصمة.
من دون نقاش عوقبت بالإهمال، إلى أن عاد التواصل مطلع التسعينات، وفي عام 1997، أصدرت كتاباً كان الأول من نوعه عن العمل الميداني للمقاومة. ثمّ تولّينا، أنا والرفيق جوزيف، إعداد فصيل مسلّح عمله محصور بمقاومة الاحتلال في الشريط الحدودي المحتل، وقمنا بأوّل عملية استطلاع في بلدة الطيبة. كل ذلك جرى بإشراف الأمين العام للحزب (حينها) الرفيق فاروق دحروج، الذي سلّمني 450 ألف ليرة كمصاريف للعمل. ثمّ، عُقد اجتماعٌ لقيادة المكتب السياسي في الحزب، وكنت أنتظر خارج القاعة، أسمع صراخهم غير المفهوم، لكنّ الرفيق فاروق خرج بعد قليل قائلاً لي: اذهب إلى بيتك وانسَ الأمر!
لقد كان الحزب الشيوعي أحد أبرز أعمدة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، قدّم أغلى التضحيات في الحرب الأهلية وقبلها، وخلال الاحتلال، لكنّه لم يتوقّف عن العمل المقاوم إلّا في عام 1989. حصل ذلك من دون قرار علني أو معلَّل. قال قياديون إنّ توقُّفَنا سببه رغبتنا بالاستقلالية، وعدم الدخول في معادلة التحرير والإقليم. وقال آخرون إنه تمّ إخراجنا من المقاومة، وفريق ثالث عزا الأمر إلى الأزمة العامّة في الحزب، ومنها الأزمة المالية. وظلّت التبريرات تتوالد، وصولاً إلى قول البعض إنّ هناك تعارضاً بين المقاومة وبين عملية بناء الدولة. لكنني، وآخرون، نقول إنّنا نحن من أخرجنا أنفسنا من المقاومة. المسؤولية تقع على عاتق قيادة الحزب، صحيح، كما أنه مصدر فخر أن نكون نحن من أوائل الذين أطلق العمل المقاوم. لكنّ الأهم أن نستمر ونعاند الظروف وننتصر عليها، وهذا ما لم نفعله كواجب وطني، وتلك خطيئة غير قابلة للغفران.

العيش في الماضي
تحتفل كلّ شعوب الأرض، وفي كلّ عام بمناسبات تاريخية كأعياد الاستقلال والتحرير والثورة، ومحطّات أساسية أخرى في تاريخها، وصولاً إلى أعياد الميلاد، وذكرى الأموات، ونشوء الأحزاب والأسر والشهداء، وما إلى ذلك. ويحتفل الشيعة، منذ 1400 سنة، بملحمة كربلاء، ويحتفل الشيوعيون بذكرى ولادة جمول.
أهمية الاحتفال بالذكرى، ليست نابعة من أهمية الحدث، بل في حالتنا هذه، تتّصل بقدرتنا على إعادة التقييم والمراجعة، والاعتذار حيث يجب، والتعلّم والتجديد حيث تتطلّب الحياة، كما يتوجّب علينا بثّ الهمم انطلاقاً من الجوانب المضيئة والسعي نحو التغيير، وإعادة الوحدة والانضباط ولمّ الشمل وأخذ القرارات الصعبة، وجعل المؤتمرات محطة، وإعادة الاعتبار للمبادئ والنظُم والمقاومة. كذلك، يجدر بنا التوقّف عن نشر الغسيل والإهانات العلنية، لكنّ الحقيقة، أن القوى العلمانية لا تزال، بعد مرور ثلاثين عاماً، تُراوح مكانها، وتتراجع.
الاحتفال كلّ عام، لا يمكن أن يقتصر على مسيرة وهتافات وكلامٍ ملَلناه، لقد كنّا في الماضي نحتفل بذكرى المقاومة، باستنفار كلّ مجموعات المقاومة في مدينة النبطية وضواحيها، وهي بالمئات، وبشكل سرّي، على مفترقات الطرق وفي أحياء المدن، وأزقّة القرى وفي الوديان وعلى الهضبات وبين البساتين لنصطاد جنود العدو وآلياته. كان يوم الاحتفال عيداً عند الشيوعي ومأتماً لدى الإسرائيلي، وكانت الذكرى حافزاً ومحرّكاً لنا في سبيل إعادة النظر في أمور كثيرة، ومحطّة لوضع المهمّات وتحقيقها وإثارة الأسئلة. إنّ القائمين على السلطة يهتمّون بتشجيع ظاهرة الاحتفال بالماضي، وهمُّ هؤلاء استعادة بعض من الوهج السابق. لكنّ التاريخ يقول إنّ الهدف من مراجعة ما سبق، هو استخدام مجرياته من أجل الحاضر والمستقبل.
اليوم، أصبحت احتفالات التغييريين التقليديين أشبه بسلوك ديك مخصي مصاب بمرض عصاب الأسر وبخصاء ذهني، حيث البعد عن الناس واجترار المشاكل من دون قدرة على إيجاد الحلول. لقد تحوّلت الاحتفالات إلى كرنفال، أو قل إلى مسيرة في جنازة تعد بالآلاف يتقدّمها المحاربون القدامى وبعض صغار السن من الشباب والشابات، لتنتهي بقراءة الفاتحة والأخذ بالخاطر ولتتوَّج بالذكرى. أمّا الهتافات ورفع القبضات والخطابات الصادحة المأخوذة من الماضي البعيد، بلهجتها وتعابيرها التي تضج بالبلاغة وعلم الكلام، فلن تُعيد ألق الأيام الخالية.

عملية عاشوراء
لنعد إلى 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1983، ذكرى عاشوراء اقتربت: قادة من الحزب ومسؤول هيئة المقاومة خارج لبنان في مهمّة حزبية، والأعضاء الآخرون انتقلوا، لأسباب أمنية، إلى البقاع، وبقيت أنا والرفيق جوزيف في بيروت. ناقشنا فكرة تنفيذ عملية مسلّحة ضد الاحتلال، بالقرب من التجمّع العاشورائي، وبعد أيام وليالٍ أخذنا القرار الصعب بالتنفيذ. والهاجس كان حيال احتمال حصول مجزرة مروعة، وهو تحدٍّ لا يمكن لعاقل أن يتحمّل وزره. لكنّ الإغراء يتعلّق بأن ننفّذ «مجزرة» بجنود الاحتلال، تشكّل محطّة ونموذجاً لتكرارها، لتكون بداية لكسر معنويات الصهاينة وشحذ معنويات الناس للتعجيل بطرد الاحتلال، والقرار الذي توصّلنا إليه كان نتيجة دراسة ميدانية لمراكز الاحتلال في المدينة والدوريات وطبيعة ردّة فعل الناس وقدرة العدو على القتال. وبعد التحليل والدراسة، بدأنا نعدّ العدة، ورغم ذلك بقيَت أيدينا على قلوبنا، بينما وُضعت استقالتنا نحن الاثنين في جيوبنا، في حال حصول الأسوأ رغم النوايا الطيّبة، علماً بأنّنا ألغينا في السابق العديد من العمليات العسكرية، لأنّ كان لها أن تطال مواطناً واحداً.
ليس أمام الانتفاضة إلّا الاستمرار وأخذ الدروس والعبر خدمة لأهدافها المحقّة لكونها تعبّر عن مطالب غالبية الناس


بدأت الاتصالات، زيارات من بيروت إلى النبطية وبالعكس، وباشرت الرفيقة «سوزان» التنسيق. تسلّل الرفيق جوزيف، مع قادة مجموعات من العاصمة، إلى الداخل، ثمّ عقدنا اجتماعات فرضت حضور قادة ميدانيين من النبطية إلى بيروت. كانت الرحلات تتمّ عبر الحواجز، بعضها كان في رحلات تستمر أياماً، وبعضها يتمّ سَيراً على الأقدام من النبطية إلى الريحان، إلى باتر عبر طرق ووديان. وكانت التعليمات تتم، بشكل خاص، بما يتعلّق بتحضيرات عملية عاشوراء. لكل رفيق «قبره» في جبانة النبطية، هذا القبر حُدِّد بالاسم والجهة، وكان على كلّ رفيق أن يزور «قبره» في وقت محدّد. وعشية التنفيذ يتوجّه إلى الجبانة، يضع الورود ويقرأ الفاتحة ثمّ يعود مسلّحاً بقنبلته أو رشاشه. اقتضت الخطة أن يرمي رفيقان قنبلتين على الإسرائيليين، عند اكتمال التجمّع قرب «الجبّانة»، بينما ينتشر آخرون بين الجموع؛ واحد يحمل قنبلته وآخر تموضع في نقطته في السوق التجاري، والقنبلة في جيبه، وثالث يقف على طريق زبدين مع قنبلته، بالإضافة إلى ثلاثة مقاوِمين ينسّقون مع التنظيم الأساسي للمدينة، وهم من الاحتياط، يتدخّلون وفق ظروف المعركة، على أن يستخدموا قنابلهم المخزّنة في ثلاثة قبور اعتادوا عليها. وكانت الخطّة تفرض أن يكون كلّ رفيق مرتبطاً بخلية لا تعرف الأخرى، وكل ذلك كان منسَّقاً وفق آلية تمنع على أحد معرفة نوعية عمل الآخر. في اليوم المنشود، اكتمل الحشد الجماهيري. رفاقنا من المدينة وأرجاء المنطقة وصلوا إلى الساحة، وانضموا إلى حشود كبيرة جاءت من قرى جبل عامل. سار الرجال والنساء، رافعين الرايات السوداء وشعارات «هيهات منّا الذلة»، وصدحت صرخات «التكبير» و«لبّيك يا حسين»، بينما كانت الحشود تجمع كلّ الناس، من جماهير حركة «أمل» ومناصري الحالة الإسلامية التي تحوّلت لاحقاً إلى «حزب الله». وكان هناك جموعٌ من جمهور الأحزاب القومية واليسارية، ومستقلّين، بالإضافة إلى أعضاء وأنصار نادي الشقيف، ومدرسة الراهبات، والتجمّعات الأهلية والمدنية، والكشّافة ومستوصف النجدة الشعبية، وأركان جبهة المواجهة الوطنية، ونقابات العمّال والروابط المهنية، وطلّاب وتجمّع العلماء والمشايخ وأهالي المعتقَلين... كلّ هؤلاء اجتمعوا تحت راية الإمام الحسين.
الحشد هو لأبناء الحسين (ع)، برغم اختلاف أفكارهم. هم جمهور من رفض مبايعة الفاسد، وقاد أوّل بؤرة ثورية في العالم غير آبه بموازين القوى وبالتحالفات ولا بالمرتدّين. ولم يقبل الانسحاب، ولا التراجع، أو الاستسلام، ولا الإغراءات. قاتل وصحبه الذين لم يبلغوا المئة، مقابل الآلاف، واستشهد في مواجهة الظلم والاستغلال والفساد وسارقي الناس، ليصبح المثل الأعلى والنموذج الأكبر في محاربة القهر والحرمان.
لقد أشاد بثورة الإمام الحسين، كلٌّ من غاندي وبرناردشو واللندي وغيفارا، كما نصح هوشي منه الجنود الفيتناميين، وهم ذاهبون لمقاتلة الجيش الأميركي بتذكّر شجاعة الإمام الحسين وصحبه، وأجاب ماوتسي تونغ أحد القادة الفلسطينيين لدى طلبه بعض النصائح، بأنّ من عنده الإمام الحسين ليس بحاجة إلى نصائح، ولقد قال لينين إنّ الإسلام دين أمّة مضطهدة، كما أنه عنصر مكوِّن للمشاعر الوطنية...
اكتملت مشهدية عاشوراء، وغصّت الساحات، وحان أوان الاحتفال. فجأة، بادر مقاومان، واحد من الحزب الشيوعي وآخر من حزب العمل الاشتراكي العربي، ألقيا قنبلتيهما في قلب سيارة جيب تحمل جنوداً للعدو. ضربة سريعة ومباغتة دسمة، وفي أوانها، أدت إلى مقتل وإصابة ستة جنود صهاينة. هاج جنود العدو، وقبل أن ينهمر الرصاص، بادر مقاوِم آخر بإلقاء قنبلة على جيب مليء بالجنود قرب الزهراء. ظهر الارتباك الشديد على جنود الاحتلال، وسط بحر هائج من الناس يصرخون بصوت واحد: لبيك يا حسين.
أصوات الرصاص في كلّ مكان، والجنود ينتشرون بفوضى، وفجأة ألقى مقاوِم قنبلة «الميلز» على دبابة فيها أكثر من خمسة جنود، كانت تسير في السوق التجاري، بينما هاجم مقاوِم شاحنة للعدو على طريق النبطية ــــــــ زبدين، وبدأت معركة عاشوراء، حقيقية ومختلفة هذه المرّة، وليست احتفالاً وتمثيلاً. أطلق جنود العدو النار بعصبية، وأصابوا بعضهم قبل الآخرين، واشتبك المنتفضون مع جنود العدو. هذا تعطّل سلاحه، وآخر تعرّض للطعن قبل مبادرته إلى استعمال سلاحه، وثالث جُرّد من سلاحه، وآخر داسته الجموع مع سلاحه، ومئات خلّصوا معتقلاً من أيدي عميل.
في تلك الساعات، خسر العدو نحو عشرين من جنوده، بين قتيل وجريح. ونجح المقاومون والناس، بإسالة دم اليزيديين الجدد، بسلاح القنابل والحجارة والسكاكين وعصي الرايات والحراب، وسيوف الإمام علي، التي قطعت رؤوس الأعداء الذين بادروا إلى الفرار في لحظات رعب مخيفة. وكان أوّل احتكاك مباشر بين مقاومي «جمّول» والناس، الذين تحمّلوا تبعات العملية، وهم يرقصون فرحاً في قلوبهم. لقد أصيب العشرات من المواطنين، وركض المقاومون الشيوعيون لحمل رفيقهم الآتي من ميس الجبل، الشهيد سهيل حمورة، الذي سقط وأصابعه تمسك بسكّينه الذي طعن به جنود العدو.
لقد تحوّلت مناسبة عاشوراء إلى انتفاضة جماهيرية عنيفة، اقترن فيها البكاء على الإمام الحسين، مع إيلام الأعداء .لقد فعلها الشيوعيون والمنتفضون في النبطية، وانتصر الخير على الشر، وقد تكرّر الأمر في مدينة النبطية ومنطقتها. كما حصل في سوق الاثنين في 23/08/84، حين نُفّذت عملية مزدوجة للمقاومين الشيوعيين، وشهدت منطقة النبطية حالات انتفاض شعبي كثيرة. وفي جبشيت، حصلت انتفاضة، قبل وعند وبعد اغتيال المجاهد الشهيد راغب حرب، واعتقال المجاهد عبد الكريم عبيد، حيث شكّلت البلدة النموذج الأرفع في الانتفاضات الشعبية والتي دفعت الثمن الغالي بمئات الشهداء والجرحى. ثمّ تحرّرت قبل عام من التحرير، ذلك أنّ المحتل لم يجرؤ على دخولها أو المرور فيها، بل كان ينتقم منها بإطلاق الرصاص على أحيائها من بعيد.

خيمتا النبطية وكفررمان
ها نحن نقفز إلى زمننا الراهن، إلى زمن الحراك الشعبي ضدّ السلطة الفاسدة، ونحن نعتقد بأنّ كفاح المقاوِمين الشيوعيين أزهر خيمتي النبطية وكفررمان اللتين استقبلتا مقاومين شيوعيين، ومن أحزاب وطنية مقاومة، وأهالٍ ومثقفين وجمعيات مدنية ومستقلّين من الأعمار والفئات والمِهن كافة... كلّ هؤلاء تجمعهم المعاناة نفسها. وكان لافتاً السلوك الوطني، المسكون بغريزة الطبقة العاملة، والذي تجلّى في مواقف تاريخية لاعتراض فقراء ومقاومي حركة «أمل» في كفررمان على الاشتباك، ولو بحجر، مع منتفضي البلدة... كما الموقف الذي تجلى بأخلاقيات المقاومة عند النائب محمد رعد، أو على لسان الباحث حبيب فياض الذي أصابه الحزن والأسى لرؤيته مشهد الاعتداء على المنتفضين في خيمتي النبطية وكفررمان، وكذلك للموقف المشرّف لبعض أعضاء بلدية المدينة، وكذلك للتجاوب الإيجابي إبان الحوار لقيادتي «أمل» و«حزب الله»، خصوصاً موقف العلماء بتحريم اقتتال الفقراء. لقد اندلعت انتفاضة 17 تشرين في لحظة تأزّم عام. وشكّلت هذه الانتفاضة حدثاً تاريخياً جماهيرياً بارزاً يُضاف إلى تاريخ وتراث العاميات الشعبية والانتفاضات ضد الاحتلال، بحضاراتها وسلميّتها وأساليبها وطالت في ذروتها ثلثي سكان الوطن، كما كادت أن تنتزع، على الأقل، المشاركة الفاعلة في السلطة، وتفرض مطالبها... ولكن ما الذي حصل؟
لجأ منتفضون إلى أساليب تناسب عقل السلطة القمعية، إن عبر قطع الطرقات، أو عبر الاشتباك مع القوى الأمنية، أو حتى اللجوء إلى الشتيمة وملاحقة المسؤولين في الأماكن العامة، وتخريب الممتلكات، واستخدام العدوانية ضد الآخر، وصولاً إلى لحظة تعليق المشانق. كلّ ذلك كان خطأ، كما أخطأ الذين هاجوا دفاعاً عن زعيم أو حزب أو حتى عن سلاح المقاومة.
إنّ كلّ ما يُثار اليوم، وكلّ ما يطرح، ما هو إلا هذيان وهستيريا، وليس أمام الانتفاضة إلّا الاستمرار، وما عليها إلا أخذ الدروس والعبر خدمة لأهدافها المحقّة، لكونها تعبّر عن مطالب غالبية الناس، وكلّنا يعرف أنّ المنتفضين هم الناس العاديون، ولا علاقة لهم بكلّ الأجندات الداخلية والخارجية. وكلّ موقف غير وطني، يمثّل قلّة ولا يمكن احتسابه على الغالبية من الناس.
ما تحتاج له الانتفاضة هو مراجعة تنبذ معها كلّ الأساليب التي تثير الحساسيات والانقسامات بين الفقراء. لكل واحد الحق الكامل بالنقد، فلا محرّمات، ولكلّ واحد قول ما يشاء، فتلك حرية تعبير، ولكن بالسياسة فقط، ولكلّ واحد الحق في تأييد الانتفاضة أو معارضتها... ولكن هناك ثوابت وطنية ومحرّمات؛ إنّ المطالبة بسحق الناس مُدانة، ومُدانٌ أيضاً كلّ من لديه أجندة شخصية أو فئوية، أو كلّ مرتبط بأجندات استخبارية أو خارجية.
* أحد القادة الميدانيين في جبهة المقاومة ضد الاحتلال

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا