يشهد واقعنا، اليوم، التباسات عديدة في أنظمة الحكم في مشرقنا العربي، لجهة المستند الفكري الذي تقوم عليه هذه الأنظمة، الذي يُراوح بين نظريتين، النظرية الليبرالية التي يرى فيها البعض حرية سياسية، والنظرية الاشتراكية التي يرى فيها البعض الآخر حرية اجتماعية، لذلك شئنا اليوم أن نعيد طرح فلسفة بديلة عن النظريتين المذكورتين، أطلقها أنطون سعادة في النصف الأول من القرن العشرين، والتي لم تأخذ حقها في الدرس والتمحيص، إنها الفلسفة المدرحية التي نحت سعادة اسمها من مصطلحَي المادة والروح.تُعد الفلسفة المدرحية، التي أطلقها أنطون سعادة من خلال كتاباته العديدة، فلسفة النظام الجديد الذي رمى من خلالها تحقيق وحدة سوريا الطبيعية، وتحقيق دولتها القومية الاجتماعية. ولئن حظيت الفلسفة الليبرالية التي أنشأها فلاسفة الغرب الرأسمالي، والتي فتحت الباب واسعاً أمام الحرية السياسية التي تتضمّن حرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحرية الإبداع الفني، وحرية البحث العلمي، بدون ضمانات في تحقيق الحرية الاجتماعية التي تُعنى بالعدل الاقتصادي، فقد لحظت الفلسفة الاشتراكية، التي أرسى قواعدها كارل ماركس، تحقيق العدل الاقتصادي من دون السياسي، فجاءت كلتا الفلسفتين من وجهة نظر سعادة قاصرتين عن تأمين شروط العدل السياسي والاجتماعي معاً.
إزاء هذا الواقع، قدّم سعادة فلسفته المدرحية التي تهدف إلى تحقيق العدل السياسي والاجتماعي، وقد وضع لها ركائزها الأساسية وقيمها الاجتماعية.
والمدرحية مصطلح نحته سعادة من مصطلحَي المادة والروح، إذ أن المادة عنده هي بشرية مكوّنة من الأجسام المتسلسلة من بعض العناصر، وهي المحيط الطبيعي بجغرافيته وجوّه وكنوزه الطبيعية. أما الروح، فهي بناء يقوم على المادتين الأساسيتين المذكورتين من الثقافات المتوالية التي تميّز أمّة عن غيرها من الأمم.

المرتكزات الأساسية
تتشكّل الفلسفة المدرحية من مرتكزات فلسفية وقيم اجتماعية أبرزها:
لقد حدّد سعادة غاية العقيدة الاجتماعية بقوله: «نعرّف العقيدة بأنها قومية اجتماعية، فهي قومية لأنها تقول بالأمة والولاء القومي، وهي اجتماعية لأن غايتها الاجتماع الإنساني المجتمع وحقيقته ونموه وحياته المثلى، والمجتمع الأكبر هو الأمة، ولذلك جاء في تعاليمه «أمة واحدة مجتمع واحد».
وكونه عدّ الإنسان كائن حاجات، لأنه يتميّز بصورة أساسية عن غيره من الكائنات الأخرى بكون حاجاته قابلة للتطور والتكاثر، وبكون سدّ حاجاته يستلزم قيام حركة جدلية بين الإنسان والطبيعة لتأمين حاجاته، لذلك عدّه الكائن التاريخي الوحيد، فالتاريخ الإنساني هو تاريخ تفاعل الإنسان مع الطبيعة لتأمين حاجاته المتطورة باستمرار وبحكم قدرة الإنسان على الخروج من علاقته مع الطبيعة من مستوى المباشر إلى مستوى التفاعل.
ورأى أن الدين في أصله، لا قومي ومنافٍ للقومية وتكوين الأمة، لأنه إنساني ذو صبغة عالمية ومع ذلك نجد في المجتمعات الإنسانية نزعة إلى اكتساب العقائد العامة صباغات وألواناً وأذواقاً من خصوصيات شخصياتها، فكل مجتمع يجب أن يرى نفسيته وشؤونه الخصوصية في معتقداته ومذاهبه، والواقع أن الدين واحد.
ولكن الأمم متعدّدة وفي احتكاك الأمم في ما بينها تتمسك كل واحدة بكل عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينية أم غير دينية لتحافظ على استقلالها الروحي، فلا تخضع لأمة أخرى بواسطة السلطة الروحية الدينية، ولذلك ظلت اسكتلنده كاثوليكية لكي تحتفظ بشخصيتها القومية ولا تذوب في إنكلترا... وهكذا لجأ الفرس إلى التشيّع ليتخلّصوا من سيطرة سوريا الأموية.
وقد قرّر سعادة أن مصلحة المجتمع فوق مصلحة الفرد، وقد قيّد جميع المرتكزات الفلسفية للمدرحية بمصلحة الشعب، فلا يعدّ الشعب يقاد بالدعوات لمبادئ تخدم غير مصلحته هو، إذ أن حياة الأمم هي حياة حقيقية تمكن من إحداث النهضة القومية في الوطن السوري، فالفضل يعود إلى أنه يمثل مصلحة الأمة السورية وإرادتها في الحياة، فسوريا تمثل للسوريين شخصيتهم الاجتماعية ومواهبهم وحياتهم المثلى ونظرتهم إلى الحياة والكون والفن كما تمثل شرفهم وعزتهم ومصيرهم، لذلك عدّ سعادة الأمة السورية فوق كل اعتبار فردي.
ويرى أن الحروب كانت منذ غابر الأزمان، وستبقى طالما أن المجتمع الإنساني ليس الإنسانية مجتمعة، ذلك أن الواقع الإنساني هو واقع مجتمعات، واقع أمم تتصادم وتتنازع موارد الحياة، وتتحارب وتظهر مواهبها ومؤهلاتها للبقاء في تأمين سلامتها وسلامة أهدافها قبل تأمين السلام، فكل تفكير في أعمال الإنسان وأغراضها يجب أن يبتدئ من أساس هذه المعرفة، من فهم الواقع الإنساني وفهم تاريخ الأجناس والأمم والمدنيات.
والدولة حسب سعادة شأن ثقافي بحت لأن وظيفتها، من وجهة النظر العصرية، العناية بسياسة المجتمع، وترتيب علاقات جزائية في شكل نظام يعني الحقوق والواجبات إما بالعرف وبالعادة في الأصل، وإما بالغلبة والاستبداد، فهي إذاً شأن سياسي بحت ومع ذلك فهي ليست شأناً غيرَ اجتماعي فكما أن الدولة لا وجود لها إلاّ في المجتمع كذلك السياسة لا وجود لها دون اجتماع.
لذلك، دعا سعادة إلى فصل الدين عن الدول من أجل تنزيه الدين عن الموبقات والمثالب، وفي دعوته إلى ذلك لا يرمي إلى فصل الدين عن المجتمع لأنه يؤمن بأن الدين يشرّف الحياة الاجتماعية ويحسّنها ويرقّيها، وهي دعوة نابعة من الإحساس بحاجة المجتمع السياسي السوري إليها.
رفض سعادة الدولة الدينية لأنها ضعيفة بطبيعتها، فهي لا تساوي بين أتباع مذهبها في الدين وأتباع الديانات الأخرى ولأنها تضطهدهم فإن التنافر سيكون سيد الموقف حتماً فهي لا تستطيع أن تجسد المساواة بين المواطنين.
ورأى سعادة لناحية العالم العربي سلك طريق المؤتمرات والمحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة لحصول تعاون الأمم العربية وإنشاء جبهة عربية، ولكن السيادة القومية يجب المحافظة عليها في جميع المحالفات، إن إنشاء جبهة عربية هو دعوة سعادة إلى الأمم العربية التي يهمّها الأمر ويتم تأليف هذه الجبهة بواسطة مؤتمر مشترك.
هذه المرتكزات الفلسفية للمدرحية جاءت في كتاب «المدرحية فلسفة النظام الجديد»، الصادر عن «دار أبعاد»، للكاتب الدكتور أسامة سمعان، حيث يمكن للقارئ أن يجد تفسيراً واسعاً لكل هذه المضامين الفلسفية التي تضع الحلول للمشكلات التي نعيشها، لكي نتمكن من العبور إلى التقدم والتطور.
أما قيم المدرحية فتتجسد في ما يلي: الحرية والحق، الحرية والديمقراطية التعبيرية، الحرية الاجتماعية، الواجب، النظام، القوة، الحق والخير والجمال (الاكسيولوجيا) والأخلاق، والمعرفة، التي سنعالجها في مقال آخر.
* كاتب لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا