ولد الإنسان وفي صلبه نقطة ضعف إن ألمّت به أصابته معنوياً، الخاصرة الرخوة، التي لا تبرح أن تأخذ حياته ومصيره رهينة طالما لم يستطِع أن يحرّر نفسه منها، ألا وهي العقدة الأزلية والمشكلة، عقدة الذنب. الأديان السماوية أجمعت على تعريف بدئها البشري مع عصيان آدم لمشيئة الله، سمِّيت بالسقطة الأولى، سبّبت لآدم التوبيخ والإحساس بالذنب ومن ثم الطرد من الجنّة إلى الأرض ومعه إبليس الذي سيعيث بحياته فساداً وشقاء، إلى أن يتعلّم الدرس ويستحقّ العودة إلى الجنة بعد عبور امتحان الجدارة.رائد علم النفس التحليلي سيغموند فرويد فسّر نشوء عقدة الذنب، بأن الإنسان آثر أن يستقيم في قامته من وضع انحنائه الذي كان يعاني منه بحسب نظرية النشوء التي أطلقها داروين في نظريته حول التطور من مرحلة القرد إلى مرحلة الإنسان.
بمعزل عن هذا النقاش، فالنتيجة كانت أن الإنسان وقع بالفعل في امتحان لكسب حريّته كما كان يأمل، أخطأ بالنتيجة في الاختيار، واستحق العقاب. شعر بالذنب بعد طرده من مسكن الأمان، وهُجِّر إلى مكان يخضع فيه لتجارب تعلّمه أصول الطاعة، ثم اكتساب حقه في العودة إلى النعيم. كان عليه بعد السقوط الكبير، أن يتسلّق معنوياً وأخلاقيَّاً وروحيَّاً وعقليَّاً وفكريَّاً وجسديَّاً، لكي يستحق عن جدارة الرجوع إلى الجنّة، باذلاً كل ما تخوِّله ملكاته الذاتية، هذه المرة، لإثبات حقِّه بنفسه وعن جدارة واستقلالية وتصميم وثبات وكلّ خصال الكائن المخلوق من خالقه وعلى صورته ومثاله.
تقول الأديان الإبراهيمية جميعها بأن على الإنسان أن يتوب عن أخطائه ويعود إلى خالقه ويطلب السماح والغفران لكسب رضى الخالق. ومن أجل كسب حق العودة إلى الجنة وبعدها القيامة وكسب الحياة الأبدية. لماذا شرط التوبة للحصول على الخلاص؟ والتوبة عن ماذا؟ عن أي خطيئة ارتُكبت ولم يعترف صاحبها بالخطأ، فسببت له عقدة الذنب إذا لم تُحَلّ وقفت حاجزاً بينه وبين رؤية الحقيقة وتحقيق ذاته وحريته واختيار مصيره. وهذه هي بالتحديد المهمة التي من أجلها أُعطي الإنسان نعمة الحياة ليثبت حقه فيها. وعلى الجميع، فرداً فرداً، وجماعة جماعة أن يجتازوا عقدة الذنب، ليستحقوا العبور إلى النجاح والنجاة.
العلوم الفلسفية والدينية والعلمية والسيكولوجية النفسية، إلى جانب التجارب وعلوم التاريخ، كشفت أن العقبة الكبرى التي يتوجب على الإنسان الانتصار عليها، هي في حقيقة الأمر نفسه وذاته، وأن العائق بينه وبين نفسه، وفي «لاوعيه الذاتي» هو إحساسه بالذنب من خطيئة ارتكبها في الزمن الأول.
لا بدّ للإنسان من أن يتحرّر من عقدة الذنب ومن العبودية للخطيئة ويكسر كلّ قيودها وما يستتبعها من الخوف والقلق والجهل والغيرة والحسد والغرور واللا استقرار والنكران للذنب، وبعد الإنكار يأتي عقاب الذات، حتى التلذّذ بالفشل والانهيار والسقوط في الهاوية حيث الشيطان، المُجَرِّب بانتظاره. الحل لتفادي الفشل في تجربة الحياة على الإنسان التخلّي عن الإحساس بالذنب، بطلب الغفران إذا ارتكبه، ويرفض قبوله، إذا كان اتهاماً خاطئاً أو اعتقاداً لاواعِياً كي يستعيد نفسه من أجل أن يصل إلى الحرية والتحرر ومعرفة الذات ومواجهتها في أخطائها والشجاعة في أخذ القرار في تصحيحها والوصول بها إلى شاطئ الخلاص والأمان. تلك هي المهمة، التحدي، الكبرى التي على الإنسان الاستعداد لمواجهتها إذا شاء أن يقول إنني أكملت مهمتي على هذه المسكونة.
تأثير عقدة الذنب في حال عدم مواجهتها يصل إلى حدّ المفعول العضوي، بحيث ينتقل من جيل إلى آخر، إن لم يكن فيزيولوجيّاً فبطريقة المعاملة أو التربية، هذا السؤال الذي لم ينقطع منذ أيام آدم إلى اليوم هو حبل السرّة العضوي، الذي لا زال بيد الخالق ولم يسمح بعملية الولادة أن تتم، والذي يجب على كل فردِ أن يقطعه من الجسد عضويَّاً، والإبقاء على الجزء الروحي منه المتَّصل بالله. والصلة بين إنساننا الآن وخطأ ارتكبه آدم في زمنه ليست بعيدة المنال، إذ ما زال الإنسان يخطئ في الاختيار وفي إيجاد نفسه ومعرفة ماذا يريد وطريقة الوصول إليه إلّا إذا تجرّأ على أخذ زمام الأمور بيده، وتحمّل مسؤولية تحقيق خلاصه بنفسه، لذا يُقال المسؤولية تؤخذ ولا تعطى، وإذا لم تحتلّ مكانك، سيأتي من يحتله عنك. المبادرة في يد الفرد ولن يمنحها إياه الشيطان، بل يأخذها منه. لبنان الآن على حافة الهاوية ولن تتغير الأمور إلا بالبدء بتجديد الذات الفردية اللبنانية وتحقيق التحرر الفكري الجماعي بعد التخلي عن عقدة الذنب. والسعي إلى الكمال «على صورة الله ومثاله». بعد ذلك يأتي دور الإنسان لبذل جهد أكبر والكدّ بغاية تحقيق حياة أفضل له ولمَن حوله ولوطنه وأمّتِه. من هنا تأتي مقولة إن السياسة هي فنّ الممكن، مع حسم شرطِيَّة التعادل عِند الانطلاق. تخلّيك عن عقدة الذنب هو الإقرار لنفسك بأن أخطاء الخلق أو الكون ليست من ضمن ذنوبك أو نتيجة خطأ أنت تسببت به، ذلك لوحده يحرّرك من حمل هم الدنيا والتحرر روحياً وفكرياً والانطلاق لتحقيق ذاتك وقدراتك بمعزل عن كل الآخرين ومدى اقتناعهم بما تقوم به، ولا يضعك في موقع المستأذن منهم الموافقة على الانطلاق لتحقيق ذاتك، تلك هي النتيجة الطبيعية للحق الإلهي المعطى لك وللآخر بفعل الخلق الذي ساوى بين الجميع، بالجسد والروح والعقل، ومن هنا تأتي فكرة المساواة في الحق بالوجود والتفكير وحق تحقيق الذات على مختلف الصعد الإنسانية، ويصبح ما هو حقٌ لغيرك حقّاً لكَ بنفس القدر والمساواة، إِلا بما يميّزُك عن الآخر، أو يمَيز الآخَر عَنك بقدر ما تقدّرُه لك طاقاتُكَ، أو تُقَدِّرُهُ لَهُ طاقاتُهُ إنتَاج الأفضل، ويجب أن يكون هذا التمايز في الإنتاج مسلَّمَاً به ونتيجة طبيعية ومقبولة لدى الطرفين وحقَّاً ممنوحاً بحكم الخلق الذي ساوى بين الجميع وخلق الناس بالخلق متساوين. وامتلاك كُل فرد لحُرِّيَّتِه الذَّاتِيَّة يُوَحِّدُه مع الآخَر والآخرين استطراداً، للتقدم كأمَّة ودولة والدفاع عن الأمة واستمراريّتها.
الانطلاق من خلوّ الفرد من عقدة الذنب والتي اكتسبها الإنسان بعد إتمام عمليَّة الخلق، وليس قبله، إذ كان الضعف نتيجة التركيبة، وأعطِي الخِيار بسبب الإرادة الحرة والتي لم يكن بعد مهَيَّأً لتحمُّلِ تبعاتها، فأخطأ وكان اختياره خطأ بسبب ضعف تركيبته الممنوحة له في الخلق والتي فُرضت عليه كما هي ولم يكن له يدٌ فيها، فيزيولوجياً ونفسياً وروحياً وعقلياً. ذلك كان آدم، أمّا أنت فما دخلك؟! كان ذلك منذ آلاف السنين، لم تكن هناك، أنت الآن وهنا وورثتها كذلك، ليس لذنبِ فيك، وإنَّما نتيجة التتابع والانتقال بلاوعي وبإجحاف الطبيعة البشريَّة الظالمة. اقطعها أنت وجدد نفسك وخلّصها من ذاك الذنب الموروث الذي لا يد لك فيه وانطلق. اقطع مع الماضي السحيق وانطلق من حيث أنت متحرّراً من كل شيء وانطلق من جديد ولا تفاوض أو تساوم على حرّيتك أو براءتك. لم تذنب. الذنب إذا بقيت كما أنت، أو سلَّمت بخنوعِك للذنب. سامح نفسك وتصالح مع الخلق وانطلق السماء هي حدودك.
أما الكلام عن العلمنة، وفصل الدين عن الدولة، والدولة المدنيّة، فهو النتيجة التلقائية، الطبيعية، بعد إتمام عملية التخلّي عن عقدة الذنب عند الفرد والتتالي إلى المجموع فالدولة فالأمّة، يصبح الحق الطبيعي لكل فرد حسب اختياره التعبد والاعتقاد بالدين الذي يشاء حسب قناعته وراحته واختياره الشخصي بملء إرادته. خصوصاً إذا كان يساعده على الوصول لنفسه وإلى الاستقرار الروحي والنفسي والخلاص. مع احتفاظه بحقِّه بالاعتقاد والعبادة وما يؤمّنه له التحرر من الذنب من تحقيق ذاته والانطلاق بحريّة بموازاة حقِّ مساوٍ للآخر يكون تحقق مبدأ المساواة في الحقوق تجاه دولة مدنية علمانية تستطيع النمو ضمن القوانين المدنية مستقلة عن الانتماءات الدينية، لأن الجميع أصبحوا متساوين بعد إسقاط عقدة الذنب.

* مهندس وباحث

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا