«سيادة الرئيس... إنّنا في هذا الذي رأيناه لهم... رأينا مقتلهم»سأله جمال عبد الناصر: «أين ذلك؟»
أجاب: «الغرور!»
هكذا عقّب الفريق عبد المنعم رياض على ما عرضه اللواء حسن البدري، الذي أُسندت إليه مهمّة تقصّي أسباب الهزيمة العسكرية في حزيران/ يونيو، من تسجيلات للجنرالات الإسرائيليين بأصواتهم وصورهم على شاشة في بيت منشية البكري. في تلك الجلسة التي حضرها قادة عسكريون آخرون، قال رياض، على ما روى الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي كان حاضراً ومتابعاً:
«إنّ جولة جديدة من الحرب في سيناء محتّمة لاعتبارين. الأول: استعادة الأراضي المحتلّة في سيناء بقوة السلاح، وذلك هو نصّ تكليفه برئاسة أركان حرب القوات المسلّحة... والثاني: استعادة الثقة في النفس وضمان سلامة المجتمع بالنظر إلى مستقبله، وذلك موضوع نقاش مستفيض أجراه مع عبد الناصر». بكلمات قاطعة في معانيها ومباشرة في رسائلها: «أرجوك يا سيادة الرئيس ألّا تقبل عودة سيناء بلا قتال حتى لو عرضوا عليك الانسحاب الكامل منها بلا قيد أو شرط».
«لا مستقبل لشعب يتعرّض لاحتلال أراضيه، ثم لا ينهض لحمل السلاح مستعداً لدفع فواتير الدم». «أقول وقد تابعت التاريخ العسكري بشكل أو آخر: هذا الذي سمعناه فيه درجة من الغرور أكبر بكثير ممّا تسمح به حقائق القوة... سوف نستطيع أن نفاجئهم وأن نضربهم من دون أن يتصوّروا ومن دون أن يقدروا التقدير الكافي... لقد لمحت الثغرة التي نستطيع منها أن نتقدّم لكي ننال منهم... وهي ثغرة الغرور، المهم بالنسبة إلينا... هو المفاجأة».
في أعقاب الهزيمة الفادحة، وضع عبد الناصر ثقته في رجُلَين، الفريق أول محمد فوزي قائداً عاماً، بِرِهان أنّ شخصيته الحازمة تعيد الانضباط المفقود إلى القوات المسلّحة، وتساعد في إعادة بنائها من تحت الصفر تقريباً، على أسس حديثة... والفريق عبد المنعم رياض رئيساً لهيئة الأركان، بِرِهانٍ على كفاءته في التخطيط العسكري والقيادة الميدانية للقوات المحاربة.
لم يتسنَّ لرياض، الذي وضع أول خطة عسكرية مصرية لتحرير سيناء، أن يشهد ما كرّس حياته من أجله، فقد استشهد يوم 9 آذار/ مارس 1969، على جبهة القتال الأمامية، وكان استشهاده مُلهِماً لمعنى القتال وقضيّته. ثم لم تسمح الانقلابات السياسية التي أعقبت رحيل عبد الناصر في 28 أيلول/ سبتمبر 1970 لفوزي بأن يكون حاضراً في المشهد عند عبور الجسور بقوة السلاح في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، كان قد أُدخل السجن بتهمة التآمر في 15 أيار/ مايو 1971، على قلب نظام الحكم. كانت تلك محاكمة سياسية، فلم يكن هناك تآمر كما هو ثابت ومؤكّد. هكذا غاب ذكر الفريق أول فوزي، «أبو العسكرية المصرية الحديثة»، في الأحاديث الرسمية على مدى عقود.
كانت حرب الاستنزاف لثلاث سنوات، التي قادها فوزي ورياض، هي بروفة «حرب أكتوبر». قدمت سنوات الاستنزاف الفريق سعد الشاذلي إلى منصب رئيس الأركان، منقولاً من قيادة منطقة البحر الأحمر وخليج السويس في الوقت الذي أوكلت فيه مهام وزارة الحربية إلى الفريق محمد صادق، الذي خلفه الفريق أحمد إسماعيل علي (المشير في ما بعد)، على رغم نفور شخصي بين الاثنين بدأ من الكونغو، حيث كان الشاذلي يقود كتيبة وضعتها مصر تحت علم الأمم المتحدة في فترة المد الكبرى لحركة التحرّر الوطني في أفريقيا ـــــ وفي الوقت نفسه كان أحمد إسماعيل علي مكلّفاً بمهمة للتفتيش على القوات المصرية هناك، ووقع احتكاك بين الرجلين أدى إلى جفوة ترسّبت آثارها في النفوس، وفي حين أنّ الفريق أحمد إسماعيل كان يمارس مسؤولياته بنظرة عامة واسعة، فإن الشاذلي كان له مقدرة الدخول إلى أدق التفاصيل في وضع الخطط.
كان البطل الحقيقي للحرب هو المواطن المصري العادي. قاتَل بضراوة عن اقتناع وإيمان بأنّه يحارب معركة المصير، وأنّ النصر فيها يفتح صفحة جديدة تعطي أملاً في المستقبل


كانت تلك رؤية عن قرب لتعقيدات العلاقة بين أهم عسكريين في حرب أكتوبر كتبها الأستاذ هيكل. بالقدر ذاته، حاول أن يلفت الانتباه إلى أنه كان قد تكامل معهما رجل ثالث ـــــ المشير في ما بعد ــــــ عبد الغني الجمسي مدير هيئة العمليات، وكانت كفاءته قادرة على إعطاء الخطط حياة خارج الورق، وفي إطار علاقات سمحة مع بقية أفرع القوات المسلحة.
فيما سجل الشاذلي وعبد الغني الجمسي وقادة آخرون، مثل اللواء عبد المنعم واصل، شهاداتهم على التاريخ، فإنّه لم يتسنَّ للمشير أحمد إسماعيل علي أن يكتب روايته للأحداث. عندما رحل، طلبت حرمه من الأستاذ هيكل أن ينظر في ما ترك من أوراق، كان تقديره أنها لا توفّر أيّة مقوّمات لشهادة متماسكة، وغادر المنزل من دون أن يأخذ معه شيئاً.
رغم ذلك الخلاف المعلن بين القائدين الكبيرين، لم يكن أحد في مركز القرار يودّ ذكرهما، أو أن ينسب لهما فضلاً. إسماعيل غاب اسمه تماماً، بعد رحيله عام 1975، والشاذلي جرى تشويهه بادعاء لم يثبت أبداً أنه انهار عندما حدثت الثغرة في الأيام الأخيرة للحرب. نفى الجمسي، الذي لم يؤيد وجهة نظر الشاذلي في الثغرة وطريقة مواجهتها، أن يكون قد انهار كما ادعى السادات. في النهاية، حصل الشاذلي على ما يستحق من رد اعتبار، فيما لم يحصد إسماعيل على أيّ تقدير يستحقّه، حتى يفسح المجال كاملاً لرجل واحد في المشهد، «بطل الحرب والسلام ــــــ أنور السادات» مرة، و«صاحب الضربة الجوية ـــــــ حسني مبارك» مرة أخرى.
«لماذا لم تذع حتى الآن وثائق سنة ١٩٦٧؟... ولا أعلنت وثائق حرب أكتوبر؟» في خريف عام ٢٠٠٩، وجد هيكل نفسه أمام سؤاله بطريقة لم تخطر له على بال. فقد ألقى اللورد ديفيد أوين وزير الخارجية البريطاني الأسبق، مداخلة مطوّلة أمام دارسين في القاعة الشرقية في الجامعة الأميركية، مدعوّاً من «مؤسسة هيكل للصحافة العربية»، قال فيها: «إنّ مصر هزمت في حرب ١٩٧٣». كانت تلك صدمة هائلة للصحافيين الشبّان، وكادت تفلت مشاعر الغضب عن كلّ قيد.
لم تكن حرب أكتوبر موضوع محاضرة اللورد أوين، ولا كان مقرراً استدعاء شهادته عمّن هزم وانتصر فيها. كان موضوع محاضرته: «الاعتلال في السلطة... الصحة البدنية والنفسية للزعماء وتأثيراتها على الحكم وصنع القرار». ما قاله عن حرب أكتوبر خيّم على المناخ العام كلّه في مصر. في مساء اليوم نفسه ــــــ الأربعاء ١٤ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٩، والضجّة تتفاعل والصخب يتّسع، سألت الأستاذ هيكل: «عليك أن تتوقّع حملة ضارية باعتبارك الرجل الذي دعاه لإلقاء محاضرة في القاهرة... ماذا تنوي أن تقول، أو تفعل؟». قال: «ولا أيّ شيء». «كل ما لديّ كتبته بالوثائق والتفاصيل، ولا أحد بوسعه أن يشكك في موقفي، فضلاً عن أنّه لا يصحّ أن أقول لرجل تولّى وزارة الخارجية البريطانية، بين عامي ١٩٧٧ و١٩٧٩، عاصر المفاوضات المصرية ـــــــ الإسرائيلية وأطلّ من موقعه على موازين القوى، ماذا يقول أو لا يقول، وأنت تعرف أنّ النخب الغربية في أغلبها تذهب مع أوين في ما ذهب إليه». «ثم لا تنسَ أنّ العالم ينظر إلى النتائج السياسية لأيّ حرب، والباقي كله معروف».
بمضيّ السنين، تبدّت في أجواء الكرنفالات المصطنعة خشية إضافية من أن تبهت الذاكرة العامة وتضيع المعاني الكبرى. كان البطل الحقيقي للحرب هو المواطن المصري العادي. قاتَل بضراوة عن اقتناع وإيمان بأنه يحارب معركة المصير، وأن النصر فيها يفتح صفحة جديدة تعطي أملاً في المستقبل، رابض في خنادق القتال الأمامية ست سنوات كاملة، وأجّل حياته الإنسانية وتلخّصت أحلامه في القتال والثأر، خاض خلالها حرب استنزاف طويلة، وعندما عاد من ساحات القتال وجد مصر أخرى غير تلك التي حارب من أجلها قبل أن يجد نفسه أمام نوع من السلام تتابع الآن مشاهده في هرولة نظم عربية عديدة للتطبيع مع إسرائيل على حساب أي معنى حارب من أجله ذات يوم.

* كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا