درست في الجامعة مادة الفلسفة والأدب، وكان أدب جان بول سارتر من مختارات المادة. اخترت له مسرحية «الذباب»، المستندة إلى أسطورة يونانية قديمة، هي أسطورة أورست في أرجوس. وفيها قتل أخيسنوس أخاه أجامنون والد أورست، وتزوّج من كليمنسترا أرملة أجامنون ووالدة أورست، وكان أخيسنوس يحكم المدينة وهو عارف بالذنب وأنّ الندم يربط العرش بالشعب، وذلك لأنّ دين الدولة هو دين قمع الشهوات والتوبة ومن يشعر بالندم يأكله الذباب، وكانت أخت أورست ألكترا تعيش مع أمها وقاتل أبيها مغتصب العرش عيشة العبيد. وتنتظر أن يأتي أخوها يوماً، لإنقاذ المدينة وإنقاذها. يعود أرجوس إلى المدينة، يقتل أخيسنوس قاتل والده ومغتصب السلطة ويقتل والدته كليمنسترا. ولا يشعر بالندم، ولكنّ أخته تسأله إن كانت أمها تألّمت، فيحذّرها حتى لا تقع في الندم ويأكلها الذباب.مع تعدد الأفكار في هذه المسرحية الرائعة، تبقى في الأساس مسرحية مقاومة، أوقف الاحتلال الألماني تمثيلها في باريس عام 1943. وفي اختصار، يمكن وضع الترسيمة التالية:
ــ إيجيست: يمثل الاحتلال
ــ كليمنسترا: تمثل العملاء
ــ أورست: يمثل المقاومة
ــ ألكترا: تمثّل عامّة الشعب
في المسرحية إشكاليتان أساسيتان طرحتهما على طلّابي في الجامعة اللبنانية، وفي جامعة آزاد الإسلامية.
1 ــ أورست قتل المحتل، وقتل العملاء للمحتل بشخص أمه، يعني عامَل العملاء كأسيادهم المحتلّين؛ بحسب ما يقول ماوتسي تونغ
2 ــ أورست: ترك المدينة ورفض أن يتسلّم الحكم فيها
أخذت هاتان الإشكاليتان مناقشات مستفيضة، خصوصاً في صف الفلسفة في جامعة آزاد، الذي كان يجمع خيرة طلّاب العلوم الدينية العاملين في حزب الله. وكان النقاش تركّز بشكل أساسي، على سؤال «هل يحق لأوغست بعد تحرير المدينة أن يتركها وشأنها، وأن لا يشارك في إدارتها؟» خصوصاً أنّ ما فعله أحدث متغيّراً أساسياً، يُعتبر مسؤولاً عنه، فيما ترتب عليه من آثار. وأعطيت أمثلة، من مواقف الشيوعيين في فرنسا من الرئيس شارل ديغول، إلى الثورة في الجزائر، إلى فيتنام، وبقية الثورات في العالم؛ حول حق الثورة في تسلّم السلطة بعد تحرير البلاد من الاحتلال.
وعليه، فانطلاقاً من هذا المذهب للحركات الثورية السابقة عليه، قام سماحة الأمين العام، بعد تحرير عام 2000، بزيارة إلى رئيس الجمهورية في قصر بعبدا. يومها، حصل نقاش في الصحافة اللبنانية بشأن هذه الزيارة، والمعاني المتضمّنة فيها. وأذكر أنّ المرحوم جوزيف سماحة كتب في جريدة «السفير»:
السيد حسن نصر الله لا يحقّ له فقط زيارة قصر بعبدا، في قواعد كلّ الثورات في العالم من يحرّر البلاد يصبح حاكماً في قصر بعبدا.
ذلك هو المنطق العام الذي لا ينطبق على ما في لبنان من خصائص تركيبة نعرفها جميعاً بالتفصيل المملّ.
لم يحاسب حزب الله العملاء كأسيادهم، وفق آراء سارتر في «الذباب» وماوتسي تونغ وغيرهما من فلاسفة وقادة الثورات والمقاومة. وفعل ما فعله أورست بأن ترك الحكم في البلاد للآخرين، مكتفياً بالمشاركة في البرلمان، وإعداد قوة المقاومة، لتحصين لبنان من العدوان، وأنشأ قوته الصاروخية التي أقامت توازن الردع، الذي نعيش في ظلّ ما فرضه من قواعد الاشتباك، ورسم خيوطاً صريحة للحرب والسلام.
استمر هذا الوضع حتى عام 2005، وقد حصلت في هذه الفترة متغيّرات، دولية، إقليمية، وعربية عديدة، من أهمها:
1) المواقف الدولية التي عبّرت عنها دراسات الهيئات المختصّة في الأمم المتحدة حول مسائل التنمية والحرية والديمقراطية والنظام الرشيد وتمكين المرأة... إلخ، والتي وجّهت انتقادات قوية إلى طبيعة الأنظمة العربية.
2) انفلات موازين القوة لمصلحة الأحزاب الإسلامية (الإخوان المسلمين) على حساب الحركات القومية في بلدان عربية عدّة ــــــ الوضع داخل فلسطين نفسه انقلب لمصلحة الحركات الإسلامية، «حماس» و«الجهاد»، بعد الوهن الذي لحق بحركة «فتح»، بعد مرحلة قيادة ياسر عرفات، وبعد الذهاب إلى التسويات على حساب فصل المقاومة.
تطوّرت هذه الأحداث في ظل علاقات دولية مشجّعة أوصلت الأمر إلى قيام مرحلة الثورات العربية. وكانت هناك بداية تحوّل في نشاط تنظيم «القاعدة» والإرهاب التكفيري، من مرحلة الحرب في أفغانستان والحرب في العراق إلى بناء الخلافة الإسلامية، وتدمير النظام العربي الإقليمي، وهدم بنيان الدولة في أكثر من قطر عربي.
وكان انتهاء مرحلة الحريرية السياسية الأولى المتعلّقة بإعادة إعمار لبنان والسير في لعبة التوازنات الجديدة، وما ترتّب عليها من آثار سبقها اغتيال الرئيس الحريري، من قبل قوى تريد أن تُدخل لبنان في أتون التغييرات العربية، ثم ما تلاه من انسحاب القوات السورية من لبنان، وصدور القرار 1559، وحصول فراغ في مكان ما في السلطة اللبنانية، يهدّد المقاومة ويؤدي إلى الفوضى العامّة.
كان النقاش في حزب الله يدور حول كل مشاركة في السلطة. دار نقاش صعب ومهم حول المشاركة في البرلمان، ومن عاش تلك المرحلة يعرف حيثياتها، وتمّت الموافقة على المشاركة في البرلمان، للدفاع عن حقوق الناس، لكن بقي الحذر من المشاركة في الحكومة لأسباب سياسية، ومنها فقهية باعتبار ما يترتب على المشاركة في سلطات تنفيذية، قد تكون بائدة أو فاسدة في مرحلة من المراحل.
وفق نظرية ولاية الفقيه، يلزم المشاركة في الحكومة، لأنّ ولاية الفقيه تشرّع الفعل السياسي. وعليه، تكون المقاومة مسؤولة عن الآثار المترتبة عن المتغيّرات التي تحدثها في النظام السياسي العام. تماماً كما كان الأمر في نقاش موقف أورست في الذباب، وغيره من أدلّة فلسفة العقل السياسي، أو ما يُسمى الدليل العقلي.
المقاومة حرّرت لبنان من الاحتلال، وعليه فإنّ الآثار المترتّبة على هذا التحرير، يجب أن لا تتركه للعبة اللاعبين، والعالم من حول لبنان يضجّ بالمتغيّرات: حركات إسلامية عدّة، تُظهر علانية سعيها للوصول إلى السلطة، تبدّلات كبرى على مستوى موازين القوى، تراجع حركات كانت حاكمة لمصلحة أخرى. تسعى دول كبرى لفرض أنظمة جديدة في المنطقة، وهناك بداية الحرب الناعمة وتعميمها، ولبنان في قلب هذا الصراع وليس بعيداً عنه. وعليه، فإنّ القرار الصائب الذي اتخذته قيادة المقاومة الحكيمة، كان المشاركة في الحكومة، لتثبّت قواعد ومكتسبات التحرير وحماية المقاومة من العدو الصهيوني في سياق الإعداد للحرب التي كانت قائمة بشكل صريح وفعّال، وحماية لبنان من دفع ثمن المتغيّرات من حوله، كما حصل مع اغتيال رئيس وزرائه، وما تبعه من دفع الوضع فيه إلى حافّة الفوضى والفتنة، وربما الحرب الأهلية، وجلّ الفراغ الذي تركه الانسحاب السوري، وما أحدثه من خلل في تركيبة السلطة، اعتادت الاستعانة بالدور السوري لإقامة توازناتها.
في هذا المناخ الدولي والإقليمي والوطني، قرّر حزب الله دخول الحكومة، وهو قرار حكيم وصائب، وفي لحظته التاريخية المناسبة، ولا تزال الحاجة إليه قائمة، وهو متّفق مع الفعل السياسي، ومقوّمات الفقه السياسي لحزب الله، من باب اعتباره حزباً يقيس المواقف على قواعدها العقلية والنقلية.
وعليه، فإنّ ما تقدّم يُظهر أدلّة من الأدب السياسي العالمي، والمسؤولية المترتبة عن حدوث آثار للفعل. وهو ما يتّفق مع ولاية الفقيه، بما هي إقرار لمشروعية الفعل السياسي، وحمل على تحمل المسؤولية والتصدّي لها وهو ما كان متحقّقا واقعياً.
وفق الوقائع السياسية المحيطة في لبنان في تلك المرحلة وما رافقها من حوار داخلي في حزب الله، وكيف أدى هذا القرار، إلى إنتاج القرار الحكيم والصائب، والذي لا يزال يحافظ على مشروعيّته وقوانينه وحكمته، فإنّ ذلك لم يحصل عن عفو الخاطر، أو في غفلة، ومناسبة عابرة، ولكنّه حصل استجابة للوقائع ونظر العقل والنقل، وهو صورة حقيقية عن رسم السياسات الواقعية.
لقد أثبتت هذه المشاركة في الحكومة فعاليّتها في أمور عدّة منها:
1 ــ ردّ أخطار في حرب تموز، وإعادة الإعمار، وتثبيت قواعد موازين القوى مع العدو بعد الحرب.
2 ــ منع قوى داخلية من أخذ البلاد إلى أتون فوضى عارمة، وتثبيت قواعد تشكيل الحكومات بنسخة وطنية مع الصعوبات المرافقة لها.
3 ــ حماية لبنان من أتون حرب الإرهاب التي كانت تهدّد بنيانه واستقراره.
4 ــ قيام مقولة الجيش والشعب والمقاومة كمقولة استراتيجية تؤمّن قواعد الدفاع الوطني.
5 ــ وضع حزب الله قواعد للعمل الحكومي، فعّالة، ابتعدت عن كلّ أشكال الهيمنة والمحاصصة والفساد.
وإذا كان لي شرف أن أكون أوّل وزير لحزب الله في حكومة نجيب ميقاتي، في عام 2005، فقد كنت قد شاركت قبلها في حوارات دولية حول متغيّرات عدّة، بمشاركة الصديق وليد شرارة، وكنّا نعرف ما يحدث حولنا من متغيّرات، ربما نكتب عنها سوياً، إذا سنحت لنا الظروف، آملين في أن يتحقّق ذلك بعون الله تعالى.

* كاتب ووزير سابق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا