في كلّ مرة تندلع الأزمات، تكشف معها عقم النظام السياسي القائم. تكشف، خصوصاً، عجز هذا النظام عن توليد المعالجات والتسويات والحلول. افتقر ذلك النظام، (في مرحلة الغلبة ما قبل الحرب الأهلية الأخيرة)، وفي مرحلة المساواة (ما بعد «اتفاق الطائف»)، إلى وجود بنية مؤسساتية تمكّنه من تدارك الأزمات، أو السيطرة عليها، وفق آليات داخلية قائمة في تلك البنية نفسها. ما يحصل، غالباً، أنّ مؤسسات الدولة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحتى الأمنية والعسكرية... تُشَل وتتعطّل، هذا إذا لم تنقسم، وفق خريطة طائفية ــــــ مذهبية ــــــ سياسية، كما حصل، خصوصاً، في الحرب الأهلية الكبرى(1975-1990).أحد أكبر أسباب هذا الوضع الشاذ، هو الحضور الخارجي المستمر في البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية. منذ التأسيس، قبل مئة عام، إلى اليوم، ما زال ذلك الحضور فاعلاً ومتعاظِماً باستمرار. اشتُقَّت للتعبير عنه، توصيفاً أو مديحاً، في جانبَيه الدولي والإقليمي (وحتى الصهيوني)، مُفردات ومعادلات، من نوع «الأمّ الحنون»، «السين سين»، «المرجعيات» الخارجية... لكنّ ذلك الخلل وسواه، لم يمنع من أن يُروَّج للنظام السياسي بوصفه صيغة «فريدة» لم يخلق الله لها مثيلاً في التميُّز والتفوّق!
لغرض المحافظة على منظومة المحاصَصة الطائفية والمذهبية، قناعاً وأداة لسيطرة تحالف الطغمة المالية وورثة الإقطاع السياسي والناسجين على منوالهم، تمّ التنكُّر لإصلاحات «الطائف». أدى ذلك إلى تكريس توازنات معطَّلة: ببدع وذرائع وتقاليد وأعراف متناسلة صُنِّفت تطبيقاً لـ«الميثاقية» الطائفية ومنظومتها التحاصصية، أو تعزيزاً لها.
الرئيس ميشال عون، الذي آثر أن يُسمي نفسه «بي الكل»، حالت منطلقاته وأهدافه الفعلية («استعادة الحقوق»)، دون أن يُضفي على هذا اللقب طابعاً مرجعياً ووطنياً عامّاً. اتّجهت حركته وتحالفاته، وفق ميزان قوى إقليمي تميَّز بالتراجع الأميركي، نحو السعي لاستعادة «امتيازات» ما قبل «الطائف»: لموقعه ولفريقه السياسي والطائفي. إدارة الظهر للإصلاح، وتغليب الفئوية، منعا رئاسة الجمهورية حتّى من مجرّد القدرة على عقد اجتماع تشاوُري بسيط لتبادل الرأي في عزّ اندلاع الأزمة.
أحد أكبر أسباب هذا الوضع الشاذ هو الحضور الخارجي المستمر في البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية


ولَّد النظام السياسي، بطبيعته وبفئوية أطرافه ونهبهم للبلاد وفسادهم وتبعيّتهم، انهياراً اقتصادياً مخيفاً. إفلاسٌ وخراب وسرقات، مارسها النظام المصرفي، بقيادة المصرف المركزي، أصيلاً ووكيلاً، كشفت البلاد على الفشل والمجاعة والتفكّك والفوضى... وهكذا، كان على «لبنان الكبير» أن ينتظر مدداً خارجياً ما، فكان حبل النجاة من الطرف نفسه (الفرنسي) الذي لعب دوراً حاسماً في بناء صيغة التقاسم الطائفي، كأساسٍ للمشاركة في السلطة ولتوزيع النسب فيها، وبالتالي، لإدامة الانقسام، ومعه الضعف والتبعية والعجز والفشل.
ليس لفرنسا، في توازنات الوضع الدولي والإقليمي واللبناني، شأنٌ مهم. هي رغبة رئيسها في استعادة دور في المنطقة لتعزيز وضعه الداخلي، ما دفعه إلى «تجريب حظّه» في الأزمة اللبنانية التي فاقمها، إلى الذروة، الانفجار المروِّع في المرفأ، في الرابع من آب / أغسطس الماضي. خشبة خلاص واهية ومثقوبة، رماها الرئيس الفرنسي، بشكل جمَعَ بين الاستعراض وادّعاء «المونة» والرغبة في الإنجاز في لبنان، ومنه في المنطقة. الطبقة الحاكمة المذهولة بحجم الخسائر والنقمة الشعبية أذعنت، لأوّل وهلة، لمطالب الرئيس الفرنسي. «الإصلاحات» كانت المفتاح السحري الذي ركّز عليه الرئيس الفرنسي، كما الذين سبقه! لكنّ ماكرون ما لبث، بعدما طاردته التدخّلات وتحسَّس تواضع قدراته، أن بدأ يغيّر في الآليات والأهداف. تقريباً، هو تبنّى كامل الهدف الأميركي بإحداث انقلاب في البلد يشكّل، في لبنان، «نصيب» هذا البلد من أجندة «صفقة القرن». جوهر الاستهداف الأميركي، إقامة حكومة في بيروت تنزع الشرعية عن مقاومة العدو وتحمّلها مسؤولية كلّ وزر الأزمة اللبنانية وما ترتّب عليها من مآسٍ وكوارث وخسائر قائمة ومتوقّعة...
بذلك ، كان، ولا يزال، من الواجب الوطني والقومي التحرّري، رفض وفضح كلّ الخطط الأميركية في لبنان والمنطقة، خصوصاً في هذه المرحلة. في المقابل، فإنّ الدفاع عن سياسات السلطة بكل أطرافها، وخصوصاً، بكلّ أساليبها المعتادة، هو أمر مرفوض تماماً. ليس في جعبة هؤلاء سوى المراوحة في الممارسات السابقة التي أدّت، عبر النهب والهدر والفساد والدويلات، إلى الانهيار والخراب وتعريض حياة ملايين اللبنانيين إلى خطر الكوارث من كلّ نوع. إنها معادلة صعبة ولا شك. السلطة مُدانة وعاجزة عن اجتراح المعالجات أو، حتى، تسهيل تمريرها. كذلك، بسبب غياب البديل السياسي الشعبي القادر على فرض مشاركة في تحديد مسار الأحداث، لكي لا نقول في التقرير بشأنها: من منطلق المصلحة الوطنية والشعبية على وجه الخصوص.
ليس مفاجئاً أن تنطلق في هذه المرحلة، وغالباً من قبيل تشويه أسباب الكارثة والاستثمار في هذا التشويه، فضلاً عن الأزمة نفسها، دعوات للتقسيم معلنة أو مموّهة. وكذلك دعوة «الحياد» التي تدعم ضمناً محاولات فرض خيارات غير وطنية حيال الصراعات في المنطقة وعليها، وخصوصاً من قِبَل إدارة دونالد ترامب، وبعض الأنظمة الخليجية المتآمرة، سرّاً وعلناً، لمصلحة الأميركيين والصهاينة.
إغراق المقاومة في مستنقع المنظومة التحاصُصية لقاء إضفاء شرعية رسمية على وجودها وسلاحها، هو أمر مضرٌّ بها على المدى الراهن والبعيد. تحريرها من ذلك، هو رهنٌ بإعادة تقييم المشهد السياسي العام، وبمراجعة السياسات والممارسات. ذلك يتطلّب، أيضاً، أن تساهم القوى التغييرية الوطنية في عملية تحرير المقاومة من عبء تحالفاتها المرهقة. لن يحصل ذلك بغير بلورة مشروع وطني شامل وجدّي، يجري تأسيسه وتفعيله بمهمّات وبمواصفات المرحلة، لا فقط بمهمّات وممارسات الماضي.
إنّها مسؤولية كبيرة ومصيرية، تتطلّب النهوض بدورٍ تجاوزي وريادي في هذه المرحلة التي يجتاز فيها لبنان اختباراً مصيرياً خطيراً، وتواجه فيها المنطقة مخاطر هيمنة أميركية لا تتورّع عن دعم تحقيق خطط كامل المشروع الصهيوني من الفراتِ إلى النيل!
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا