«أموال المودعين محفوظة…لا داعيَ للهلع»

رئيس جمعية المصارف في لبنان سليم صفير، 9 تشرين الثاني / نوفمبر 2019



فلنبدأ من الماضي القريب. منذ أواسط / أواخر عام 2018، ابتدأ النظام المالي اللبناني بالتضعضع وإظهار بوادر الفشل. بحلول 17 تشرين الأول / أكتوبر، كانت المصارف قد بدأت بمنعك من سحب مبالغ كبيرة من حسابك، وخرج الدولار ــــــ لأول مرة منذ بداية التسعينيات ــــــ من عقاله. لهذا السبب، ليس لي أو لغيري فضلٌ في الكلام عن «الانهيار القادم» فالمسألة، منذ عام 2018 على الأقل، لم تعد تحتاج إلى «استشراف». ما جعلني أنا وأصدقاء نهرع لسحب مدّخراتنا من النظام المصرفي كان الوعي، في خريف 2018 تقريباً، بفكرةٍ مخيفة: إن كنّا نحن نرى هذه الأمور، ونعرف أنّ الأرقام والحسابات لا تستقيم، والدولار داخل النظام اللبناني أصبح وهمياً، فما الذي يعرفه المصرفيّون ورجال المال ورياض سلامة؟ اللعبة انتهت. (نصحت أهلي وعائلتي بأن يحذوا حذوي. هم ـــــ بالطبع ـــــ لم يستمعوا إلي، بينما لا تزال تصل إليّ رسائل من أناسٍ لا أعرفهم يقولون فيها إنّي ساهمت في إقناعهم بسحب أموالهم من المصارف باكراً وإنقاذ مدّخراتهم) السؤال الحقيقي هو عن كلّ هؤلاء الناس في لبنان، الذين يفترض أنّهم تكنوقراط وخبراء وتجّار مهرة، والذين لم يروا ما نحن مقبلون عليه؛ ولكن لا ننسى، هنا، مقولة الكاتب الأميركي ابتون سينكلير: «من الصعب أن تجعل إنساناً يفهم أمراً ما، حين يكون راتبه يعتمد على عدم فهمه».
«يوم الدينونة» لوحة من القرن السادس عشر للفنان الاياطالي جيورجيو فازاري (قبة ماتدرائية «سانتا ماريا دل فيوري» في فلورنسا)

اليوم، بعدما تبيّن حجم الانهيار وبدأنا بحصد نتائجه، لا مشكلة مبدئية لديّ مع فكرة «تعليق المشانق» التي يتم طرحها دورياً، السؤال هنا هو «من سيعلّق المشانق»؟ («الشعب» هنا ليس إجابة كافية، فهناك في النهاية شخصٌ ما سيعقد الحبل)، وماذا سنفعل بعدها؟ (هذا إضافةً إلى تحذيرٍ سمعته منذ زمنٍ بعيد، مختصره أن لا تعلّق المشانق قبل أن تنتصر. حين تنجح الثورة وتصل إلى الحكم اشنق من تشاء، ولكن أن توزّع أحكام الإعدام وتهدّد خصومك بالموت وأنت لا تزال خارج السلطة، فذلك قد لا يكون في مصلحتك). ولكن، قبل ذلك كلّه، لا معنى للكلام عن المحاسبة إن لم نتّفق على ما جرى وما أوصلنا إلى هنا.
إن كنّا نتكلّم عن الأزمة المالية وانهيار القطاع المصرفي وتدمير معيشة اللبنانيين، فخطاب «النهب والسرقة» التعميمي لا ينفع تفسيراً. من ناحية، فإنك حين تتكلّم عن النهب والسرقة يجب أن تخصّص، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الوقائع لا تتفق ببساطة مع هذه السرديّة. ليس صحيحاً أنّه كان في لبنان مشاريع هائلة يتمّ نهب الدولة عبرها وسرقة المليارات. في الحقيقة، فإنّ أحد أسباب الأزمة هو غياب أي إنفاق استثماري في الاقتصاد تقريباً منذ عشرين عاماً، والمشاريع القليلة التي تنفّذ هي بهبات دولية، ونحن نواجه الانهيار المالي ببنية تحتية متهالكة. كلّ إنفاق الموازنة تقريباً، في العقدين الماضيين، كان على الرواتب وتشغيل الدولة. الفساد وقلّة الكفاءة، تجدها في أمورٍ مثل غياب الخدمات والكهرباء، والكلفة الهائلة التي تمثّلها على الناس والاقتصاد، أو في الاحتكارات الريعية التي تقيّد الاقتصاد، ولكنّها ليست المسؤولة عن ضياع مئة مليار دولار.
المسألة عندي واضحة وقد شرحتها مراراً: مع نهاية التسعينيات، كان واضحاً أنّ الدَّين العام قد خرج عن السيطرة. الخيار، يومها، كان بين إعلان الإفلاس أو عقد «صفقة» جديدة، تخفي الإفلاس ولا تعالجه، مع القطاع المصرفي. مذّاك، أصبحت الديون وفوائدها (وأصبح قسمٌ كبيرٌ من هذه القروض بالدولار، أو بضمانة ثبات الليرة أمام الدولار) تسجَّل على أنّها موجودةٌ في المصارف، والمصارف تعتبر أنها محفوظةٌ في مصرف لبنان، ولكن هذه الأموال هي فعلياً غير موجودة، ومن هنا ولد «الدولار اللبناني»، قبل أن تظهر الأزمة بسنوات طويلة (رياض سلامة وفؤاد السنيورة، هما من الشخصيات القليلة التي لا تزال على الساحة وقد عاصرت هذا التاريخ، وساهمت في صنعه، من بدايته إلى الآن). هناك، بالنسبة إلى «الدولار اللبناني»، استثناء واحد: أولئك الذين فهموا الوضع وسحبوا أموالهم من المصارف في السنة الأخيرة قبيل الأزمة، الـ15 مليار دولار التي أخرجها مودعو «الواحد بالمئة» من البلد، هذه أصبحت «دولارات حقيقية» لأنها خرجت من المنظومة المصرفية. تماماً كمن يتوقف عن اللعب ويصرف «فيشات» الكازينو في الوقت المناسب، مباشرةً قبل أن يحترق المكان (في الوقت نفسه، كان المصرفيون يحثّون المودعين «العاديين» على تجميد حساباتهم، ويعرضون عليهم فوائد عالية وتطمينات واثقة).
في الخطاب السياسي الذي ساد في لبنان، أخيراً، من السهل أن تنسى «مجلس الإنماء والإعمار»، ودوره في مراكمة الدين علينا عبر إنفاقٍ بلا رقابة؛ أو أنّ رئاسة الحكومة اللبنانية، طوال عشرين سنة من أصل 28 مضت، كانت في يد رفيق الحريري أو سعد الحريري أو فؤاد السنيورة. وإن تناسَينا كلّ هذا التاريخ، وجرت الأمور على النحو الذي الذي تريده المؤسّسة، وقد ناقشه المصرفيون الللبنانيون صراحةً مع مسؤولين أجانب، فإنّ حلّ الأزمة في لبنان سيجري تقريباً على الشكل التالي: نذهب إلى المصارف ونقول لها إنّنا آسفون، وإنّ الدولة اللبنانية (ومن خلفها الشعب) مسؤولون عن إفلاسها، ثم نعيد رسملة القطاع المصرفي عبر بيع أملاك الدولة (إضافة إلى دخلها المستقبلي)، وتكون تلك أكبر عملية تحويل للملكية العامة إلى ملكية خاصة ـــــ أي عملية فساد ــــــ في تاريخ لبنان؛ وقد تتمّ تحت صيغة حكومة تكنوقراط ووجوه شبابية ومشروع «إصلاحي».

القديم يتجدّد
وسط حفلة الانهيار والغضب الشعبي وضخّ الإعلام، عجّت السنة الماضية بحوادث ومفارقات لم تدخل في السجل الرسمي، أو يتم تسليط الضوء عليها وتوصيفها بشكلٍ حقيقي (بعضها كان كاريكاتورياً، كالمصرفي يشرح لك على التلفزيون عن معنى الثورة، وبعضها كان خطيراً، كقضية «قطع الطرقات»). كمثالٍ غير دراماتيكي، هل تذكرون «ثورة الطلّاب» وخروج تلاميذ المدارس إلى ساحات التظاهرات جماعياً؟ خلفية الموضوع، هنا، قد تحتاج إلى بعض الشرح لفهم المثال. في لبنان الذي كبرت فيه، أواسط الثمانينيات حتى أواسط التسعينيات، كان لدينا نوعان من «الأعياد غير الرسمية»: الإضرابات العمّالية وجولات الحرب الأهلية، ففي الحالتين أنت لا تذهب إلى المدرسة (وفي قرى الجبال المرتفعة يمكن إضافة العواصف الثلجية). وأنا تخرّجت من مدرسة كانت، حين يقفل البلد بأسره تحت تأثير الإضراب، ولا يظلّ متجرٌ مفتوحاً، وكلّ طلّاب لبنان في بيوتهم يلعبون «أتاري» و«سيغا»؛ كانوا يسوقوننا ــــــ وحدنا ــــــ إلى الصفوف بالقوّة، ويُعقد الدوام كأنه يومٌ عادي، حتى لا يفسّر الإقفال كاحتجاج على السياسة الحكومية (ذات مرّة، أصرّ الأساتذة على عدم الحضور لأنّ زملاءهم كانوا من يقودون الإضراب، فجيء بنا لنجلس جماعياً في الملعب ــــــ من غير صفوف دراسية ـــــــ من الصباح حتى انتهاء الدوام). هل تريدون إقناعي بأنّ الإدارة ذاتها، في السنة الماضية، لم تقُم بإقفال المدرسة فحسب، بل قادت الطلّاب القصّر بنفسها إلى ساحات التظاهر لكي يقوموا بـ«واجبهم الثوري»؟ الناس يتغيّرون، ولكن ليس إلى هذه الدرجة (بجدّية: طلّاب المدارس هم بالطبع أكثر من سيرث أخطاءنا وأكلافها، وهم أثمن ما لدينا وأمل المستقبل وكلّ هذه الأمور، ومن حقّهم أن يكون لهم صوتٌ في تقرير مصيرهم وأن ينشطوا في السياسة ــــــ ولكن خارج الدوام المدرسي).
إن كنّا نتكلّم عن الأزمة المالية وانهيار القطاع المصرفي وتدمير معيشة اللبنانيين، فخطاب «النهب والسرقة» التعميمي لا ينفع تفسيراً


مراحل الأزمات والانقلابات والفوضى تمثّل، أيضاً، لمن يقدر على استغلال الموقف، فرصةً وأرضاً خصبة لإنتاج اصطفافات جديدة، وشعارات جديدة، ووجوه جديدة. المشكلة هي أنّ هذه الدينامية لا تكون دوماً «ثورية»، بمعنى أنّها لا تُدخِل إلى الساحة أصواتاً وشخصيات ومصالح من خارج المؤسسة وتضعها في مركز السياسة، بل قد تعيد تدوير وجوهٍ قديمة بقناعٍ جديد، أو تعرض وجوهاً جديدة، لكنّها خرجت وتدرّجت في «المؤسّسة» ذاتها، أو في «مؤسّسة ما»، ولم تكن يوماً على الهامش أو في تضادٍ معها. يجب أن نتذكّر أنّ القوّة تحتاج دورياً إلى «تغيير جلدها»، وإلى اعتماد شعارات وجماليات ووسائط جديدة تناسب السياق المتغيِّر. قد يفقد نمط مارسيل غانم فعاليّته مع مرور الزمن، مثلاً، أو يصبح خطاب «14 آذار» قديماً، أو يخسر «الإعلام القديم» تأثيره ومصداقيّته، فيتحوّل الاستثمار السياسي نحو أنماط جديدة من الخطاب والصحافيين والأدوات. وسط الصخب وحفلة التظاهر، لم يكن لدى اللبنانيين فرصة حقيقية لفهم واقعهم والإمساك بزمامه، بل تعرّضوا في الفترة الماضية إلى حملة «تخويف وتشويش وتشكيك» مستمرّة، وهم في عزّ أزمتهم الحياتيّة، وانهيار عالمهم وضياع مدخراتهم. من هنا نجد أنفسنا، بعد سنةٍ على افتضاح الإفلاس، ونحن في نسخة «مكثّفة» عن العالم القديم: أحزاب لا يمكنها أن تفكِّر خارج إطار «الصيغة اللبنانية» وتوازناتها وحساباتها (وهي القواعد الوحيدة الموجودة للّعبة السياسية في الداخل)، تحذيرات مستمرة من «الحرب الأهلية» (وهي كانت ستحصل قبل وقتٍ طويل لولا طبيعة موازين القوى العسكرية)، أحلافٌ خارجية يتم تشكيلها علناً على أرض لبنان، وتضم أحزاباً سياسية وسلطات دينية و«مجتمعاً مدنياً»، وتعلن أنّ «ثورتها» هي على المقاومة، وهذا كلّه يجري في إطارٍ من الأوامر الخارجية ورسم خططٍ «إصلاحية» في عواصم الخارج وفرض عقوبات والتلويح بالمزيد منها ضدّ من لا يمتثل من السياسيين ــــــ حتى لا يتوهّم أحدٌ أنّ في لبنان في هذه المرحلة «عملية سياسية» طبيعية وشرعيّة.
الماضي يظلّ معنا، و«الإيديولوجيا» ليست مجرّد وهمٍ أو خطاب، بل هي تمظهرٌ لمصالح مادية وصراعات قديمة والمعنى العميق للعداوة. أنا لم أختر الكتابة في «الأخبار» ــــــ وهو خيارٌ أيديولوجي ــــــ لأنّ همّي كان أن تنتصر «8 آذار» على «14 آذار» في السياسة الداخلية، أو ينال أحد أطرافها وزيراً إضافياً في الحكومة. في الموضوع اللبناني، الفكرة الأساسية والمركزيّة عندي (وأنا لم أكن الوحيد في ذلك) مختصرها أنّ «14 آذار» الناشئة، بما تمثِّل وبإرثها وتكوينها وارتباطاتها ونظرتها إلى الذات وإلى المحيط، هي شيءٌ خطير لا يمكن السماح بأن يتمّ التطبيع معه وتجذيره في السياسة اللبنانية ـــــــ أو قد نخسر بلدنا بالكامل. وحرب تمّوز عام 2006، جاءت تأكيداً لأسوأ الظنون. هذا نمطٌ من الاختلاف لا يمكن حلّه عبر النظام البرلماني والسياسات «التوافقيّة» والانتخابات، واستمراره لا يعني شلل النظام السياسي فحسب، بل تفجيره أيضاً في نهاية المطاف، طال الزمان أم قصر. بناء الأوطان يبدأ من حسم هذه الأسئلة، وليس من تأجيلها، وفي هذا المجال فقد فشلنا ببساطة: لم تحصل محاسبة على ما فعلوه خلال الحرب الأهلية، ولا تمّت محاسبتهم على دورهم في حرب تمّوز، ولا هم طاولتهم محاسبة «سياسية» عبر صناديق الاقتراع والانتخابات. الفشل لم يكن في الإدارة المالية فحسب، بل هو ابتدأ من تاريخٍ سياسي عصيٍّ على الحسم (وحين تسامح من قتل اللبنانيين في الحرب الأهلية، وتتجاوز عن العمالة، ثم تتناسى ما جرى ومن تآمر في حرب تمّوز، فكيف ترسم خطّاً أحمرَ أو تعلِّق المشانق في أيّ موضوعٍ آخر؟). مثلما أنّ اليمين اللبناني انهزم سياسياً في الحرب الأهلية، ولكنّ العناصر المركزية في أيديولوجيته ظلّت حيّة وانبعثت بصورةٍ جديدة في 14 آذار 2005 (على حد قول أسعد أبو خليل)، فإنّ «14 آذار»، وإن اندثرت ككيان وحلفٍ سياسي في صورتها القديمة، فإنّ روحها لا تزال معنا وتتوالد.

خاتمة: ملاحظة عن حزب الله ومفهوم الحركة الاجتماعية
وصفت حزب الله في السابق، بأنه «أكبر حركة اجتماعية في تاريخ لبنان»، ولكنّه توصيفٌ يحتاج إلى بعض الشرح. المسألة ليست في عدد المؤيّدين أو الأصوات الانتخابية، ولا في السلاح، بل نحن نتكلّم عن بنية اجتماعية وتنظيمية، حديثة، لها مستويات متعدّدة تقدر على إعادة إنتاج نفسها. فلنأخذ مفهوم «الثقافة» مثالاً، هناك وهمٌ طريف لدى الكثير من النخب (يساريون أو ليبراليون) في بلادنا مفاده أنّهم، وإن كانوا لن يحملوا السلاح ويدخلوا ميدان الصراع ولا هم سينظمون الفقراء وسيعيشون بينهم، إلّا أنّهم يملكون امتيازاً في ميدان «الثقافة» والأيديولوجيا. هذا ينطلق من مفهوم سطحي وقديم عن «الثقافة»، يعتبر أنّها تعني كتابة المقالات مثلاً (أو أنّ الحركة الاجتماعية تعني التظاهرة)، فيما الثقافة حقيقةً هي ما تستهلكه روتينياً وفي كلّ يوم: في المدرسة، في المسجد، في طقوسك الدينية، التلفزيون، إلخ. هل تعرفون عدد الطلّاب الذين تخرّجوا، عبر السنين، من شبكات المدارس المختلفة التي أسّسها حزب الله؟ هل تعرفون عدد الشباب الذين يتدرّجون في كشّافته؟ هذه المؤسّسات هي التي تخلق «شخصية حزب الله»، وتعيد إنتاجها باستمرار. لهذا، لا يمكنك أن «تخترق» هذا الجمهور بسهولة، فهو منظَّمٌ ولديه عقيدة وهويّة سياسيّة يفهمها جيّداً، وهو فخورٌ بها ولن يحيد عنها بسهولة. حتّى لو تمكّنت إسرائيل وأميركا، فرَضاً، من هزيمة حزب الله عسكرياً، بشكلٍ كامل، ودمّرت آلته الحربية وقتلت القادة، فإنّ ذلك لن يعني شيئاً على المدى البعيد، ولن تتمكّن هذه القوى من «استئصال» حزب الله والمقاومة حتى تدمِّر هذه المؤسّسات والمنظّمات والمدارس كلّها، وتقضي على ثقافةٍ حيّة.
في الحقيقة، إنّ الجانب الثقافي قد يكون هو نقطة الضعف للحركات العلمانية في بلادنا، وليس الامتياز. اليسار اللبناني، رغم كلّ الدعم والتمويل في مرحلة الصعود، ترك لنا كم مدرسة وجامعة؟ ولا واحدة (وهؤلاء، يفترض، كوادر ومثقّفين، وهذا مجالهم وملعبهم). هم لم يبنوا حتى مدرسة لأبنائهم، حتى يحافظوا على استمرارية أفكارهم عبرهم على الأقل، بل أرسلوهم إلى مدارس خاصة وتحوّل أكثر «أبناء الكوادر» إلى برجوازيين يمينيين. بالمقابل، حين وصل ــــــ الإيراني ــــــ الشهيد مصطفى شمران إلى جبل عامل، في ستينيات القرن الماضي، كان أول ما فعله أن أسّس مدرسة تقنية ما زالت موجودةً إلى اليوم. في تحليله للمجتمع السياسي في العراق، يسأل حنّا بطاطو عن «لغزٍ» حيّره حول انقلاب 1963 البعثي. يسأل بطاطو: اعتقل البعثيون مئات الكوادر الشيوعية إثر الانقلاب، ولكن كيف تفسّر «اختفاء» مئات الآلاف من المؤيّدين المفترضين للحزب الشيوعي؟ لماذا لم تبدر أي مقاومة منهم؟ والتظاهرات الشيوعية كانت تعجّ بالهاتفين والسجلّات تتكلّم عن تنظيماتٍ ونقابات وجمعيات فيها لا أقل من ربع مليون مؤيّد، رجالاً ونساءً. كيف «ذاب» كل هؤلاء؟ يطرح بطاطو احتمالاتٍ عدّة من غير أن يجزم، بينها فكرة الخوف ببساطة، أو أنّ الكثير من هؤلاء «المؤيدين» لم يكونوا مقتنعين، بل يسيرون ــــــ كعادة الكثير من الناس ـــــــ مع التيّار ويمالئون السلطة، ثم يغيّرون جلدهم حين تتغيّر الأحوال. نظريّتي هي أنّ الإجابة على «لغز» بطاطو قد تبدأ من سؤال الثقافة هذا، ومفهوم الحركة الاجتماعية ومدى تجذّرها في حياة الناس.
هناك أيضاً عاملٌ آخر أساسي، تاريخي، يتجاوز «ثقافة حزب الله» ومن ينضوي في مشروعه، وهو ما أعطاه شعبية تفوق حجم تنظيمه بكثير. هؤلاء الناس يثقون بحزب الله وقائده، ليس لأنّه رجل دين، فرجال الدين كثُر، بل لأنّه ــــــ ولأوّل مرّةٍ في تاريخهم المرير ــــــ هناك من أعطاهم حقّاً شيئاً ما حقيقياً مقابل التضحيات، إنجازاً يلمسونه كلّ يوم: تحريراً، نصراً، قوّةً. المقاومة لم تحلّ كلّ مشاكلهم ولكن، قارنوا بالمقابل، ماذا لاقى هؤلاء الناس مع من راهنوا عليهم في السابق وضحّوا لأجلهم؟ ماذا قدّم لهم أبو عمّار؟ إلى أين ساقتهم «الحركة الوطنية» وأحزابها (هذا حتى لا نتكلّم على «الجبهة اللبنانية»، والمساكين الذين آمنوا بقادتها وساروا خلفهم إلى الحتف والهزيمة)، وأين بقاياهم اليوم؟ من هنا، فإن الخيار، عند المحكّ، سيكون سهلاً خاصّةً حين ترى بلدَك يسير في «الطريق إلى جهنّم»، والدولةَ من حولك انهارت، والأعداءَ كثيرين، والنظامَ ساقطاً، والبديلَ زائفاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا