لرئيس مجلس النواب نبيه برّي أن يطالب بتعيين وزير مالية من الطائفة الشيعية، لكن أن يتمّ تقديم ذلك من قبيل أنه عرف دستوري، فهذا أمر آخر لا يقبله المنطق القانوني السليم. فهل فعلاً كرّس «اتفاق الطائف» هذا الأمر، وهل يمكن لنا أصلاً أن نعتبره عرفاً دستورياً؟ من خلال مطالعة وثيقة الوفاق الوطني، أو ما يُعرف بـ«اتفاق الطائف»، نلاحظ أنّ هذا النص جاء خالياً من كل إشارة تكرّس وزارة المالية للطائفة الشيعية، أو أي طائفة أخرى. فخلال مداولات النواب الذين اجتمعوا في مدينة الطائف السعودية، جرى التطرّق إلى مواضيع مختلفة ومتعدّدة، من بينها كما يُقال، مطالبة البعض بمنح الطائفة الشيعية وزارة المالية. وقد تمّ تبرير هذا المطلب الأخير، بأنّ المراسيم في لبنان يصدرها رئيس الجمهورية تحمل أيضاً توقيع رئيس مجلس الوزراء، أي أنّ المراسيم تحمل تواقيع جهة مارونية وجهة سنية، لذلك كان من الضروري «تكريس العيش المشترك» بإضافة توقيع شيعي شبه دائم، لأنّ عدداً كبيراً جداً من المراسيم يحتاج إلى توقيع وزير المالية، كونه الوزير المختص الذي يجب أن يوقّع على كلّ مرسوم تترتّب عليه أعباء مالية.
أمام هذا الرأي، كان لا بدّ لنا من تفنيد هذه المزاعم بطريقة متدرّجة لتفكيكها ودحض حجيّتها القانونية:
أولاً: إنّ مداولات «اتفاق الطائف» لا توجد إلا من خلال ما تنقله لنا مجموعة من الشخصيات التي عاصرت تلك الفترة، كون المحاضر غير منشورة ولا يمكن بالتالي الركون إلى ذاكرة بعض المشاركين وتفسيرهم الشخصي لما جرى حينها.
ثانياً: إنّ المداولات هي أصلاً غير ملزمة، إذ أنّ وثيقة الوفاق الوطني لم تكرّس قيمة النقاشات التي جرت، بل هي فقط قامت بإعلان مجموعة من المبادئ التي أُدرج بعضها في الدستور. فخلو النص النهائي من تكريس وزارة ما لطائفة معيّنة، يشي بأن لا اتفاق حقيقياً جرى حول هذه النقطة.
رابعاً: الأهم من كلّ ذلك أنّ وثيقة الوفاق الوطني لا قوة دستورية لها، وهي لا تشكّل بأيّ شكل من الأشكال جزءاً من الانتظام القانوني في لبنان. وقد كرّس المجلس الدستوري، في قراره رقم 1 تاريخ 31/1/2001، هذا الأمر، فأعلن صراحة التالي: «وبما أنّ المجلس يرى أنه بقدر ما تتضمّن وثيقة الوفاق الوطني نصوصاً أدرجت في مقدمة الدستور أو في متنه أو مبادئ عامّة ذات قيمة دستورية، بقدر ما تكون مخالفة تلك النصوص والمبادئ خاضعة لرقابة المجلس الدستوري». أي وحدها النصوص التي تم إدخالها صراحة في الدستور تتمتّع بالقوة الدستورية. وما يؤكّد هذا الأمر، أنّ مجلس النواب لم يلتزم بحرفية نصوص «اتفاق الطائف»، حتى تلك التي أدرجها في متن الدستور، بل قام بتعديلها. فعلى سبيل المثال، نصّ «اتفاق الطائف» على منح المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور، بينما رفض مجلس النواب ذلك وحذف تلك الصلاحية، فجاءت المادة 19 الحالية من الدستور خالية تماماً من «تفسير الدستور». كذلك، نذكر الفقرة «ب» من المبادئ العامة في وثيقة الوفاق الوطني، التي أعلنت أنّ لبنان «عضو في حركة عدم الانحياز»، بينما تمّ حذف هذه النقطة من الفقرة «ب» من مقدمة الدستور.
خامساً: المشروع الذي تقدّمت به «حركة أمل» تحت عنوان «ورقة عمل من أجل الوفاق الوطني»، خلال مؤتمر حوار زعماء الحرب الذي عُقد في جنيف سنة 1983 ولوزان سنة 1984، جاء خالياً من أي مطالبة بتخصيص وزارة المالية للطائفة الشيعية.
سادساً: الزعم بأن «الميثاقية» تفرض وجود تواقيع «الطوائف الكبرى» على المراسيم يعارض الدستور نفسه الذي يسمح في المادة 56 منه بنشر المراسيم التي يوافق عليها مجلس الوزراء، ولا يصدرها رئيس الجمهورية خلال خمسة عشر يوماً، من دون توقيع هذا الأخير. فالدستور نفسه يقبل بخلو المراسيم من توقيع رئيس الجمهورية «الميثاقي»، فكم بالحري بوزير المالية الذي أصلاً لا يوقّع على كلّ المراسيم. والأمر نفسه ينسحب على القوانين، إذ كانت تحمل قبل «اتفاق الطائف» تواقيع كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء المختصّين، أمّا بعد «اتفاق الطائف»، فقد نصّ الدستور على الاكتفاء بتوقيع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. فهل إلغاء توقيع الوزراء، ومن بينهم وزير المالية، يجعل من القوانين التي يصوّت عليها مجلس النواب غير ميثاقية؟
سابعاً: يشكّل تخصيص الوزارات لطوائف مخالفة للمادة 95 من الدستور اللبناني، التي تنص فقط على ضرورة تمثيل «الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة». فالملاحظ أنّ الدستور يتكلّم فقط عن عدالة التمثيل، أي أن يتم منح كل طائفة عدداً من الوزارات وفقاً لحجمها الديموغرافي، من دون أي إشارة إلى كيفية توزيع الحقائب. وما يؤكد هذا الأمر أن الفقرة «ب» من المادة 95 أيضاً، تُعلن صراحة أنّ وظائف الفئة الأولى توزّع مناصفة بين المسيحيين والمسلمين «من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة». فإذا كان الدستور قد منع التخصيص في وظائف الفئة الأولى، فمن الأولى أن ينسحب هذا المنطق على الوزارات.
جراء ما تقدّم، لا يتمتّع «اتفاق الطائف» بحدّ ذاته بأي قيمة قانونية، فكم بالحري بمداولات واتفاقات مبهمة وغير معلومة لا يمكن التعويل عليها إطلاقاً لتشريع ممارسات طائفية تنتهك المساحة المدنية الضئيلة المتبقّية من عمل المؤسسات الدستورية.
من جهة أخرى، وفي ظل غياب النص، هل يمكن لنا أن نتكلّم عن وجود عرف دستوري يخصص وزارة المالية لطائفة معيّنة. فالعرف لا يوجد قانوناً إلا عند توافر شرطين: ممارسة متكرّرة لم يتمّ الاعتراض عليها خلال فترة طويلة، وشعور نفسي بضرورة الخضوع وإلزامية احترام المبدأ العرفي (opinio juris). والعرف تقبل به المحاكم كحجّة صالحة، شريطة طبعاً أن لا يتعارض مع نص قانوني كون القانون يلغي العرف، لكن العرف لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يتعارض مع القانون.
بالحقيقة، يتبيّن لنا بشكل جلي أنّ تخصيص وزارة ما لطائفة لا يُعتبر عرفاً، كون شرط التكرار يغيب كلياً إذ تعاقب على وزارة المالية منذ عام 1990 وحتى اليوم، وزراء من طوائف متعدّدة. كما يُعتبر شرط الشعور النفسي غير متحقّق، إذ لم يثر هذا الأمر اعتراضاً وهو لا يخلق أي إحساس بضرورة الالتزام به، بل على العكس من ذلك، فإنّ المطالبة بتخصيص وزارة المالية أو أي وزارة أخرى لطائفة محدّدة جوبه دائماً بالرفض والتنديد، وهو لم يحصل إلا بعد أشهر من المفاوضات والتسويات السياسية من أجل تأليف مختلف الحكومات التي عرفها لبنان أخيراً.
وهكذا، يظهر لنا أنّ تخصيص ما بات يُعرف بالوزارات السيادية لطوائف معيّنة، هو ممارسة حديثة ويتمّ فقط المطالبة بها وفقاً للظرف السياسي، ما يدخل في منطق المحاصصة بين الزعماء. ولا يمكن بالتالي إلباس هذه المطالبة لبوس العرف الدستوري وتكريسها قانوناً، بينما هي في حقيقة الأمر مجرّد مطلب سلطوي يدخل ضمن منطق التوازن بين الزعماء لتعزيز الطبيعة الزبائنية للنظام وتحويل مؤسّسات الدولة إلى مواقع نفوذ لهذه الجهة أو تلك.
* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا