مناسبتان في تاريخنا الحديث تباعدتا في الزمن، لكنّهما شكّلتا معاً في مسار الحزب الشيوعي اللبناني، حقبة مشتركة في غاية نشوئه: الاستقلال والسيادة والعدالة الاجتماعية. إنّ هذا الحزب الذي تهلّ ذكرى تأسيسه الـ96، خلال الشهر المقبل (24 تشرين الأول / أكتوبر 1924)، اجتاز خلال تلك المدّة الزمنية، سلسلة طويلة من النضالات والمواقف المتقدّمة والتحوّلات، كما الهزائم والخيبات، وسقط له خلال تلك المسيرة آلاف الشهداء من المناضلين والأنصار المؤيّدين.
من ملصقات جمول

وقد شكّل في العديد من منعطفات وجوده حجر الزاوية في إسناد، دعم وإشهار حركات التحرّر العربية، وفي مقدّمها الأحزاب الشيوعية، حيث لعب دوراً مهمّاً ومؤثّراً في مؤازرتها، وشكّل لها خلفية إعلامية ونضالية مشهودة له. لقد تحمّل هذا الحزب أعباء مهمّات تجاوزت، في مراحل عدّة، حدود إمكاناته، وخصوصاً خلال مقاومته أنظمة الديكتاتوريات والقوى الرجعية العربية المرتبطة بالمستعمر الأجنبي ومخطّطاته في الهيمنة والسيطرة. كل ذلك، حدث في ظلّ غياب شبه تام للديمقراطية التنظيمية الداخلية، التي كان من المفترض أن تتمتّع بها الأحزاب الشيوعية، وفقاً لمبادئها وأسُسها اللينينية وتضامنها الأممي. أثّر هذا الأمر سلباً، ولا شك، على إمكانات عطاءاته ونضالاته، حين كان ممكناً، إنتاج المزيد من المكتسبات ومضاعفتها، لو أنّه مارس مركزيته الديمقراطية التنظيمية بشكل مبدئي.
ورغم أنّ الشيوعية، وفقاً لماركس وعلى نحو ما عند لينين، هي تطوير للأفكار والمناهج استناداً إلى الواقع ومحدّداته ومؤشّراته المستقبلية، فإنّ الدوغمائية العقائدية، والإيديولوجيا الجامدة كمبدأ (Doctrine) أو (Principal)، تحكّمتا بأساليب وعمل النضالات خلال تلك الحقبات. أنا أرى أن أبرز الإخفاقات في المواقف، والتي انعكست سلباً وعلى نحو مدمّر على مساراته، حينذاك ولاحقاً، تجلّت في موقفين: المسألة الفلسطينية، عبر تأييده للتقسيم في عام 1948 (النكبة) وقضية الوحدة بين سوريا ومصر، زمن الراحل جمال عبد الناصر (1958)، حين عارضها. يومها، كانت قيادة الحزب اللبناني تحت هيمنة مباشرة من قائد الحزبين السوري واللبناني الراحل خالد بكداش.

نهوض... فتراجُع
عشية محنة الحزب الفلسطينية، كان عدد أعضائه صبيحة القضاء على حكم الفيشيين الفرنسيين حوالى 1500 عضو، أصبح عددهم حوالى ضعفي هذا الرقم أثناء انعقاد المؤتمر الأول في أواخر عام 1943 وأوائل عام 1944. وقفَزَ هذا العدد زمن العلنية في دولة الاستقلال إلى 15000 عضو، في أواخر عام 1945، ثمّ إلى 20 ألفاً في أواسط عام 1947، منتشرين في سائر الأنحاء. ومع نهاية عام 1947، وانفجار القضية الفلسطينية، وجّهت السلطة ضربة إلى الحزب دفعته للعودة إلى السرية. بعدها، تقهقر نفوذه وتراجع عديده. ثم عاد إلى التقدّم بقوة عشية الوحدة السورية ــــــ المصرية. لكنّه سرعان ما خسر معظم شعبيّته المتنامية، التي حظي بها إبّان الحكم الديمقراطي في سوريا (1957)، ونشوب حرب السويس (1956)، ودعم السوفيات لمصر، عبر إنذار بولغانين لأقطاب العدوان الثلاثي (إسرائيل، فرنسا بريطانيا) بالانسحاب، وإلا ردعهم بالقوة.
كانت معارضة الحزب الشيوعي السوري، ومعه الحزب اللبناني بقيادة خالد بكداش، للوحدة مع مصر «القشّة التي قصمت ظهر البعير». يومها، خسر الحزب اللبناني، أيضاً، كلّ رصيده الذي كسبه، وتراجع دوره ونفوذه النسبي الذي بدأ يتنامى، فانعزل.

نهوض... هزيمة (1967)... فازدهار
بدءاً من عام 1965، عاد الحزب الشيوعي اللبناني الذي لم يكن يوماً ثورياً بالمعنى السياسي العملي والعقائدي، إلى محاولة النهوض مجدداً، بعدما لعبت بعض قواعده الطالبيّة وبروز خلافات بين قادته التاريخيين، دوراً في وصول قوى شبابية إلى موقع القيادة، تجسّدت بتسلّم الراحل الشهيد جورج حاوي مسؤولية إدارته. وقد سعى، وهو الذي أصبح، عملياً، المحرّك الأساسي لنشاط مجموعته في المكتب السياسي، إلى تصعيد المعارضة، إبان عهد سليمان فرنجية، وتكتيل أحزاب القوى الوطنية اليسارية المؤيّدة لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، في إطار دعم المقاومة الفلسطينية. لقد انغمس الحزب الشيوعي، خلال الحرب الأهلية (1975-1982)، في تحالف وثيق مع حركة «فتح» بقيادة ياسر عرفات. وكانت علاقاته مع سوريا، في مطلع الحرب، صدامية. لكنّ الأمور تغيّرت مع بروز تناقض بين السوريين وقوى الجبهة اللبنانية (أحرار، وكتائب) وانضمّ الحزب مع الحركة الوطنية إلى تحالف مستجد مع سوريا.
مع مطلع الحرب الأهلية (1975)، استطاع الحزب الشيوعي مستفيداً من أجواء النهوض الوطني اليساري الذي برز بشدّة، في أعقاب حرب عام 1967، والهزيمة الكبرى التي طغت على حركة التحرّر العربية، من استقطاب أبرز القوى اليسارية الماركسية اللبنانية (منظّمة العمل الشيوعي) وضمّها، في مطلع الحرب الأهلية، إلى تحالف ضمن الحركة الوطنية اللبنانية. لقد برزت هذه الحركة قوية، ونهض اليسار اللبناني على نحو كبير. يومها، تألّق اليسار، خصوصاً مع بدايات الحرب الأهلية، لكنّه مع وصوله إلى حقبة الاجتياح الإسرائيلي (1982)، كان قد خسر نسبة عالية من بريقه وتألّقه، لأسباب متعدّدة. كانت هذه الحرب طائفية في جوهرها، لكنّها بدت مموّهة بشعارات شعبوية وتحرّرية، وسادتها عسكرية هجينة، ما أدّى إلى ممارسات ضارّة لدى الحركة الوطنية في إطارها الفلسطيني الخاضع لصراعات المنظمات، ظهر خلالها الفساد كما الانتهازية وبدأ الترهل. وقد كلّف هذا الواقع الحزب الشيوعي واليسار ككلّ، خسائر فادحة.

16/9/1982 إطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول)
مطلع حزيران / يونيو من عام 1982، اجتاح الجيش الإسرائيلي، بقيادة أرييل شارون، جنوب لبنان، ووصل إلى بيروت فحاصرها لأشهر وقد صمدت. غير أنّ القوى المسلّحة الفلسطينية بمنظّماتها، انسحبت منها بموافقة عربية ودولية، وإلى حدّ ما لبنانية. كان الحزب الشيوعي، خلال حقبة ما قبل الغزو الإسرائيلي، قد هدر إمكانات واسعة لديه مع وجوده في قيادة الحركة الوطنية. وما زاد الأمر سوءاً، أنّ بنى الحزب أخذت تتفكّك وتضيع ما عنده من رصيد معنوي ومادي. آلاف الشهداء والعائلات المشرّدة، وبعثرة للقوى والممتلكات، سقطت وسيّبت في ظلّ أزمات داخلية أخذت تتصاعد وتؤثّر سلباً على واقعه وتطوّره. وبدلاً من أن يسحب الحزب نفسه من أتون هذه المحرقة الطائفية، ويعلن حالة طوارئ داخلية وينزل تحت الأرض بعمل شبه سرّي، اختارت قيادته الاستمرار بالمغامرة والتجريب ومراكمة الخسائر. خلال تلك المرحلة، فقد الحزب الآلاف من أعضائه ومناصريه، كما دخل في صراعات كان يجب أن لا يدخلها مع قوى طائفية ومذهبية وجماعات موالية لأنظمة تحركها.
التحرّكات الآن تحت هيمنة مجموعات مدنية بعضها جادّ والآخر مخترق ومشبوه بتطلّعات وارتباطات بعيدة عن هدف إنقاذ لبنان من واقعه السيّئ


في ظلّ هذه الأجواء الحزبية الداخلية السلبية، كان على الحزب أن يواجه الغزو الإسرائيلي بقوة السلاح الذي يملكه. ولا شك في أنّ الشهيد جورج حاوي الأمين العام للحزب اندفع، يومذاك، بشجاعة مع الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، الراحل محسن إبراهيم، لمواجهة الغزو. فأطلقا معاً نداءً مشتركاً لهذا الغرض. وقد آزرهما في ذلك، العديد من القوى الوطنية والقومية. وكانت القوى الإسلامية الحديثة النشوء والتكوّن، قد أعدّت نفسها منذ ما قبل الغزو لمقاومة هذا الاحتلال. تتالت العمليات المسلّحة ضد الصهاينة في بيروت، ثمّ في خارجها. إنّ عملية بسترس، كما عملية الويمبي، ومحطّة أيوب في زقاق البلاط، وغيرها، أذنت كلّها ببدء حقبة مجيدة من تاريخ بيروت ولبنان. دفع عشرات المناضلين أرواحهم ثمن الاستشهاد فيها.
يذكر أنّ إطلاق النداء للمقاومة، جاء بعد يومين من دخول الإسرائيليين إلى بيروت، وذلك إثر اغتيال بشير الجميل، الذي أصبح رئيساً للجمهورية. اندفع الحزب الشيوعي، عبر موقف قائده وأمينه العام الشهيد جورج حاوي، وغيرهما من قوى الحركة الوطنية، في مقاومة المحتلّ الإسرائيلي، وتلك ظاهرة كانت مضيئة في تاريخهم، ودفعوا أثماناً غالية بشهداء سقطوا لهم، غير أنّ الحزب لم يتمكّن من استثمار هذا النضال على المدى البعيد. فبنيته المتهالكة ضعفاً، وخطّه السياسي العملي الاستراتيجي، الذي لم يكن موجوداً لا على مستوى المصير ولا على مستوى المسار، كما النظري، جعلاه شبه مغيّب عن مجتمع يتحوّل بمقاييس ومضامين وقوى مستجدّة، في إطار تنامٍ ملحوظ وسريع للتيارات الإسلامية.
إنّ هذا الحزب، ومعه القوى الوطنية الأخرى، التي كانت قد كثّفت من عمليّاتها بعيد الاحتلال عام 1982، وخصوصاً في منطقة صيدا والخط الساحلي وأقسام من الجنوب، لم تكن لديها خطة برنامجية استراتيجية بعيدة المدى، واضحة ومفهومة. هذا الأمر أدّى في نهايته إلى شطط كبير وابتعاد عن ملاحظة آفاق التطوّر على المستوى اللبناني السياسي، الشعبي والدولي.
لم يستطع الحزب الشيوعي تصعيد مقاومته ضدّ المحتل الإسرائيلي، بعد انسحابه من بيروت والجبل، وتمركزه في جنوب لبنان والبقاع الغربي. لقد استمر ينظم بعض العمليات بين حين وآخر، لكنّه لم يتمكّن من برمجتها تصعيداً، ومواءمتها مع نشاطات العمل المقاوم المطّرد الذي كانت بدأته المقاومة الإسلامية. وكنت قد ذكرت في مقالة سابقة في (الأخبار ــــ 22/7/2020)، بعض الأمور والأسباب الأساسية التي أعاقته عن هذا الأمر.
وحين حصل التحرير كاملاً، في 25/5/2000، لم يحصد الحزب قمحاً مثمراً كما حصد غيره. هنا، وفي هذا المفصل، بدت غربته واضحة، ذلك أنّ وهج نجاحات المقاومة وضرورة استمرارها، كان قد بدأ يهيمن على أجواء الوضع اللبناني، وإلى حدّ ما العربي. مع مرور الزمن، وبدءاً من عام 1989، حين انهار الاتحاد السوفياتي ومعسكره، أصبحت المشكلة أكبر ومواجهتها أصعب. إثر انتخابات ما بعد «الطائف»، لم يتمكّن الشيوعيون من إيصال أحد منهم إلى الندوة البرلمانية، رغم أنّهم في انتخابات عام 1996، رشّحوا العديد من أعضائهم في الشمال والجنوب والجبل وبيروت والبقاع، ونالوا نسبة لا بأس بها من الأصوات. غير أنّ معركة الانتخابات أصبحت لديهم، لاحقاً، ومع تحوّلات المجتمع اللبناني في أطر مستجدة، رمزية، وهذا ما أبعدهم عن الواقع وقرّبهم على الصعيد الحزبي من الشخصانية والمظهرية وإثبات الوجود.

17/10/2020 انطلاق الانتفاضة
فاجأت انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر الحزب الشيوعي، كما فاجأت غيره من القوى السياسية وأهل النظام. فهذا الحزب، الذي تجاوزته القوى الطائفية والمذهبية داخل الحكم وخارجه، وسيطرت منذ زمن على مفاصل دولية وجماهيرية ومؤسّسات ونقابات وثقافات وهيكليات مجتمعية، كان أبعد من تأثيرها ونفوذها، عن الحركة السياسية المجتمعية الفاعلة. أمّا الطبقة السياسية الحاكمة، بمجملها، فكانت تتشارك مع هذه القوى في مسارات الحراك السياسي، بعيداً عن نشاطية مؤثرة لهذا الحزب. لقد بدت هذه النشاطية واهمة وواهية، وعندما بدأت إرهاصات الانتفاضة، في عام 2015، خلال أزمة النفايات، سارع الحزب الشيوعي للانخراط فيها. وبعدما اتسعت هذه الأزمة وتولّدت انتفاضة شعبية واسعة، وجد الحزب نفسه منقاداً إلى لعب دور فيها، لكن بعد فوات الأوان. لقد تمكنت قوى المجتمع المدني بشرائحها وجمعياتها، المتعدّدة التمويل والتنظيم، من الهيمنة على هذا الحراك. أمّا الشراذم اليسارية المنخرطة، فقد وجدت نفسها نظراً إلى محدودية تأثيرها الجماهيري، بعيدة عن قرار وإمكانية تحريك المسارات.
حين أصدر الحزب الشيوعي بيان مكتبه السياسي (كانون الثاني / يناير 2020) لم يعرض فيه طبيعة هذا الحراك، ولا تشكّله الاجتماعي أو السياسي أو الطبقي. كما لم يشرح طبيعة تنظيم هذا الحراك وشعاراته وإدارته التنسيقية. مع ذلك، فقد رأى البيان أنّ الحراك سيؤسّس لوضع تغييري ثوري كبير. كان هذا التحليل سيكون واقعياً لو أنّ لدى الحزب جماهير واسعة تتجاوز الواقع الطائفي والمذهبي المهيمن على الحركة السياسية، يستطيع أن يحرّك من خلالها مجمل الأحداث والتحرّك الحاصل. خلال متابعتنا لتطوّرات الحراك، وجدنا أنّه يتعثّر وتتناوب على قيادته وتنظيمه جمعيات مدنية وأحزاب جديدة نشأت فجأة، ولم تنتظر بالطبع قيادة الحزب الشيوعي المفقودة له. مع ذلك، فالحزب لم يتواضع واستمرّ رغم عزلته بالتصرّف وكأنه هو القائد الفعلي لما يجري. ولم ينتبه أنّ عليه، طالما أنّ جماهير واسعة من الحراك هي يسارية الطابع وعلمانية، ومدنية التوجّهات في بناء الدولة، أن ينظمها ويجمعها ويُفهمها أن دوره يحتّم عليه الإقدام على ذلك.
أولاً: عبر مراجعته لتاريخه ونقده لهذا التاريخ في مؤتمر طارئ يعقده من أجل إنجاز هذا الهدف.
ثانياً: التأسيس للجديد المقبل في مواجهة الأزمة. بخلاف هذا الأمر كان سيبقي الحزب مستمراً بالشكل في مواجهة الأزمة، وتبقى الانتفاضة عرضة لتجاذبات ضارّة وخطرة بعيدة عن تأثيره، تُوجّهها الأهواء والمصالح. هي الآن تحت هيمنة مجموعات مدنية، بعضها جاد والآخر مخترق ومشبوه بتطلّعات وارتباطات بعيدة عن هدف إنقاذ لبنان من واقعه السيّئ.
ويبقى السؤال ماثلاً: من سيقود جماهير هذا البلد نحو خلاصها الاجتماعي، طالما أنّ المقاومة جاهزة ومستنفرة، للدفاع عن أرضه ووجوده ضدّ العدو الصهيوني؟

* سياسي وكاتب لبناني من مؤلّفاته «قيادات وهزائم، أحزاب لبنان»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا