بعد هدوء نسبي شهده ريف اللاذقية الشمالي، والشمالي الشرقي، منذ أن فشل هجوم المعارضة المسلحة على مناطق في ريف الحفة، قبل نحو تسعة أشهر، وتكبدها خلاله خسائر فادحة، بدت جبهة الساحل وكأنها دخلت في ثبات طويل، حتى جاءت ما سمتها المعارضة المسلحة بغزوة «الأنفال» لتعيد تنشيطها من جديد. تركزت «الغزوة» هذه المرة على مدينة كسب الحدودية وعلى معبر «المفرق» القريب منها، وهو المعبر الوحيد مع تركيا الذي كان لا يزال تحت سيطرة القوات السورية. وبحسب ما أفاد به طبيب مقيم في كسب، فإن قوات المعارضة المسلحة المكونة من عدد من الكتائب والألوية ذات التوجهات الإسلامية المتطرفة، تتقدمها قوات «أحرار الشام» و«الجبهة الإسلامية» و«النصرة» لتنضم إليها لاحقاً قوات «جبهة ثوار سورية»، قد هاجمت المدينة صباح يوم الخميس الواقع في 21/ 3/ 2014 انطلاقاً من الأراضي التركية، وقد نجحت في الدخول إليها قبل أن تطردها منها مساء القوات السورية، لتعود من جديد في اليوم التالي قوات المعارضة للسيطرة عليها،
وهي اليوم ساحة معارك عنيفة بين القوات المهاجمة والقوات السورية مدعومة من قوات الدفاع الوطني وبعض الأهالي، خصوصاً من الأرمن سكان المدينة الأصليين. تقع مدينة كسب في الزاوية الشمالية الغربية من الساحل السوري بالقرب من الحدود التركية التي تحيط بها من ثلاث جهات هي الشمال، والشرق، والغرب، في حين تطل على البحر من جهة الجنوب الغربي، الذي تسيطر عليه القوات السورية، إضافة إلى المناطق الواقعة جنوب المدينة وإلى الغرب من طريق اللاذقية ـ كسب. وإذا علمنا أن المناطق التي تقع إلى الشرق من طريق كسب ـ اللاذقية، وجنوب الحدود التركية، أي بلدة ربيعة وريفها، هي مناطق تسكنها غالبية تركمانية، وتسيطر عليها قوات تركمانية، وهي ممنوعة، بتعليمات تركية، من الخروج خارج مناطقها، فلا يبقى من ممر للهجوم على كسب إلا من داخل الأراضي التركية، وبدعم وتنسيق مع القوات التركية التي أمنت لها تغطية بنيران المدفعية، كما تؤكد مصادر إعلامية مختلفة وكذلك معلومات من الميدان.
من الواضح أن الهجوم على كسب يجيء في سياق تنشيط جبهات عديدة في سورية، منها جبهة درعا، وجبهة شمال حلب، وجبهة شمال حماه، وذلك من أجل تخفيف الضغط عن جبهة القلمون التي تتقدم فيها القوات السورية. غير أن تنشيط جبهة شمال الساحل من بينها تحتفظ بخصوصيات عديدة، إن لجهة تأثيرها المباشر على معنويات ونفسيات مناصري النظام في الساحل عموماً، أو من الناحية العسكرية لجهة احتمال وصول قوات المعارضة إلى البحر، وهذا ما لا يمكن أن يسمح به النظام.
وبالفعل بدأت التأثيرات النفسية لمعركة الساحل تظهر على السكان، إذ أخذ القلق والخوف يرسم معالمه على الوجوه ويسيطر على أحاديث الناس، خصوصاً المقيمين في مدينة اللاذقية التي بدأت تطالها صواريخ المعارضة المسلحة. لكن من جهة أخرى كان لمعركة الساحل تأثيرات معنوية معاكسة، إذ زادت من التفاف مناصري النظام حوله، بعد أن كانت تراخت بعض الشيء في الأشهر القليلة الماضية جرّاء الثمن الباهظ الذي دفعه أبناء الساحل (شهداء ومصابين) في معارك النظام التي يخوضها على امتداد رقعة الوطن، وليس من أفق على ما يبدو لوقفها. معركة الساحل حفّزت الكثيرين من شبابه على التحاق بقوات النظام العسكرية وشبه العسكرية التي تتوجه إلى شمال اللاذقية لصد وهزيمة غزاة «الأنفال». وفي هذا السياق يجيء مقتل هلال الأسد قائد قوات الدفاع الوطني في اللاذقية، ليزيد المشاعر التهاباً حتى بات كثيرون يخشون فعلاً من حصول صراعات طائفية لا يمكن السيطرة عليها. وبالفعل بدا أن اللاذقية قد تحولت إلى ساحة حرب، بُعيد الإعلان عن مقتل هلال الأسد في المعارك الدائرة في كسب بحسب رواية الإعلام الرسمي للنظام، أو جراء سقوط قذيفة (أو تفجير) على مكان وجوده في قرية النبعين إلى الجنوب الغربي من كسب، مع مجموعة من قادة قواته ومنهم بعض أقربائه، بحسب ما تناقلته شائعات كثيرة في اللاذقية، ولكن تمت السيطرة عليها بسرعة لحسن الحظ.
بغض النظر عن النتائج العسكرية لمعركة الساحل التي سوف يحسمها النظام لصالحه مهما طالت، فهو لا يمكن أن يسمح بوصول قوات المعارضة إلى البحر، مع أنها سوف تكلفه ثمناً باهظاً نتيجة طبيعة ساحة المعركة المعقدة، وعدم قدرته على المناورة، واستخدام سلاح الطيران على نطاق واسع جرّاء قربها من الحدود التركية، إلا أن النتائج السياسية بدأت تظهر، وهي عموماً تصبّ في صالح النظام. بداية زادت معركة الساحل من التفاف مناصري النظام حوله، وهذا ملموس من الاستنفار الكامل، ومن كثافة المتطوعين للقتال في صفوف قواته، أو إلى جانبها. أضف إلى ذلك سوف يستفيد النظام من معركة الساحل كذريعة قوية لتأخير تسليم ما تبقى من سلاحه الكيماوي، بل ربما للتوقف عن تسليمه موقتاً إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التي يُعَدّ لها. وثالثاً بدأ النظام يستثمر سياسياً خوف ضيوف اللاذقية الذين يزيد عددهم عن المليون مواطن أتوا إليها من مناطق مختلفة من سورية، خصوصاً من حلب وإدلب وحماه لزيادة كرههم للمعارضة المسلحة، بل إنه، وبحسب بعض المعلومات، بدأ يجنّد بعضهم في صفوف قواته شبه العسكرية.
ومهما تكن نتائج معركة الساحل العسكرية والسياسية، بل جميع معارك النظام والمعارضة المسلحة، مع أو ضد مصالح أحد الطرفين المتصارعين، فإنها سوف تظلّ كارثية على مستقبل سورية وشعبها. ألم يحن الوقت بعد لإدراك أن العنف لن يحلّ الأزمة السورية، وأنه لا بديل عن الجلوس إلى طاولة المفاوضات بنيّة وإرادة صادقتين لإنقاذ سورية؟ سوف يأتي حين تتوقف فيه المعارك، وهذا لا شك فيه، لكن عندها، هل ستكون سورية لا تزال تحمل اسمها؟
* كاتب سوري