أرخى انفجار مرفأ بيروت الدراماتيكي بظلاله السود على المشهد اللبناني السياسي والاجتماعي، بما له من تداعيات مؤسفة سلبية أدت في ما أدت إليه، إلى استقالة حكومة حسّان دياب، وغرق لبنان في أشد وأسوأ أزمة في تاريخه الحديث على المستويات كافّة.هذه المأساة بواقعها المتعدّد الجوانب، دفعتني إلى استقراء واستحضار مفاصل تاريخية وحاضرة، عن مجمل مكوّنات المجتمع اللبناني السياسية، التي أوصلت النظام المادي والمعنوي إلى مأزقه المستعصي على الانفراج والحلول. هنا أجد نفسي، عارضاً ومستعرضاً لعقد الصراع السياسي اللبناني، في ضوء اعتقادي بأنّ ما يجري في لبنان، يحدث مثله ولو بأشكال ومظاهر مختلفة، في مناطق ومجتمعات دولية تشهد حيناً صراعات دموية وأخرى سلمية.
إنّ جوهر هذه الصراعات والمواجهات، إنّما يكمن في تنامي حدّة أزمات النظام الرأسمالي العالمي بأجنحته ومكوّناته التي تنتج نفسها، وتعيد تصديرها إلى مجتمعاتها.
ما هو سائد على مدار حركية العالم، استفحال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، بما فيها تكثيف لمسارات الصراعات الطبقية باصطفافاتها وتناقضاتها والتي هي محور كلّ ذلك: الانقسام المجتمعي الحاصل في السياسة والاقتصاد. في زمن مضى، أيام الحرب الباردة بين الشرق والغرب، كان يجري التعبير عن كلّ ذلك، بأدوات ووسائل صراعية تتمظهر وفقاً لأسس الانقسامات الموجودة بين قوى اليسار واليمين، وما بينهما من تفرّعات واصطفافات: وسط اليمين، يسار الوسط، أقصى اليمين واليسار...
أنا أرى أنّ جوهر المشهد السياسي في العالم لم يتغيّر، وإن ارتدى أشكالاً وطرائق مختلفة ــــــ هناك يسار ويمين ووسط بأحزاب ومسمّيات متنوّعة استمرت على انقساماتها، وفي كثير من الأحيان، اتخذت لها مسميات جديدة، في حين أنّ العديد منها حافظ على مسمياته القديمة.
في لبنان، وهنا بيت القصيد، لا يزال المشهد السياسي مكرَّراً ومتوارثاً. لكنه يأتي مختلفاً عن تطوّرات مجتمعية في مسارح دولية أخرى. الجدير فيه، أنّ قواه المجتمعية واجهت العولمة، وما تلى ذلك من اختفاء للمعسكرَين الشرقي والغربي، بأدوات طبقية متحوّلة. فقد دخل أمراء الحرب الأهلية وإفرازات هذه الحرب، ممّا كان يسمّى باليمين واليسار، في صلب التكوينات الطبقية المستجدّة. هنا، اختلطت الأمور وجرت التحوّلات. إنّ عناصر تلك القوى شملت وكلاء شركات وفبارك، تجّار أسلحة، وسطاء سياسيين أثناء توقّف القتال، سماسرة، إقطاعيات سياسية عائلية مستجدّة، مافيات، أرباب ووسطاء مصارف، زعماء أحياء ومفارز ميليشيات إلخ...
اليسار القديم وواقع التحوّلات
إنّ ملاحظة تطوّر الأمور لدى قوى اليسار اللبناني بتفرّعاته وتجمّعاته، تدفعني إلى التساؤل: هل مجمل هذه القوى أو بعضها، هو ذاته الذي نتج عن تاريخانية تجربة هيمنة وحكم الحركة الوطنية ما قبل الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 وما تلاه؟ الجواب قد يكون طبعاً لا، وطبعاً نعم! إنه «لعم».
لبنان الحديث مأزوم منذ التأسيس، وهو راهناً يعيش هبّة شعبية مضطربة


لا شكّ في أنّ شلّالات مياه كثيرة جرت ودفقت منذ ذلك التاريخ على واقعنا السياسي والمجتمعي. بعضها غار في الأرض فاختفى، ومنها ما طفا على سطح الأحداث فأينع أزهاراً ووروداً ومصالح، انتشرت في لبنان وسائر أنحاء المعمورة.
عودة إلى موضوع المقالة... لماذا لم يتمكّن اليسار من ريادته، أو لعب دور مؤثّر في عملية السعي لتغيير النظام الطائفي الزبائني اللبناني؟ سؤال آخر مشروع، لماذا لم تتمكّن تكوينات سمّت نفسها يسارية، أو هي يسارية فعلاً في منطلقاتها وأفعالها، من تأطير نفسِها في حركة تغييرية ببرنامج واضح ومفهوم، والتوجّه به إلى جزء من الناس لهم مصلحة في ذلك؟ أما السؤال الأكثر واقعية وهو منطقي: لماذا لم يلعب الحزب الشيوعي اللبناني، وهو لا يزال محتفظاً باسمه ولم يغيره، هذا الدور، وهو المؤهّل بسبب تاريخه واستمراريته لتأدية هذه المهمّة؟ إنّ هذا التساؤل يصحّ أيضاً على أحزاب وحركات كانت في تاريخها الحديث، زمن الحركة الوطنية وبعدها، ناصرية، قومية وحتى ماركسية، ونحن لا نراها راهناً موجودة أو ذات تأثير فاعل من ضمن حركة وتكوينات الجماعات اليسارية السائدة أو العلمانية كحدّ
أدنى. الإجابة عن هذه الأسئلة تستوجب الغوص باختصار في شرح الأعطاب البنيوية التي أدّت في ما أدت إليه، إلى انتفاء أو إعاقة عمل هذه الأحزاب في نضالات وحركية مثمرة. هنا، أخصّ تنظيمين هما الحزب الشيوعي ومنظّمة العمل الشيوعي. علماً بأنّ هناك تفريعات عديدة انبثقت منهما بأشكالٍ تنظيمية مغايرة، لكنّها تلاشت أو أرادت الانكفاء... فالتلاشي. نشاطية هذين التنظيمين، في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، بدت محدودة. ويمكن أن يكون الحزب الشيوعي أكثرهما حركة، غير أنّ الشراذم اليسارية الأخرى وهي منتشرة بكثرة، قد تكون استحوذت على شيء من حركته.

أعطاب وعوائق
يمكننا، هنا، ملاحظة أنّ عدم جماهيرية هذين الحزبين مع غيرهما من القوى اليسارية لها أسبابها، وطبعاً نتائجها. في مقدمة هذا الأمر، العطب التاريخي الذي واجهه الحزب الشيوعي اللبناني في نضاله. فهو لم يكن يوماً ثورياً، بل هو طالما تأرجح وبشكل متباين ومتواتر، بين الإصلاح والشعبوية. وفي تاريخه القديم المليء بالمواقف الخاسرة، نظراً إلى الأخطاء السياسية المرتكبة، حجبته نضالاته السرية التي لم تينع ازدهاراً جماهيرياً، إلا مع مطلع الحرب الأهلية. ورغم أنّ المناخ السياسي الذي كان سائداً في حقبة من الحقبات، جاء محرّضاً على الانتفاض تمهيداً للفعل الثوري، فإنّ الحزب بقيادته التاريخية زمن الشهيد جورج حاوي، لم يسلك هذا المسار، بل غامر فيه إلى حدّ الانكفاء والرضى، فالهزيمة. صحيح أنّه دعا إلى مقاومة إسرائيل، وهذا موقف رائع، لكن هذه المقاومة لم تستمر. وتلك مسألة سأتحدث عنها. عندما غادر الشهيد جورج الأمانة العامة في الحزب، في مطلع التسعينيات، بدت الأمور مثل قبطان يغادر سفينة على وشك الغرق. هكذا، واجه الحزب حقبة ما بعد «الطائف». صراعات وبعثرة للقوى، غموض في الاستراتيجية، يأسٌ، انتهازية، إلخ...
لن أفيض بالكلام عن مرحلة الحركة الوطنية، وخسائر الحرب الطائفية المموّهة بشعارات شعبوية وتحرّرية خائبة. هي مرحلة انقضت. وقد أصابت الحزب الشيوعي، كما المنظمة، والعديد من القوى الماركسية المغامرة والطفولية، بالصميم.
أصبح الحزب الشيوعي بعدها يعيش أزمة تلو أخرى، ولا عودة إلى أي تقييم أو محاسبة جديين لمراجعة ما جرى، وإمكانية تصويب الأمور واتّباع البوصلة، كحزب تاريخي كان يفترض أن يقود البلاد إلى خلاصها. أمّا في ما يتعلق بالمقاومة ضد المحتلّ الإسرائيلي، فهنا يكمن العطب القاتل الذي أصابه. فهو دعا إلى المقاومة، وناضل فيها كما غيره من القوى الماركسية والقومية، لكن بعدما كانت استهلكته حقبة الحرب الأهلية التي أخذت من رصيده العقائدي والسياسي والمادّي الشيء الكثير. هذا ما أدّى بسبب عوائقه البنيوية الداخلية، كما الخارجية، إلى عجزه عن الاستمرار بها، وهي كانت لو استمرّت خشبة خلاصه، لينهض ويجدّد نفسه: بجماهير واعدة ورؤى ثورية. لقد تبيّن لاحقاً أنّ تحرير الأرض كان أمنية الناس.
هذه العوائق، ولنعترف أنّها جاءت نتيجةً لانعدام التخطيط والتحسّب للأعظم، وخوض حروب جانبية ضارّة، أصابته بما يشبه الكساح، ما أعطى التيار الانتهازي في داخله، وهو موجود في الحركة الشيوعية العالمية منذ تأسّسها، فرصة وإمكانية لاستغلال الأزمة والقفز نحو المزايدة والاتجاه يميناً، والالتحاق بمحاور عربية وخارجية. إنّ الحزب الشيوعي اللبناني، كما منظّمة العمل الشيوعي، لم يتمكنا من استثمار نضالهما ضدّ المحتل الصهيوني. ذلك أنّ بنيتهما المتهالكة ضعفاً، وخطّهما السياسي العملي الاستراتيجي المرتكز إلى فرضيات وتقلّبات خاسرة، جعلاهما شبه مغيّبَين عن مجتمع يتحوّل بمقاييس ومضامين جديدة، وقوى مستجدّة في إطار تنامٍ ملحوظٍ وسريعٍ للتيارات الإسلامية، وانضباطية الأنظمة العربية في حركيّتها.
إن إمكانات الحزب، كما المنظّمة، وغيرهما من القوى القومية المقاومة لإسرائيل، لم تكن لتسمح لها بلعب دور المقاوِم المستمِر في مقاومته لعدو غاصب من ضمن خطّة طويلة الأمد. في المقابل، في أجواء ومناخات ملائمة، كان من الطبيعي أن تصعد القوى الإسلامية المقاوِمة. وأخصّ هنا حزب الله، الذي كان منظّماً، فتياً، ويستجلب بدعوته مئات المقاومين بل الآلاف منهم. لقد استطاع هذا الحزب، ومعه حركة أمل، حجز مكانٍ لهما في قيادة تيار واسع ولعب دور مفصلي وحاسم غداة التحرير، وحتّى قبله.
أما الحزب الشيوعي بواقعه الراهن، فقد فقَدَ هذه الرافعة التاريخية المهمّة جداً، وهي المقاومة، وأُبعدت عنه مفاعيلها التي ستبقى حاسمة في إطار تجديد النظام اللبناني ومقاومة مطامع إسرائيل وأدوار قوى الرأسمالية الإمبريالية المتوحّشة خارجياً وداخلياً، بمفاعيلها المحورية الإقليمية والدولية.
لقد انعزل الحزب الشيوعي وما تبقّى من تجمّعات يسارية جنينية، أو قديمة، عن آليات العمل السياسي المؤثّر والفاعل، في وطن معولم بأسس اقتصادية متوحّشة، قائمة على إرساء جموح أصحاب رأس المال بروافدهم التقنية، الإعلامية، الثقافية، التربوية والاجتماعية. وفي واقع مستجدّ كهذا، اقتسمت فيه الطوائف والمذاهب السلطة والحكم، من ضمن محاصَصة سياسية، فقَدَ الحزب الشيوعي واليسار جراء ضعف بنيتهما وإمكانياتهما، أيّ فعالية جدية للتأثير في تغيير ما هو قائم أو حتى تعديله.
ولا غرابة أن تتصدّر مجموعات تسمي نفسها المجتمع المدني، بعضها حقيقي وآخر وهمي مشبوه ومدفوع الأجر، النضال بعد انتفاضة 17 تشرين، لقيادة التغيير. وهذا منتهى السخرية في واقع صراعي تاريخي مستمر.
لبنان الحديث مأزوم منذ التأسيس، وهو راهناً يعيش هبّة شعبية مضطربة، كثُرٌ هم من يعملون على طبخ حراكها وتنوّعوا من حيث المقاصد والأغراض والانتماء، كما أنّها تعاني أزمة برنامج وصدقية قيادة خارج الأطر الانتهازية الوصولية. لكن الوجع كبير والأزمة قديمة، أساسها بؤس التكوين والتطوير.
الاستعمار القديم، البريطاني كما الفرنسي، مسؤول ولا شك عن هذا المآل، والولايات المتحدة الأميركية «رأس الإمبرياليات» طابخة السم في الدسم، أشدّهم مسؤولية في زمننا الراهن عن حالة الفساد والحماية، لمن لهم الدور اقتصادياً وسياسياً. في كنفها، تكرّست مباذل وأضرار طبقة طفيلية «سماسرة»، تحت عنوان الاقتصاد الحرّ وباسمه.
في أساس التكوين والتشكّل للبنان، رعى الانتداب الفرنسي عام 1926 فرز لجنة نيابية قامت بإعداد الدستور، واستلهمت بشكل مباشر دستور الجمهورية الثالثة الفرنسية المنبثق من بعض مبادئ الثورة الفرنسية. لكنّها عملت قبل ذلك بدوافع استعمارية على إرساء مؤامرة وزيري الاستعمار سايكس الإنكليزي، وبيكو الفرنسي، لتقسيم المنطقة وفقاً للمصالح الخاصة بدولتيهما.
صحيح أنّ هذا الدستور كان كفل مساواة اللبنانيين أمام القانون في الحقوق المدنية والسياسية والحريات الشخصية، كما الاعتقاد، لكنّه تغاضى عند التطبيق عن بعض القيود، فثبّت الطائفية بدلاً من الدولة المدنية، وخضع لمعارضة المجموعات الدينية في تكريس المادتين 9 و 10 والمادة 95، وهذه الأخيرة نصّت على التمثيل العادل للطوائف في الوزارة والإدارة العامّة. والقليلون يعرفون أنّ هذه المادة جاءت بناء لطلب ممثّلي المسلمين في الأطراف.
أخشى أن يتمكّن الخارج، وتحديداً فرنسا، من إرساء قواعد جديدة للصراع بعد استقالة حسّان دياب، من أسسه، استرهانٌ مستجدّ للبنان باسم ضرب الفساد ومقاومته، ومن ثم البكاء على أنقاض كارثة تدمير مرفأ بيروت، مع عودة على صعيد النظام، لتشكيلات طبقية مستجدّة لقوى بتسميات واصطفافات طبقية يمينية ويسارية، بينما هي في الواقع أقنعة مغلفة لتجديد هذا النظام.
* سياسي وكاتب لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا