ملاحظة: لم تصل هذه الرسالة إلى المرسلة إليها، ولم تجد طريقها إلى النشر، في حينها، وغابت فرنسيس، أقلّه بالنسبة لي، عن السمع، حتى قرأت مقالها المؤثّر، السبت في 22 آب الحالي، عن مجزرة كفتون ـــــــ قضاء الكورة، فقرّرت أن أنشرها
أعتذر أنا (القومي الاجتماعي) من نفسي (أنا المواطن)، قبل أن أعتذر منك ومن المواطنين الذين شاهدوك، ذلك المساء، على شاشات التلفزة، تلملمين جراحك وتمسحين دموعك وتنعين حزباً كان محطّ آمالك وآمال كثيرين من أمثالك، خصوصاً في هذه الأيام الصعبة، حيث تواجه الأمّة تنّين الطائفية والفساد الداخلي والتبعية للأجنبي، بل أعتذر من سعادة نفسه الذي أهانوه أمام بني قومه عندما أهانوك، من دون أن يخجلوا أو يندى لهم جبين!
على الرغم من أنّ مَن اعتدى عليك بالضرب، منذ أيام، وفي بلدة ضهور الشوير، مسقط رأس أنطون سعادة الذي تنبّأ جبران بقدومه، ملقِّباً إياه، في أحد مقالاته، بـ«فتى الربيع» الذي ينادي سكان الأجداث ليهبّوا من رقادهم ويسيروا مع الأيام، مشبّهاً موكبه، في مقال بعنوان «العهد الجديد»، بموكب فتيان يتراكضون كأنّ في أرجلهم أجنحة، ويهلّلون كأنّ في حناجرهم أوتاراً، في حين يسير موكب العجائز، بقايا العهد القديم، متوكئين على العصي الهوجاء، ويلهثون منهوكين (البدائع والطرائف، ص 566- 569).
على الرغم من أنّ المعتدي يزعم أنّه «قومي»، وأنّ محامين «قوميين» هبّوا لنصرته، وتقدّموا بشكوى ضدك في محاولة استباقية لحماية «رفيقهم» المعتدي ومحاصرة «مواطنتهم» المعتدى عليها، عاملين بالقول المأثور «ضربني وبكى سبقني واشتكى» ظنّاً منهم أنهم، بفعلتهم المشينة هذه سينجون، هم وتنظيمهم، من عقاب الجمهور الذي ما صدّق ما تراه عيناه على الشاشة وأنت تروين ما حدث لك في عطلة نهاية ذلك الأسبوع المشؤوم، ذلك الجمهور الذي تعاطف معك كما تعاطفنا، بحماس منقطع النظير، وأكبرَ كما أكبرنا، جميعاً، نُبلك وحزنك على حزب بدأت أخلاق أعضائه تتحلّل وتتلاشى، حتى صار ممكناً، بل أمراً عادياً، أن يتصرّف قومي، بل مسؤول، مهما علت رتبته الحزبية، مع مواطنته بهذه السفالة التي ما بعدها سفالة.
على الرغم من كلّ ذلك، فإنني أصرّ، في رسالتي هذه، على أن أخاطبك بصفتي قومياً اجتماعياً (وإن كنت خارج التنظيم الحزبي، منذ سنوات)، وأرجو أن تقبلي دعوتي بأن تتشبّهي بسعادة في هكذا تجارب، فقد تآمر أمثال حسين هاشم، ممن هم أكبر منه، سنّاً ومركزاً ومسؤولية، على سعادة نفسه وأنكروه قبل صياح الديك، ليل الثامن من تموز 1949، وعندما اجتمعوا بعد تسليمه لجلاديه لكي يعدموه رمياً بالرصاص على شاطئ بيروت في عملية لا مثيل لها في التاريخ. اجتمعوا لا ليثأروا له وللأمة من يهود الداخل والخارج، بل ليقترعوا على ثيابه! وإذا ما عدتِ، غدي، إلى «أعماله الكاملة»، خصوصاً «الرسائل»، وأرجو أن تعودي إليها، من وقت إلى آخر، لوجدتِ أن سعادة فاق «أيوب» في صبره على مكائدهم ومؤامراتهم وألاعيبهم ضده وضدّ الحزب وضدّ الأمة.
في مرحلة اغترابه القسري عن الوطن (1938-1947) وحصول الاستقلالات «الوطنية» المزيّفة بعد رحيل قوى الانتداب البريطاني ــــــ الفرنسي عن البلاد السورية، استغلت قيادة الحزب غيابه وراحت تتصرف على خلفية أنه لن يعود إلى الوطن، وإذا ما عاد، يوماً، فسيكون باستطاعتهم محاصرته لأنه لن يكون، بتقديرهم، بذلك الإيمان وذلك الزخم وتلك الحيوية التي كان عليها قبل أن يقوم بزيارته التاريخية إلى برلين وروما، عاصمتي دول المحور، للحصول على تأييدهما للقضية السورية، ثم يتابع رحلته إلى أميركا الجنوبية لكي يقف على أوضاع المغتربين السوريين هناك، ويعمل على تجنيد إمكانياتهم المادية والروحية للانخراط في معركة تحرير الوطن، خصوصاً أنّ بوادر حرب جديدة كانت قد أخذت تلوح في الأفق.
لقد أجرت قيادة الحزب، في فترة غياب سعادة، تعديلات جوهرية، في الشكل والمضمون، منها:
ــ تغيير اسم الحزب من «الحزب السوري القومي» إلى «الحزب القومي» فقط، بذريعة الحصول على رخصة للعمل الحزبي اشترطت السلطات اللبنانية هذا التعديل للحصول عليها. كما تمّ للغرض نفسه تغيير علم الحزب (الزوبعة)، واستبداله بعلم آخر لا يُشبه الأول ولا يمتّ بصلة إلى القضية القومية المقدّسة.
في مرحلة اغتراب سعادة القسري استغلّت قيادة الحزب غيابه وراحت تتصرف على أنه لن يعود إلى الوطن


ــ الجنوح إلى فكرة تحويل الحزب إلى حزب لبناني صرف، ولذلك أخذت القيادة الحزبية تبتعد عن كلّ ما هو سوري في الحزب. وقد شكّل الثلاثي: نعمة ثابت ومأمون إياس وأسد الأشقر، مدعومين من كميل شمعون وشارل مالك، حجر الزاوية في السياسة الحزبية الجديدة، والتي أظهرت انحرافها السياسي والعقدي الفاقع في خطاب رئيس الحزب نعمة ثابت، في بعقلين عام 1944، حيث خرج الخطاب كلياً عن معنى الأمة كما فهمه القوميون، حيث صار كل شيء قومي فيه لبنانياً، ولكن مجموع القوميين لم يتقيّدوا بفكر واحد من أفكار ثابت ومجموعته المتلبننة.
بعد عودة سعادة إلى الوطن، في 2 آذار/ مارس 1947، حاول الثلاثي المذكور إقناعه، وهو بعد في القاهرة، بالعودة من حيث أتى (المغترب)، لأنّ الأوضاع السياسية تغيّرت، في غيابه، ولم تعد تنفع معها دعوته إلى القومية السورية الواحدة، فقد أصبحت البلاد السورية مجموعة دويلات مستقلة يصعب جمعها في دولة واحدة.
ويذكر سعادة في مقال بعنوان «نعمة ثابت بطل الخيانة»، أنّ هذا الأخير وبعض المسؤولين الآخرين الذين أُدخلوا السجن معه عام 1935، انقلبوا عليه واتّهموه بالغلط في السياسة وقصر النظر في الأمور وعدم فهم الأوضاع، حتى اضطرّ إلى ترك زاويتهم في «القاووش» والانتقال إلى زاوية أخرى بين المجرمين العاديين! (الأعمال الكاملة، مجلّد 7، ص 298).
ويكشف سعادة النقاب عن أنّ ثابت ومجموعته كتموا عنه، وهو في المغترب، جميع تفاصيل «سياستهم» وجميع المفاوضات والارتباطات التي انجرفوا فيها مع بعض السياسيين اللبنانيين، وبعض الفئات السياسية المتلبننة، وارتكبوا ما هو أشدّ من ذلك، إذ أقدموا على محاولة اغتياله سياسياً بمكائد خسيسة لم تخفَ خططها عليه، من أول احتكاكاته بأفكارهم، بعد عودته (المصدر نفسه، ص 304).
بالإضافة إلى الانحرافات السياسية التي قام بها هؤلاء الثلاثة، واجه سعادة، أيضاً، انحرافاً فكرياً تزعّمه فايز صايغ، عميد الإذاعة والثقافة وأحد أكبر مفكري الحزب، حيث استغلّ منصبه الرفيع لنشر أفكار الفيلسوف الروسي الفوضوي نقولا بردياف حول الشخصية الفردية التي ترى المجتمع واسطة لبلوغ الفرد غايته. وقد وجد سعادة أنّ هذه النظرة مناقضة للنظرة التي جاء هو بها والتي على أساسها نشأت الحركة القومية الاجتماعية.
وفي كتاب سعادة إلى فايز صايغ، في كانون الأول 1947، ينبّهه فيه إلى أنّ ترجمة النظرة البرديايفية (نسبة إلى برديايف) والكيغاردية (نسبة إلى كيركيغارد) إلى العربية وتعريف الفكر السوري إليها، قد لا يكون شيئاً يوجب الاعتراض. ولكن ما يوجب الاعتراض هو إحلال النظرة الشخصية الفردية المذكورة محل النظرة القومية الاجتماعية واستخدام أجهزة الحزب، لبثّها بدلاً من تعاليم الحزب التي نشأت تلك الأجهزة لها خصيصاً والتي تدور على محور المجتمع، وليس على محور الفرد أو الشخصية الفردية (المصدر نفسه، ص 379).
إنّ مأخذ سعادة على الأفكار التي عمل صايغ على بثّها في صفوف الحزب، هي أنّها مبادئ وتعاليم غريبة هدّامة لمبدأ الأمة وشخصيتها ووحدتها ولا تنظر إلى المجتمع والإنسانية إلا من زاوية الفرد ــــــ الشخصية الفردية ــــــ خلافاً لتعاليم سعادة ومذهبه القومي الاجتماعي الصريح، الذي ينظر إلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى ـــــــ حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو، في حدّ ذاته وضمن ذلك الحدّ، مجرّد إمكانية إنسانية (المصدر نفسه، ص 388).
انحراف ثالث واجهه سعادة، فور عودته، هو اتهامه من بعض مثقفي الحزب المتأثّرين بأفكار شارل مالك الليبرالية، كيوسف الخال وغسان تويني وكريم عزقول، بالدكتاتورية، مطالبينه بتعديل دستور الحزب الذي يمنحه صلاحيات واسعة. وقد حاول هؤلاء بواسطة الكتابة والنشر ودسّ الدسائس، إظهار سعادة بمظهر الديكتاتور الذي يقبض على السلطة، ولا يسمح لأحد غيره بقيادة الحزب، وهذا كلام، فيه لغو وثرثرة، فضلاً عن أنه لا يستند إلى برهان، فقد قاد نعمة ثابت الحزب ثمانية أعوام متتالية، من دون أن يعترض سعادة على قيادته للحزب في فترة غيابه.
كل هذه المحاولات وما رافقها من حملات تحريض واسعة، شاركت فيها قوى محلية وأجنبية بغرض تأليب الرأي العام القومي ضد سعادة وعقيدته، باءت، جميعها، بالفشل، وقد اضطر سعادة، صوناً للحزب والقضية السورية، إلى استعمال صلاحيات الزعامة وطرد المنحرفين والخارجين على النظام، من دون أن تتأثر بنية الحزب سلبياً بأيّ من إجراءات الطرد التي اتّخذت.
وبعد، غدي، أختم رسالتي إليك، طالباً منك الصفح عنهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون (يسوع). وقد استشرف سعادة هذه الحالة المأساوية التي نمرّ بها جميعاً، أنت وأنا وآخرون أمثالنا، على لسان سليم بطل روايته «فاجعة حبّ» (1932)، بقوله: «إنّ آلاماً عظيمة، آلاماً لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا، إذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب، بل عليه أن يسير وحيداً بلا أمل ولا عزاء، لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة. فكيفما قلبتَ طرفكَ رأيتَ حولك نفوساً صغيرة متذمّرة من الظلمة التي هي فيها ولكنّها لا تجرؤ على الخروج إلى النور. وإذا وُجدت نفسٌ تمدّ يدها إليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وُجدت ألفُ يد أخرى قد امتدّت إليها لتُبقيها في الظلمة. ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة، وبقدر ما يبذل لهم من المحبة يبذلون له من البغض» (الأعمال الكاملة، مجلد 1، ص 357).

*كُتبت هذه الرسالة في الحادي عشر من شهر تموز 2012، احتجاجاً على تعرّض الإعلامية غدي فرنسيس للإهانة من قبل شبّان قوميين، في بلدة ضهور الشوير، خلال تغطيتها لمؤتمر انتخابي للحزب السوري القومي الاجتماعي ــــــ تنظيم الروشة. جرى في ذلك التاريخ، وسيجري مثله، في شهر أيلول المقبل، من هذا العام، إذا كانت الظروف مؤاتية، وسيُعيد هذا المؤتمر، إذا عُقد، إنتاج الزمرة نفسها المتسلّطة على الحزب منذ ذلك التاريخ، كما تُشير المعلومات المتداولة.

** أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا