بنصف ابتسامة مراوغة، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن يبدو في وقت واحد «رجل سلام» ينتمي إلى الحداثة، و«رجل استيطان» لا يتراجع عن مشروعه في ضم 30% من أراضي الضفّة الغربية.بلا أدنى اعتبار لمقتضيات المجاملات الدبلوماسية بين دولٍ تعتزم عقد اتفاقات سلام بينها، عزا ما جرى التوصّل إليه مع دولة الإمارات برعاية أميركية، إلى «قوة إسرائيل السياسية والاقتصادية التي دعت دولاً عربية إلى التخلّي عن مبدأ الأرض مقابل السلام، واستبداله بمبدأ جديد هو السلام مقابل السلام». هكذا، نفى أن يكون مستعدّاً لتجميد مشروع ضمّ المستوطنات، أو سحبه من فوق المائدة. وشاركه النفي نفسه جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي، ومستشاره للشرق الأوسط.
تعليق مؤقت لا تجميد دائم. هذا هو التوصيف الدقيق للموقف الإسرائيلي، قبل توقيع «معاهدة سلام جديدة» في غضون الشهر المقبل في البيت الأبيض. لم يكن ما قاله نتنياهو مفاجئاً، فهو من مفرداته المعتادة، وردّده قبله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عند عرض خطّته لتسوية الصراع الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي، التي تُعرف إعلامياً بـ«صفقة القرن». وصف ترامب نوع السلام الذي يدعو إليه بـ«سلام القوة»، أو «السلام من أجل السلام». لذا، لم تكن مصادفة، توقيت أن يعلن ترامب بنفسه، وقبل غيره، اتفاق السلام الجديد. بدا مشهداً تمثيلياً متهافتاً، افتقر إلى الحبكة والإقناع، وهو يجلس على مكتبه في البيت الأبيض، وحوله الفريق الذي يتولّى ملف «صفقة القرن»، يتحدّثون ارتجالياً واحداً تلو الآخر، عن الدور الذي لعبه الرئيس في إحلال سلام جديد في الشرق الأوسط. لم يدع ترامب فرصة لأي استنتاج حول التوقيت وأهدافه، فقد قال نصاً من دون مقتضى، أنّ منافسه جون بايدن لا يعرف أسماء الدول العربية التي سوف تعترف بإسرائيل واحدة إثر أخرى!
كانت هناك إشارات واتصالات وزيارات وتفاهمات، معلنة وغير معلنة، على مدى أشهر طويلة، مع دول خليجية عديدة مرشّحة لأن تحذو الخطوة نفسها.
ما حدث نقطة تحوّل جوهرية تؤذن بأوضاع جديدة في النظام العربي، تنهي صفحة وتفتح أخرى في النظر إلى القضية الفلسطينية التي وصفت على مدى أكثر من سبعة عقود بأنّها قضية العرب المركزية.
بقوة السياسة العملية، قبل الاتفاقات الموقَّعة، جرى نوع من الفصل بين العلاقة مع إسرائيل والتطبيع معها ومجريات عملية التسوية والتفاوض على أساس القرارات والمرجعيات الدولية وحلّ الدولتين. لم يعُد هناك أدنى التزام يعتدّ به داخل النظام العربي بمعاهدة السلام العربية التي تقضي بالتطبيع الكامل مقابل الانسحاب الإسرائيلي الشامل من الأراضي المحتلّة منذ عام 1967. أُسقطت المقايضة المفترضة، مرة بالتحفّظات الإسرائيلية عليها ومرة أخرى بعدم احترام دول عربية عديدة لالتزاماتها.
لأول مرة في تاريخ الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، تُقدم دولة عربية لا تجمعها حدود مع إسرائيل، لا حاربت ولا احتلّت أراضيها، على عقد معاهدة سلام. لم يجرِِ الأمر على هذا النحو في معاهدتي السلام السابقتَين، المصرية ــــــ الإسرائيلية، والأردنية ــــــ الإسرائيلية. كانت هناك صفقة ما، عادلة أو غير عادلة، عادت بموجبها أراضٍ محتلّة مقابل الاعتراف بها والتطبيع معها. هذه المرة لا توجد صفقات من هذا النوع تبرِّر عقد معاهدة سلام.
في المرتين السابقتين، المصرية والأردنية، نشأت مقاومة شعبية حقيقية للتطبيع، حرّمته النقابات المهنية والعمالية، أدانته الأحزاب والقوى السياسية، وناهضته حركة المجتمع العامة. كان السلام بارداً والتطبيع مشلولاً. شيء مماثل سوف يحدث في الخليج.
الكويت أعطت إشارة أولى على هذا السيناريو بإرثها السياسي وحيويتها الشعبية، وأعلنت أنّها سوف تكون آخر دولة عربية تُطبِّع. كذلك، يصعب في الإمارات، بإرثها العروبي، أن يكون هناك تطبيعٌ شعبيٌّ أو سلامٌ دافئٌ، كما يتصوّر نتنياهو ويراهن كوشنر.
كان لافتاً ـــــ أولاً ـــــ أنّ دولاً عديدة في العالمَين العربي والغربي، دعمت الاتفاق بذريعة أنّه قد يحلحل عقدة المفاوضات المستحكمة، من دون أن يكون لذلك الاعتقاد أساس على أرض، أو إشارة في أفق.
كان لافتاً ــــــ ثانياً ــــــ حجم المناكفة السياسية الإقليمية على حساب أي التزام حقيقي بالقضية الفلسطينية، حيث لوّحت تركيا ــــــ مثالاً ــــــ بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، كنوعٍ من التضامن مع القضية الفلسطينية، من دون أن تطرح على نفسها ما هو بديهي بأن تقطع هي علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة العبرية، أو أن تخفّف أوجه التعاون بينهما في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياحية.
كما أبدت قطر رفضاً مماثلاً، عبر قناتها الفضائية «الجزيرة»، من دون أن تسائل نفسها عن الأدوار التي لعبتها في جعل التطبيع اعتيادياً على شاشاتها، والتمثيل التجاري مُعلناً في عاصمتها الدوحة.
وكان لافتا ــــــ ثالثاً ــــــ قدر الإجماع الفلسطيني على رفض أن يكون هناك تطبيعٌ عربيٌ مجانيّ مع إسرائيل، ينال من قضيّتهم وحقوقهم المشروعة في استعادة أراضيهم المحتلّة. رغم المتغيرات والمستجدّات في الإقليم، فإنّ الفلسطينيين هم مفتاح الموقف، غير أنّ الانقسام الفادح بين الضفّة الغربية وغزّة، أو «فتح» و«حماس»، يفضي بتداعياته إلى إضعاف وإنهاك طاقة مقاومة الاحتلال في لحظة حرجة.
لسنوات طويلة متعاقبة، دعا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، القوى الشعبية العربية إلى زيارة الأراضي المحتلّة، متبنّياً تعبيراً لافتاً: «زيارة السجين لا تعني تطبيعاً مع السجّان». كان ذلك تفريطاً مسبقاً بإحدى الأوراق القليلة التي تبقّت في حوزة القضية الفلسطينية، حيث يمكن تسويغ زيارة السجّان بالاطمئنان على أحوال السجين(!) ــــــ كما قلت له ذات حوار.
أخطر ما في القصّة كلّها، الرهان الإسرائيلي على قيادة الإقليم، أو أن يكون مركز التفاعلات في شبكة المصالح والمشروعات، على ما تصوّر شيمون بيريز، قرب منتصف ثمانينيات القرن الماضي. كان تفكيره في ذلك الوقت، عدم رهن فرص التعاون الاقتصادي بمدى التقدّم في المفاوضات الفلسطينية ــــــ الإسرائيلية.
قبل التوصل إلى أي تسويات سياسية بالتفاوض، جرى القفز إلى مؤتمر اقتصادي عُقد في الدار البيضاء خريف عام 1994، حضره رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، للتباحُث في فرص التعاون والمشاريع المشتركة. راهَن بيريز، أيامها، على التزاوج بين «الأموال الخليجية الهائلة والتكنولوجيا الإسرائيلية المتقدّمة والعمالة العربية الرخيصة». شيء من ذلك الرهان القديم، قد يحدث من دون أن تضطرّ إسرائيل إلى دفع أية استحقاقات.
بصياغة أكثر سفوراً، قال بيريز لبعض القيادات العربية، على هامش مؤتمر الدار البيضاء، بعبارة مقتضبة تعبِّر عن استراتيجية متكاملة على ما استقصى وروى الأستاذ محمد حسنين هيكل: «إنّ مصر كانت تقود الشرق الأوسط في الأربعين سنة الماضية، وأنتم الآن ترون ما انتهت إليه الأحوال في هذه المنطقة إذا ما أخذت إسرائيل الفرصة، ولو لعشر سنوات فقط، فسوف تلمسون بأنفسكم وفي حياتكم مدى الفارق بين الإدارة المصرية والإدارة الإسرائيلية للمنطقة».
بأيّ ترجمة سياسية جديدة، فإنّ أي تمدّد إسرائيلي بالتطبيع تحت غطاء ما يسميه نتنياهو «السلام من أجل السلام»، يستهدف القضية الفلسطينية بالتصفية أولاً، ووراثة الدور المصري بالإلغاء ثانياً، والوصول إلى خزائن الخليج بالضغوط ثالثاً. إنها الحقبة الإسرائيلية، تُطلّ بأخطارها على الإقليم كلّه، لا على الفلسطينيين وحدهم.
* كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا