أصابت شظايا الانفجار المهول الذي وقع في مرفأ بيروت، كلّ اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم وانتماءاتهم السياسية دونما تمييز. ويختصر أحد المعلّقين ما ألمّ ببيروت بالقول إنّ «الخراب الذي أصاب لبنان نتيجة العدوان الصهيوني، في عام 2006، على مدى 33 يوماً، قد اختصره هذا الانفجار في 33 ثانية، وباتت بيروت مدينة منكوبة أمام هول هذه الفاجعة». لكن رغم هول هذه الفاجعة، لم يتوانَ بعض التيارات السياسية المناوئ لكلّ شيء اسمه مقاومة في وطننا العربي، ولا بعض وسائل الإعلام العربية واللبنانية المعروفة الانتماء والمنفلتة من كلّ عقال، عن محاولة توظيف هذه الكارثة بطريقة لا مهنية ولا أخلاقية البتّة. فبعد مرور دقائق معدودات على الانفجار، وحتى قبل معرفة حقيقة ما جرى، بدأت وسائل الإعلام هذه، بنسج الروايات المختلَقة والمتناقضة في الكثير من الأحيان، وقامت بلَيّ عنق الحقيقة بهدف تحميل المقاومة ممثّلة بحزب الله، المسؤولية وتبعات هذا الحادث. ولم يثنِها أنّ مثل هذا الأسلوب التحريضي الذي يعتمد على التخمينات وعلى الاتّهامات النابعة من خلفيات سياسية من دون أيّ دليل، يمكن له أن يجرف البلاد ــــــ لا سمح الله ـــــــ إلى حرب أهلية جديدة.وكان لافتاً من بين تلك الروايات المختلقة، رواية بعينها، مفادها أنّ حزب الله يملك مخزن صواريخ دقيقة بعيدة المدى، وذات قدرة تفجيرية عالية في مرفأ بيروت، وأنّه تمّ استهداف هذا المخزن من قبل كيان الاحتلال، ما أدّى إلى وقوع ذاك الانفجار الهائل. وعليه، فإنّ حزب الله هو المسؤول عمّا حلّ ببيروت. وكان حزب الله قد نفى، بشكل قاطع وجازم، وجود أيّ مخزن صواريخ أو سلاح له في المرفأ، وهذا أقرب للواقع والمنطق بحسب حقيقة تداخلات المشهد في لبنان. لكن دعونا نفترض جدلاً أنّ تلك الرواية المختلَقة كانت صحيحة، فبأي شرع يستقيم تحميل المقاومة مسؤولية آثار عدوان على أرضها من قبل عدو مجرم ما زال يحتلّ الأرض، ولا يتوانى عن ارتكاب المجازر تلو المجازر؟ أليست المقاومة اللبنانية مقاومة مسلّحة، ومن الطبيعي أن تسعى لامتلاك كلّ ما يُتاح لها من أنواع السلاح لحماية الأرض والعرض؟ ألا يقع مرفأ بيروت في أرضٍ لبنانية، وحزب الله هو حزب لبناني موجود على أرضه يحقّ له تخزين سلاحه في أيّ بقعة يرتئيها على أرضه؟ لكن يبدو أنّ العداء للمقاومة لدى البعض، قد قلَب المفاهيم، وبات العدوان على الأراضي العربية من قبل كيان الاحتلال أمراً مشروعاً ومستساغاً. فمثلاً إذا استهدف كيان الاحتلال مستقبلاً مخزن صواريخ تابعاً لفصائل المقاومة في غزّة، ونجمت عن هذا العدوان مأساة لا قدّر الله، تصير فصائل المقاومة الفلسطينية، بحسب هذا المنطق المنحرف، هي المذنبة لا هذا الكيان الغاصب. لقد هدّد حزب الله باستهداف مخازن نترات الأمونيوم الموجودة في مرفأ حيفا، كردٍّ محتمل على أي عدوان إسرائيلي على الأراضي اللبنانية، فهل ستبادر عندها الدول الاستعمارية إلى تحميل كيان الاحتلال المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن هكذا ردّ إن حصل، أم أنّها ستلوم المقاومة من دون أي تردّد؟ وهل برأيكم سيُحَمِّل المستوطنون المسؤولية لكيانهم الغاصب أم لحزب الله؟
يبدو من خلال تتبّع مسار الأحداث ما بعد الكارثة أنّ بعض التيارات السياسية اللبنانية قد سال لعابها على استعادة مشهد عام 2005


يرى البعض أنّ بعض وسائل الإعلام العربية يهدف من وراء ترويج مفاهيم مغلوطة ومشوّهة كهذه إلى كيّ الوعي الجمعي عند الشعوب العربية، لا سيما الفئات الشابة منها، حيث تصير مع مرور الوقت متقبّلة لفكرة أنه يحقّ للكيان استهداف أيّ مواقع للمقاومة العربية، وحتى الجيوش العربية، بعدما نجحت في إشاعة فكرة مشروعية الاستعانة بالجيوش الأطلسية في النزاعات الداخلية، على غرار ما جرى في العراق وليبيا. والأخطر أنّ جزءاً من الإعلام العربي الذي يساند في الظاهر فئة معيّنة من حركات المقاومة بينما يعادي فئة أخرى لحسابات إقليمية أو مذهبية، بات يتبنّى مثل هذا الخطاب المشوّه، وباتت المبادئ والثوابت لديه غب الطلب. وتكمن خطورة منهج المعايير المزدوجة هذا، في كونه أوّل الطريق لتصير الخيانة وجهة نظر، فلأي هاوية جديدة يجرّنا هذا الإعلام الفاسد؟
هذا في الإعلام، أما في السياسة، فيبدو من خلال تتبّع مسار الأحداث ما بعد الكارثة، أنّ بعض التيارات السياسية اللبنانية قد سال لعابها على استعادة مشهد عام 2005، في محاولةٍ منها لتعديل موازين القوّة بما يصبّ في صالحها. فارتفاع حدّة الاحتقان السياسي الداخلي، وسعي بعض الأطراف اللبنانية إلى استدعاء الخارج، من خلال الدعوات إلى لجنة تحقيق دولية، وصولاً إلى طلب وضع لبنان تحت الوصاية الدولية، يذكّرنا بأحداث عام 2005. وإذا وضعنا كلّ هذه التطوّرات ضمن سياق الضغط الأميركي المستمر منذ مدّة على حزب الله في الداخل اللبناني، وضمن محاولات تشديد الحصار الأميركية على أطراف محور المقاومة عموماً، سواءً عبر فرض العقوبات الاقتصادية المتصاعدة على إيران، أو عبر فرض قانون «قيصر»، لأمكننا الخلوص إلى أنّ فرضيّة وقوع مواجهة كبيرة، في المرحلة المقبلة، بين المحورَين المتقابلَين، يصعب استبعادها. لكن في المقابل، إذا ألقينا نظرة على وضع قوى محور المقاومة المتصاعد إقليمياً، وعلى التوازنات المستجدّة على الساحة الدولية ممثّلة بالسياسات الروسية والصينية الأكثر صلابة في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وتراجع تلك الأخيرة على المسرح الدولي عموماً، ناهيك عمّا تعانيه من أزمات داخلية متراكمة، يظهِر بوضوح اختلاف الظروف الراهنة عمّا كان الحال عليه في عام 2005، حيث لم تعد التوازنات مختلّة لصالح المحور الأميركي بشكل قوي، وهذا يؤشر إلى أنّ محاولات استعادة سيناريو عام 2005، بهدف تحقيق نتائج مشابهة، هو أقرب للأماني منه إلى الواقع. فهل تكون القراءة الأولية لزيارة الرئيس إيمانويل ماكرون التي بدت في الظاهر أنها ترمي إلى خفض التوتّر، بناءً على التوازنات الداخلية اللبنانية والإقليمية الجديدة صحيحة؟
لكن أيّاً كانت القراءة، فإنّ التداخّل في المصالح والتضارب في التقديرات، يترك الباب مشرّعاً على احتمالية أن يقدم بعض أطراف الداخل اللبناني على خطوات تصعيدية غير محسوبة العواقب استجداء للتدخّل الخارجي. وفي حال كهذا، يصير الانزلاق إلى حرب أهلية لا قدّر الله، أسرع ممّا يظنّه البعض.
هي، إذن، مرحلة دقيقة يمرّ فيها لبنان، والأرجح أنّ تحدّد نتائج هذه الجولة شكل الصراع الإقليمي ومساراته مستقبلاً، فقدر هذا البلد الصغير حجماً، الكبير قدراً وتأثيراً، أن يكون المرآة لتوازنات القوة في الإقليم.

* كاتب وباحث في الشؤون السياسية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا