يبدو من خلال تتبّع مسار الأحداث ما بعد الكارثة أنّ بعض التيارات السياسية اللبنانية قد سال لعابها على استعادة مشهد عام 2005
يرى البعض أنّ بعض وسائل الإعلام العربية يهدف من وراء ترويج مفاهيم مغلوطة ومشوّهة كهذه إلى كيّ الوعي الجمعي عند الشعوب العربية، لا سيما الفئات الشابة منها، حيث تصير مع مرور الوقت متقبّلة لفكرة أنه يحقّ للكيان استهداف أيّ مواقع للمقاومة العربية، وحتى الجيوش العربية، بعدما نجحت في إشاعة فكرة مشروعية الاستعانة بالجيوش الأطلسية في النزاعات الداخلية، على غرار ما جرى في العراق وليبيا. والأخطر أنّ جزءاً من الإعلام العربي الذي يساند في الظاهر فئة معيّنة من حركات المقاومة بينما يعادي فئة أخرى لحسابات إقليمية أو مذهبية، بات يتبنّى مثل هذا الخطاب المشوّه، وباتت المبادئ والثوابت لديه غب الطلب. وتكمن خطورة منهج المعايير المزدوجة هذا، في كونه أوّل الطريق لتصير الخيانة وجهة نظر، فلأي هاوية جديدة يجرّنا هذا الإعلام الفاسد؟
هذا في الإعلام، أما في السياسة، فيبدو من خلال تتبّع مسار الأحداث ما بعد الكارثة، أنّ بعض التيارات السياسية اللبنانية قد سال لعابها على استعادة مشهد عام 2005، في محاولةٍ منها لتعديل موازين القوّة بما يصبّ في صالحها. فارتفاع حدّة الاحتقان السياسي الداخلي، وسعي بعض الأطراف اللبنانية إلى استدعاء الخارج، من خلال الدعوات إلى لجنة تحقيق دولية، وصولاً إلى طلب وضع لبنان تحت الوصاية الدولية، يذكّرنا بأحداث عام 2005. وإذا وضعنا كلّ هذه التطوّرات ضمن سياق الضغط الأميركي المستمر منذ مدّة على حزب الله في الداخل اللبناني، وضمن محاولات تشديد الحصار الأميركية على أطراف محور المقاومة عموماً، سواءً عبر فرض العقوبات الاقتصادية المتصاعدة على إيران، أو عبر فرض قانون «قيصر»، لأمكننا الخلوص إلى أنّ فرضيّة وقوع مواجهة كبيرة، في المرحلة المقبلة، بين المحورَين المتقابلَين، يصعب استبعادها. لكن في المقابل، إذا ألقينا نظرة على وضع قوى محور المقاومة المتصاعد إقليمياً، وعلى التوازنات المستجدّة على الساحة الدولية ممثّلة بالسياسات الروسية والصينية الأكثر صلابة في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وتراجع تلك الأخيرة على المسرح الدولي عموماً، ناهيك عمّا تعانيه من أزمات داخلية متراكمة، يظهِر بوضوح اختلاف الظروف الراهنة عمّا كان الحال عليه في عام 2005، حيث لم تعد التوازنات مختلّة لصالح المحور الأميركي بشكل قوي، وهذا يؤشر إلى أنّ محاولات استعادة سيناريو عام 2005، بهدف تحقيق نتائج مشابهة، هو أقرب للأماني منه إلى الواقع. فهل تكون القراءة الأولية لزيارة الرئيس إيمانويل ماكرون التي بدت في الظاهر أنها ترمي إلى خفض التوتّر، بناءً على التوازنات الداخلية اللبنانية والإقليمية الجديدة صحيحة؟
لكن أيّاً كانت القراءة، فإنّ التداخّل في المصالح والتضارب في التقديرات، يترك الباب مشرّعاً على احتمالية أن يقدم بعض أطراف الداخل اللبناني على خطوات تصعيدية غير محسوبة العواقب استجداء للتدخّل الخارجي. وفي حال كهذا، يصير الانزلاق إلى حرب أهلية لا قدّر الله، أسرع ممّا يظنّه البعض.
هي، إذن، مرحلة دقيقة يمرّ فيها لبنان، والأرجح أنّ تحدّد نتائج هذه الجولة شكل الصراع الإقليمي ومساراته مستقبلاً، فقدر هذا البلد الصغير حجماً، الكبير قدراً وتأثيراً، أن يكون المرآة لتوازنات القوة في الإقليم.
* كاتب وباحث في الشؤون السياسية
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا