لعلّ من نافلة القول إنّ التاريخ والجغرافيا هما حاكمان مستبدّان في تحديد خيارات الشعوب. وإذا ما كان ممكناً «التملّص» من استبداد الأول عبر تلوّنات تشتقّ مسارها الطويل من محاولات خلق انحراف في الوعي العام بطرقٍ شتّى، أو من محاولات إيقاظ تراث قديم يغوص في الذات الجماعية مرّة، ثمّ بإضفاء صبغات جديدة على الحالة الراهنة عبر مزواجتها بأفكار مستحدثة في مرّات أخرى، فإنّه من المستحيل تحت أيّ ظرفٍ كان التخلّص من استبداد الثانية ــــــ أي الجغرافيا ــــــ التي تبدو قدراً لا مناص من نفاذه، ولا هروباً ممكناً منه تحت طائلة المخاطرة بإفقاد هذي الأخيرة مناعتها عند القيام بمحاولات من هذا النوع.ربط قدر الجغرافيا الذي كنّا قد اتّفقنا مسبقاً على استبداده، الكيانين اللبناني والسوري بوثاق هو أقرب للتشبيه بعلاقة المعصم بالإسوارة، حيث الأخيرة تحيط بالأول لتزيينه، لكنّها في شكل آخر تفعل، أو هي تمارس بشكل أدقّ، فعل القيد الذي يمكن له، إذا ما ارتبط بسلاسل راسخة، أن يكون محدِّداً بدرجة كبيرة لحركة المعصم، ومعه الذراع التي تلعب دور وسيط نقل الحركة إليه.
منذ الولادة القيصرية للكيان اللبناني، في عام 1920، كان الحدث يعتدّ بإرثٍ حضاريٍ تختزنه الجغرافيا التي قام عليها، وهو يختزن أيضاً بالجماعات التي عاشت، ولا تزال، على تلك الجغرافيا، وهو، أي ذاك الإرث، كان يمثّل بالتأكيد حالة متميّزة في المحيط الذي ينتمي إليه. فالأسطورة الفينيقية ـــــ مثلاً ـــــ تقول إنّ «أوروبا» ليست سوى ابنة «آجينور» ملك صور التي خطفها «زيوس»، ثم طار بها بعيداً عن مملكة أبيها. وفي رحلة أخيها الطويلة للبحث عنها، قام هذا الأخير بتأسيس العديد من المنارات التي ظلّت تمثّل إشعاعاً حضارياً لردح طويل من الزمن، مثل «القدموس» الواقعة في سلسلة جبال الساحل السورية راهناً، قبيل العثور عليها في الأرض التي تحمل الآن اسم أوروبا تيمناً باسمها. هذا الإرث سيجري استخدامه، لاحقاً، في محاولات إيجاد حالة من التميّز الحضاري للكيان الوليد، الأمر الذي يمكن تلمّسه في أدبيات الراحل سعيد عقل الذي كتب «القدموس» و«بنت يفتاح»، قبيل مضيّه في مساره إلى محاولة وضع محددات جديدة للـ«الأمة اللبنانية»، بادئاً بالدعوة إلى تبنّي «اللغة المحكية». كانت تلك الدعوة، في وجهها الآخر، محاولة لترسيخ هوية حضارية جديدة للبنان، تكون مختلفة عن نظائرها في المحيط، وهي في الآن ذاته تمثّل محاولة للتخلّص من استبداد حكم الجغرافيا، حتى ولو أدّى الأمر إلى أن تفضي إلى خلق كيان ذي طابع تناحري مع الجوار، ولسوف تكون له تداعيات في العديد من المفاصل الحرجة التي سيمرّ بها الكيان لاحقاً.
مضى الكيان اللبناني في تمرحلاته، التي شهدها إبان عقود امتدّت من الثلاثينيات حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، في اجتراح نهجِ مغايرِ لكلّ ما يجري في المحيط، حيث ستطال تلك المظاهر عموم الأساسيات التي اعتمد عليها رسوخ الكيان، بدءاً من الاقتصاد بكلّ منعكساته التي يستحضرها في شقوق الثقافة والأفكار، ثمّ مروراً بالحريات بمختلف أنواعها التي ترخي عادة بظلالها الثقيلة على الشخصية الفردية والمجتمعية أيضاً كتحصيل أكيد للفعل الأول، وصولاً إلى نمط الحياة وطريقة العيش. كانت كلّ تلك المظاهر مجتمعة قد حقّقت، عبر تناغمها، نجاحاً لافتاً في حينها، حتى استحقّ لبنان إبان تلك المرحلة، ولعقود ثلاثة على الأقل، عن جدارة لقب «سويسرا الشرق». لكن من الواضح، أنّ ذلك النجاح كان محكوماً بحالة «ظرفية» لن تدوم طويلاً قياساً إلى معطيات عدّة، لعل أبرزها التهديد الذي يمثّله نجاح التجربة للـ«النموذج الإسرائيلي»، الذي صُمّم أساساً للعب ذلك الدور، حيث التفرّد هنا، يمثل ضماناً لازماً لاستمرار الكيان، وفي الآن ذاته، من شأنه التخفيف من الأثمان التي يتكلّفها الغرب لزوم الاستمرار سابق الذكر. ومن الراجح، اليوم، القول إنّ سقوط تلك التجربة ــــــ أي التجربة اللبنانية ــــــ كان يمثّل تلاقياً في الهدف ما بين تل أبيب والعديد من مراكز القوى التي أتاح لها ازدهار عصر النفط، ما بعد الأزمة التي شهدها في أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، فرصة سانحة كبيرة. فقد أتاحت الأزمة لتلك المراكز فرصة مراكمة رأس المال الذي راحت أكداسه تتعالى مطيلة بذلك «البساط»، الذي أتاح بدوره تمدّد الأقدام التي تطاولت هي الأخرى كنتيجة طبيعية لعملية التطاول الأولى سابقة الذكر. ومن الممكن، هنا، الجزم بأنّ صعود مركز دبي ـــــ مثلاً ـــــ لم يبدأ إلا بعد تهتّك مركز بيروت، الأمر الذي حصل بُعيد قيام الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدّت لأربعة عشر عاماً، واقعة ما بين عامي 1975 ــــــ 1989.
كانت التجربة اللبنانية ما بين 1943 ـــ 1975 تنحو بالكيان نحو الاصطباغ بكلّ ما هو غربي والابتعاد عن كلّ ما هو شرقي


من حيث النتيجة، كانت التجربة اللبنانية ما بين 1943 ــــــ 1975، تنحو بالكيان نحو الاصطباغ بكلّ ما هو غربي والابتعاد عن كلّ ما هو شرقي. وهذا لوحده كان قد خلق تحدّيات كبرى في محيط مغرق في شرقيّته، ويشدّ من أزرها، وتناقضٍ داخلي أساسي ناجم عن اختلال التوازن بين منسوب الحريات التي ما انفكّت تُعلي تلك المناسيب في الجعبة اللبنانية، كلّما تقدّم الوقت بتلك التجربة، وبين ديموقراطية عرجاء لم تستطع أن تحقّق حتى في ذروة الاستقرار أكثر من نموذج «ديموقراطية الطوائف» الذي ظلّ عصياً على التفكّك، حتى ما بعد حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والذي مثّل فرصة سانحة للتغيير و اجتراح نموذج أفضل لو لم تكن «براغي» الهيكل صدئة.
عبرت التجربة نحو نفقها المظلم بعد حادثة البوسطة في محلّة عين الرمانة، يوم 13 نيسان/ أبريل 1975، والحادثة في عمقها كانت تعبيراً عن أزمة هوية غير متّفق على لونها وزراكشها في ما بين أطياف اللبنانيين. صحيح أنّ سببها المباشر جاء كنتيجة لقرار «اليسار» اللبناني ـــــ رفقة مع الحليف ياسر عرفات الذي كان لا يزال يعيش مرارة هزيمة جرش أيلول/ سبتمبر 1970 والباحث في آنٍ عن تكرار تجربته تلك على الأراضي اللبنانية ــــــ الدخول في مغامرة لم يكن مدركاً إلى أين يمكن أن تودّي به ولا بقضيته ومعها الكيان اللبناني برمّته، ولا مدركاً بأنّها قد تذهب بالمنطقة إلى حرب شاملة، في ظل اختلال موازين القوى بشكل كبير لصالح دولة الاحتلال كنتيجة لخروج مصر من الصراع الذي تأكد في أعقاب توقيع قاهرة أنور السادات لاتفاقية فكّ الارتباط مع إسرائيل، عام 1974. إلّا أنّ الصحيح أيضاً، أنّ عمق الصورة كان يظهر في خلفياته أزمة كيان تتنازعه هويتان، الأولى شرقية والأخرى باحثة عن التغريب، وهي في عمقها تريد الخلاص من قدر الجغرافيا.
كانت أخطر النتائج التي أدّى إليها الولوج إلى ذلك النفق المظلم والطويل، هو تهتّك النسيجين الاجتماعي، والفكري ــــــ الثقافي الذي كان حاضنة ومنارة للمطارحات الجارية على نطاق حلّ المشاغل النظرية لأزمة الفكر العربي. ولعلّ من اللافت أنّ ذلك التهتّك كان حاضراً بين الثنايا، ولم يكن بحاجة إلى أكثر من «شَدَّة» حتى تتفتّق أنسجته. ظهر ذلك في مظاهر عدّة، تجلّى أبرزها في الخروج السريع لتنظيم «حراس الأرز» الذي أسّسه إتيان صقر عشية اندلاع الحرب، وتحديداً قبيل شهرين من قيامها، حيث سيستلهم المؤسّس أفكار حزبه من أدبيات سعيد عقل سابقة الذكر، وسيذهب في المنهج إلى قراءة الجغرافيا اللبنانية على أنّها انغلاق على ما وراء الجبل (أي سوريا)، وانفتاح على ما وراء البحر (أي إسرائيل). ولا يمكن النظر إلى هذه الظاهرة، على أساس الثقل الذي كان يمثّله الحزب في الشارع اللبناني، حيث تشير الوثائق إلى أنّ عدد منتسبيه لم يصل في أعلى مراحله إلى أكثر من ألف منتسب، فالمؤكد أنّ كلّاً من «حزب الكتائب» و«الوطنيين الأحرار»، ثم «القوات اللبنانية» لاحقاً، كانت كلّها تتبنّى تلك القراءة، وإن كانت لا تجاهر كلّها بها، لحسابات سياسية معروفة.
يمكن لحظ أنّ تلك الحالة ـــــ التي نقصد بها هنا الهروب من قدر الجغرافيا والتاريخ أيضاً ــــــ كانت قد عاشت مرحلة من خبو التوهّج في المرحلة التي أعقبت الغزو الإسرائيلي للبنان، صيف عام 1982، حيث سيسجّل الخط البياني لذلك الهروب في هذا التاريخ الأخير، ذروة كانت هي الأعلى من بين ذراه السابقة على لسان سعيد عقل مرة أخرى، عندما خرج هذا الأخير، والجيش الإسرائيلي على أعتاب بيروت، داعياً إلى أن يكون الانقسام «حضارياً»، بمعنى أنّ حالة «التراصف الحضاري» كانت تقتضي تحالف اللبنانيين «المتحضّرين» مع الإسرائيليين «الذين يشابهونهم في تلك الصفّة»، ضد «البرابرة» الفلسطينيين، قبل أن يستطيع حبيب الشرتوني، عبر اغتياله بشير الجميل في أيلول/ سبتمبر 1983، وقف انزلاق لبنان، ولربما باقي المنطقة، نحو دخول العصر الإسرائيلي. والمؤكد أنّ هذا الفعل الأخير، كان مقدّمة طبيعية لا غنى عنها لإسقاط اتفاق 17 أيار/ مايو، الموقّع في عام 1983، وكلا الحدثين أدّيا من حيث النتيجة، إلى حالة الخبو سابقة الذكر مرة أخرى، حيث سيؤدّي نجاح المقاومة الإسلامية في لبنان مسنودة بدعم دمشق، وإيران، في دحر الاحتلال في أيار/ مايو من عام 2000، ومعه دويلته التي أقامها في الجنوب والتي جمعت بالتأكيد أنصار ذلك الفكر الذي عمد عقل إلى تسويقه.
محاولات القفز فوق الجغرافيا، ستعاود الظهور من جديد بدءاً من عام 2005، الذي شهد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في شباط/ فبراير من ذلك العام. سيخلف الحدث ولادة حراك سيُعرف على مدى سنوات طويلة باسم «ثورة الأرز»، التي استولدت طبيعياً «قوى 14 آذار»، التي يصحّ اعتبارها وريثة شرعية للفكر صاحب القراءة سابقة الذكر للجغرافيا اللبنانية. ثم سرعان ما سيكتسب الوليد زخماً استمدّه من خروج الجيش السوري من لبنان، أواخر نيسان/ أبريل من العام نفسه.
ما بعد حرب تموز/ يوليو 2006، سيعاود خطّ ذلك الحراك مساره الهابط، بعدما تكشّف لتلك القوى أنّ تل أبيب لم تفِ بوعودها، وبمعنى أدق، كانت أعجز عن الإيفاء بها. وما يمكن لحظه في المسار الذي اختطّه لبنان بعد هذا الفعل الأخير، هو أقرب ليكون مضياً لاستعادة هويته الشرقية التي تهتك نسيجها في العديد من أطرافه.
مناسبة هذه السردية، هي الخيارات الصعبة التي وضع «قانون قيصر» الكيان اللبناني فيها، وما نريد قوله منها هو إنّ المحاولات التي شهدها لبنان لتلوين التاريخ تارة أو إصباغه بحناء تارة أخرى، ثم محاولات القفز فوق حكم الجغرافيا المستبد، جميعها فشلت، أو أقلّه لم تستطع الاستمرار، ولا هي حقّقت الاستقرار اللبناني، حتى في ذروة الدعم الغربي الذي كان يتلقّاه. والمؤكد أنّ هذا المسار يجب أن يكون محلّ بحث ودراسة في غرف صناعة القرار السياسي اللبناني، لاجتراح حلول من شأنها احتواء رياح «قيصر» تحت سقف حكم الجغرافيا المستبد الذي يجب أن يكون ناظماً ومحدّداً للفعل الأخير، لا العكس.

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا