انتهى «شهر الفرنكوفونية» الذي احتفي به عبر القارات الخمس. في لبنان بدأت الاحتفالية في 28 شباط الماضي واستمرت حتى 28 من الشهر الحالي، رافعةً شعار «لا نمزح مع الفكاهة» في إحالة على مسرحية ألفريد دو موسيه (لا نمزح مع الحب). ويحدونا هنا سؤال محوري: لماذا لا تزال هذه القارات تحتفي بالفرنكوفونية، مع غياب البريق الأخّاذ للغة الفرنسية وحتى أنها تخبو في العديد من البلدان التي كانت تعدّ فيها جزءاً أساسياً من لغاتها؟! كانت دراسة اللغة الفرنسية ظاهرة ثقافية وسياسية على نحو شديد، فهي ممارسة يجري من خلالها تسخير اللغة والأدب لخدمة نزعة قومية عميقة وشاملة.
أما تطور اللغة الفرنسية من حيث هي موضوع أكاديمي متميز في لبنان - القرنين الثامن والتاسع عشر- وهو ما تأكد في النهاية بدخولها إلى المناهج الدراسية في الجامعات التي أسستها الإرساليات التبشيرية الغربية، فقد حدث هذا الأمر بوصفه رائزاً من محاولة للحلول محل الكلاسيكيات في قلب الهيئة الفكرية والثقافية للأمة العربية والإسلامية في القرن التاسع عشر، والتي كانت تحتويها الإمبراطورية العثمانية بمؤسساتها الرسمية.
إن اللحظة التاريخية التي شهدت ظهور اللغة الفرنسية بوصفها فرعاً علمياً أكاديمياً قد أنتجت أيضاً الشكل الكولونيالي للإمبريالية في القرن التاسع عشر. فقد أرسل المحتل الفرنسي - قبل حلوله محتلاً عسكرياً- البعثات التبشيرية، وبسبب خوفه من التمرّد الأهلي، وجد في اللغة الفرنسية وآدابها حليفاً يدعمهم في الاحتفاظ بسيطرتهم على الأهالي تحت قناع التعليم «الليبرالي». وهذا ما يؤكده بول هوفلان أستاذ كلية الحقوق في جامعة «ليون» الفرنسية عام 1919 بقوله الشهير: «إن تعليم الناس لغتنا، لا يعني ألفة أفواههم وآذانهم للصوت الفرنسي، بل يعني فتح نفوسهم على الأفكار الفرنسية وعلى العواطف الفرنسية، وأن نجعل منهم فرنسيين من ناحية ما... هذه السياسة تؤدي إلى فتح بلد بوساطة اللغة».

إنّ الفرنكوفونية والأدب المنشق منها يدخل ضمن سياق الآداب ما بعد الكولونيالية

سقتُ هذه المقدمة لأقول كم هو مخز تحوير الواقع، حين تشدد مديرة الوكالة الإقليمية سلوى ناكوزي، في حديث لها مع جريدة «الأخبار»، في 27 / 2/2014، على أهمية الثقافتين الفرنسية والعربية، وتشجيع الترجمة. فالفرنكوفونية برأيها هي في الدرجة الأولى «الدفاع عن اللغات والثقافات والتعددية وليس تذويبها في لغة واحدة لا طعم لها». إذ كيف جاز لها أن تقيم تداخلاً غير متسق بين تشجيع الترجمة بما تعنيه لغة حضارية في التثاقف بين المجتمعات الإنسانية وبين «الفرنكوفونية» بما هي وسيلة للسيطرة والهيمنة على هذه المجتمعات ؟! وما يدلّ على ذلك أن يعلن معظم مثقفي الفرنكوفونية حول العالم، في 16 آذار من عام 2007، في بيان وقعه 44 كاتباً فرنكوفونياً وفرنسياً، ومنهم أمين معلوف، نشرته صحيفة «لوموند» الشهيرة، يعلنون فيه انتهاء العالم من مصطلح «الفرنكوفونية» بسبب بعض الأفكار التي ارتبطت به من زمن الاستعمار الفرنسي، وبسبب عدم قدرته، بحسب بيانهم، على اختزال تنوّع الأدب الذي يُكتب باللغة الفرنسية وغناه، والذي يقدّمه كتّاب من جميع أنحاء العالم. وكذلك بسبب فكرة دونيّة الأدب الفرنكوفوني مقارنةً بذلك الفرنسي، المطبوعة في أذهان الفرنسيين، التي عانى منها الكتّاب «الفرنكوفونيون» كثيراً في فرنسا. لهذه الأسباب ولغيرها قرّر هؤلاء الكتّاب استبدال مصطلح «أدب العالم» بمصطلح «فرنكوفونيّة». ولكن هذا التبرؤ تعود جذوره إلى عام 1992، ولست هنا في صدد الحديث عنها.
إلا أنه لا بد من القول إنّ الفرنكوفونية والأدب المنشق منها يدخل ضمن سياق الآداب ما بعد الكولونيالية بامتياز، إذ تنطبق عليه معظم تعريفات نظرية ما بعد الكولونيالية التي تعنى بدراسة كتابات الشعوب التي استعمرتها دول إمبراطورية في السابق. وعندما باشر كتّاب هذا الأدب رحلتهم انطلقوا على أنه أدب وطني يعكس تطلعاتهم «الوطنية» بالتحرير من «اضطهاد الإمبراطورية العثمانية»، ولقد كان شكل الهوية الوطنية عندهم يأخذ الشكل الفرنسي، إذ انطبعت المرحلة الأولى بـ«الوطنية الفرنسىة»، لدرجة بات معها صوت الأدب اللبناني الفرنسي صوتاً فرنسياً من الدرجة الأولى عند بعض الراود الأوائل. من هنا فقد تكيّفت عملية التأثر بالكولونيالية تكيفاً مثالياً إلى أبعد الحدود. وبالتوازي مع ذلك، انسرب إلى قاع ذاك الأدب ما يمكن أن يُسمى لازمته البنيوية. وهي لازمة تتبدى في إشكالية الانتماء لدى الأديب الفرنكوفوني، أو انشراخ وحدة هويته. ومردّ الاختلال يكمن في اعتقادنا في عدم قدرته على الحيْد الحقيقي عن الأثر الكولونيالي الكامن في الفرنكوفونية نفسها، وعن الفعل الواعي وغير الواعي للاستشراق على أدبه، وعن ثقل المناخ لما بعد الكولونيالية أو للدقة لما بعد الحداثة في زمننا المعاصر... والأديب الذي يمالىء الاستشراق أو يسوّغ بعضاً من طروحاته تجده قد انزلق إلى محاكاة فارغة. فهو من جهة يحاذر أي قول كاشف في استعلاء الأنا عند الآخر الاستشراقي. وقد يحني رأسه أمام المستعلي أو المتفوق الغربي دلالة منه على خضوعه وخنوعه. ثمّ تراه من جهة ثانية، قد اصطنع آخر «غريباً» في موطنه أصل انتمائه المرجعي، ونظر إليه باستعلاء متوّج بأَنَفة وكبرياء.
وما هجوم الأمين العام لـ«المنظمة الفرنكوفونية» عبدو ضيوف على «المظاهر الرهيبة للعولمة التي تتناسى الإنسان وكرامته وحريته». وأن العولمة وتداعياتها الاقتصادية، وأن التوحيد الثقافي واللغوي الذي «يهدد الإرث الفكري والثقافي للبلدان»،ليست سوى وجه فرنكوفوني استعماري يختبئ تحت عبارات اللغة الفرنسية البرّاقة التي تعيش صراعاً عميقاً مع عولمة اللغة الإنكليزية والتي (أي الفرنسية) انزاحت عن مكانتها التاريخية لحساب الثانية، مع ملاحظة ما تؤديه اللغتان، بما تمثلانه من كولونيالية، ومن تهديد للإرث الثقافي والفكري للبلدان.
وكي لا يساء تفسير مقاصدنا فإني أفتخر في الانتماء المشترك مع هذه الشريحة المثقفة في وطني لبنان. لأن التنوع والاختلاف حتى لو بلغ حدّ التصادم الثقافي في عالم الفكر والكلمة فهو لا يقطع النور والماء والابتسامة على المخالف فما بالنا بالحياة نفسها؟! ولقد حان الوقت، من خلال التجربة اللبنانية في التحالف السياسي وفي التحولات البنيوية، للتفكير في إيجاد حلقة أو رابطة تهتم بالربط بين مقولة الأدب وحقائق الواقع السياسي، وأنه لا بد من أن تكون هناك طلائع أدبية تأخذ على عاتقها ملأ الفراغ الاستراتيجي الخطير والقاتل بين الخطاب الأدبي الواعي والملتزم بقضايانا وبين تحديات التنمية وتغيير المفاهيم الفكرية وربما الاجتماعية في عالمنا العربي.
عندها يمكننا أن نرفع شعار «لا نمزح مع الفكاهة»، بإطار جدي بدل أن يكون بما هو عليه اليوم. هذا «المزح» عملية تحوير ثقافي مقصود لإعلاء شأن الثقافة الإمبريالية!
ويحدونا هذا للقول إنه ليس بريئاً أن يترأس حاملة الطائرات المسماة فرنكوفونية رئيساً أسبق لبلد مستعمر (بفتح الميم الثانية). هل هذا مبلغ من المستلبين أن يصبح رئيس دولة خادماً لنفوذ من استباح ذاكرته وإرثه الثقافي والحضاري؟! في هذا المشرق الذي يتعمّد أبناؤه بالدم في كل عام مرتين، في هذا المشرق الذي ما فارق شذاذ الآفاق حلم صلب هويته الأصلية... نحمل اليوم أخشابنا الذهبية لنقول: «كفكي دموعك يا عذراء... لن يصلب المسيح بيننا ونحن واقفون!».
* باحثة لبنانية