من بين كلّ المواقع الإخبارية المناهضة للسلطة الحالية في مصر تعتبر «بوابة يناير» الأهمّ والأكثر فاعليّة. قد لا تكون الأفضل مهنيا , ولكنها استطاعت في فترة قصيرة نسبيا حجز موقع متقدّم لها في خارطة إعلامية يندر أن يجد «المستقلون» أو غير المتموّلين كفاية موقعا لهم داخلها . يساعدها في ذلك كادر فتي ومفعم بالحماسة , وغير منصاع لما تمليه «الاعتبارات السيادية». هؤلاء يشبهون جيلهم في التمرّد والاحتجاج المتواصلين , وموقفهم من الدولة مرتبط بمقدار تدخّلها في الفضاء الذي أصبح من وجهة نظرهم ملكا للشعب .
سابقا كانت «السيادة» مرتبطة بتدخّل الدولة في المجال العام وتحديدها للنقاشات المسموح بها , وقد تراجع هذا التدخّل بعد تزايد الاحتجاجات , وبالتالي أصبح المجال العام مفتوحا نسبيا , ورهنا بتقدّم الاحتجاج من عدمه. موقع البوّابة بهذا المعنى هو ظهير للاحتجاجات , وان كانت حساسيّته أقلّ تجاه المهمّشين والشرائح المسحوقة- سأتناول هذه المسألة لاحقا- , وهذا ما يضع على أفراده مسؤولية مضاعفة , فهو لا يتناول الأحداث من زاوية نقدية فحسب , وإنما يعوّضنا أيضا عن غياب الفعل الاحتجاجي وتراجعه تحت وطأة القمع الذي تمارسه السلطة. وسائل الإعلام الأخرى لا تفعل الشيء ذاته, ولا يناط بها ما يناط بالصحافة القريبة إلى «الثورة» , والسبب في ذلك أنّها مرتاحة لتراجع الفعل الاحتجاجي. فهي من موقعها الجديد تقدّم العون للسلطة وتحاول ما أمكنها كبح التناقضات الاجتماعية التي تحدث في الواقع , وحين تعجز عن فعل ذلك بفعل تصاعد الإضرابات والاحتجاجات تعمد إلى مسايرة التطوّرات عبر استكتاب أقلام مساندة بقوّة للحركة الاحتجاجية(أحمد سمير ووائل جمال في «الشروق» , عمرو عزت في «المصري اليوم» , ..الخ). هكذا تتصرّف صحف «المينستريم» عادة , فهي بحكم تكوينها تميل إلى الأقوى والأقدر على فرض الاستقرار. لا ننسى أيضا أنّ التمويل الذي تحصل عليه يفترض تلقائيا الاصطفاف إلى جانب الدولة, فبعد طورين أو أكثر من الاحتجاج المتواصل أصبحت مصالح أصحابها وناشريها «مهدّدة» , وبات الوقوف إلى جانب الثوريين يجلب الكثير من المشاكل. حصلت هنا انزياحات قريبة من الحالة اللبنانية(ما حدث في «الأخبار» و»السفير» تحديدا) التي تعاطت مع المشهد السوري, وفي تقديري أنّها في مصر أهمّ بكثير ,على اعتبار أنّ الاحتجاج هناك واضح بما فيه الكفاية. خرج كتّاب وصحافيون من جرائد , ودخل آخرون إليها. تنقّل البعض بين منابر مختلفة(حالة خالد البلشي مثلا , وهي الأكثر صلابة واتّساقا مع الذات). بقي آخرون في أماكنهم على أمل التوفيق بين الاحتجاج وعكسه. هذا المشهد لا يشبه سرديتنا عن الثورة , ولكنه يعبّر بحقّ عن الواقع المصري الذي يتغيّر بسرعة مذهلة ,ويفرز في كلّ مرّة قوى جديدة. القوى هنا ليست ثورية بالضرورة, ولكنها تمثّل لحظة تحوّل سياسي وانتقال بالتحالفات من ضفّة إلى أخرى . من يتذكّر الآن حركة «تمرّد» بصيغتها الأصلية؟ انشقّت الحركة على نفسها بعد أشهر قليلة من انطلاقها , فانتقل المؤسّس محمود بدر إلى جوار السلطة , فيما فضّل رفيقاه محمد عبد العزيز وحسن شاهين خوض معركة الرئاسة إلى جانب مرشّح المعارضة والقوى الاحتجاجية(ليست كلّ القوى مؤيّدة له أيضا) حمدين صباحي. الصحافة وخصوصا المسيطرة منها تعبّر بالضرورة عن هذا المناخ , والفرز الذي يحصل داخلها لا يتمّ بمعزل عن التطوّرات السياسية التي تحدث في الواقع , وفي الفترة الأخيرة التي شهدت صعودا كبيرا لأسهم الجيش وقائده السابق عبد الفتاح السيسي ارتدى التعبير عن الانحياز الإعلامي إلى الجيش شكلا أوضح. لم يعد هاجس الثورة يشغل الصحافة كما كانت تبدو عليه الحال من قبل , فالثوريون أضحوا قلّة , وتأثيرهم بات يقتصر على دوائر محدّدة , فيما الدوائر المتأثّرة بخطاب الدولة وأجهزتها تتوسّع وتتزايد قدرتها على الفعل. لا يرى هؤلاء حتى الآن مقدار التغيّر الذي يحدث في الواقع , فبالنسبة إليهم الإضرابات القطّاعية والعمّالية التي شلّت الدولة مؤخّرا ليست تعبيرا فعليّا عن الواقع , ولو كانت كذلك لواكبتها تعبئة سياسية كفيلة بتعطيل الدستور. هذا الأخير أقرّ بنسبة تفوق التسعين بالمائة من أصوات الناخبين, وذلك هو الواقع الفعلي في نظرهم , فيما تظاهرات الإخوان والطلّاب(يضاف إليها إضرابات العمّال المحسوبين وفقا لمؤيّدي السلطة على الإخوان أيضا!) لم تقدر على تعبئة ولو نسبة قليلة من الشارع المصري ضدّ الجيش وخارطة الطريق. ينعكس كلّ ذلك على الصحافة السائدة , ويجعلها قريبة من مزاج ما يبدو أنّه الأكثرية الشعبية , فتصبح إمكانيّة قراءة تغطيات موسّعة داخلها عن إضرابات العمّال ضئيلة جدا , إن لم تكن «معدومة» , وان حدثت فمن باب العلم بالشيء ليس الّا. وينسحب الأمر أيضا على مواكبة قضايا المعتقلين أو الموقوفين احتياطيا على ذمّة قضايا تظاهر , فبينما كانت التغطية المخصّصة لهم تحتلّ مساحات أساسيّة من الصحف سابقا أصبحت الآن في ضمور مستمرّ , وخصوصا مع التداخل الحاصل بين قضاياهم وقضايا الإخوان. وتشكّل حالات مثل علاء عبد الفتاح وأحمد دومة وأحمد ماهر ومحمّد عادل أمثلة حيّة على انحسار اهتمام شرائح واسعة من الناس بقضايا الرأي , ولمزيد من الدقّة نقول أنّ هذه الشرائح تمثّل جزءا كبيرا من قرّاء الصحف الذين يضغطون على الإعلام بشكل أو بآخر , ويحضّونه على إبداء اهتمام أوسع بقضايا «الإرهاب» , بدلا من الانشغال الزائد بمسائل المعتقلين والموقوفين احتياطيا! وكما أسلفت لا يعبّر العزوف هنا عن سياسات دولة فقط , بل أيضا عن مزاج شعبي ضاق بالاحتجاجات والإضرابات , وأصبح يتحيّن الفرصة للخلاص منهما , ولو على حساب الواقع الذي يتغيّر في كل لحظة ضاربا بعرض الحائط كلّ الحسابات السياسية الجارية.
في مثل هذه الأوقات تنشأ ظروف مناسبة للتعويض عن تراجع الاحتجاجات , أو لنقل عن تراجع الاهتمام بها إعلاميا, وهذا بالضبط ما تفعله مواقع الكترونية معارضة مثل «مدى مصر» و»بوابة يناير» و...الخ. يهتمّ هذا الإعلام حاليّا بفكرة الإبقاء على الهامش الذي توسّع أثناء الصدام العنيف مع السلطة , وهو ليس واحدا بالضرورة , وإنّما يختلف باختلاف «الجهة التي تصدره» , وهذه الجهة قد تكون سياسية وقد لا تكون أيضا. لدينا مثلا موقع «مدى مصر» , وهو موقع يعبّر عن طيف واسع من اليسار المصري الجديد , ولكنه بخلاف «بوابة يناير» اليسارية بدورها لا ينشغل بالتغطية الإخبارية اللحظية, ولا تتوافر فيه تقارير عن الأحداث السياسية اليومية. الفارق هنا واضح بين نهجين في الميديا , يهتمّ أحدهما بالإخبار وتقديم المعلومة والآخر بالتحليل والرأي, وهذا يصبّ في مصلحة توسيع مروحة الخيارات أمام الشرائح الداعمة للاحتجاجات. إذ إنّ الواقع المأزوم الذي تعيشه السلطة لا يحتاج إلى من يدحضه دعائيا فحسب(وهذه تقريبا هي المادة الفعليّة والوحيدة لبوابة يناير), بل كذلك إلى من يهتمّ بتفكيكه وتحليله بعناية. قد تكون الدعاية مناسبة في ظرف كالذي نعيشه حاليّا على مقربة من الانتخابات , ولكنها لا تصلح على الدوام لقراءة الواقع , وخصوصا إذا كانت تتعامل بخفّة مع الشرائح التي لا تؤيّد مرشّحها للانتخابات الرئاسية . لنكن واضحين هنا : ثمّة شرائح واسعة من الفقراء والطبقة الوسطى تدعم حمدين صباحي وتعتقد أنّه الوحيد القادر على تمثيلها والحفاظ على مكتسباتها , وهؤلاء يحظون بتغطية واسعة في «بوابة يناير» الداعمة لحمدين بقوّة , ويمثّلون بالنسبة إليها الغلابة الذين يتحدّث عنهم الرجل دائما. لكن في مقابلهم يوجد فقراء آخرون لم يجر التعاطي معهم بالمثل , لا بل عوملوا بتنميط واحتقار شديدين لمجرّد أنهم أيّدوا السيسي أو صوّتوا بنعم على الدستور. عادة ما تقوم السلطة بهذا العمل القذر , فتميّز بين الفقراء على أساس من يواليها أكثر , وهو عمل يقع في صلب سياساتها , ومن دونه لا يعود ممكنا جرّ الناس إلى الصدام. في أيّ مكان في العالم تلعب السلطة هذا الدور , لكن يندر على حدّ علمي أن يشاركها اليسار به , وحين يفعل لا يعود يسارا , ويكفّ إعلامه عن تمثيلنا. من المؤسف فعلا أن تشاهد يساريين في مصر يسخرون من الطبقات الشعبية وفقراء المدن , ومن المؤسف أكثر أن يتسبّب السباق إلى مقعد الرئاسة بتهميش الحساسية الطبقية لديهم . إن لم يكن إعلامهم متورّطا مباشرة بمهزلة كهذه(وعلى رأسه «بوابة يناير») , فهو على الأقلّ لم يبذل جهدا للتمييز بين السلطة ومؤيّديها من الفقراء والمهمّشين, وترك المجال مفتوحا لكلّ من يريد السخرية من هؤلاء ومن لهجاتهم وسحنتهم وملابسهم...الخ. كيف يحقّ لليسار انتقاد السلطة اليمينية الحالية على شوفينيّتها تجاه الفلسطينيين والسوريين , وعلى تمييزها ضدّ فقراء الإخوان وهو يفعل الشيء ذاته تجاه الطبقات الشعبية المؤيّدة للجيش والسيسي؟ مرّة أخرى أقول إنّ هؤلاء قد اختاروا الاستفتاء بنعم على الدستور بملء إرادتهم , ولم يجبرهم أحد على فعل ذلك. تصويتهم لهذا أو ذاك من المرشّحين ليس أمرا تصعب مناقشته , ولكن لا يجب محاسبتهم على تدخّل السلطة في الحملات الانتخابية وتجييرها موارد الدولة لمصلحة السيسي , فهم ليسوا مسؤولين عما تفعله السلطة , وخصوصا إذا كان الفلول وأصحاب الرساميل والاحتكارات التجارية على رأسها. إذا كان خيارهم خاطئا , فسيكتشفون ذلك لاحقا, وسيجبرهم الواقع المليء بالتناقضات الاجتماعية على العودة خطوة إلى الخلف. الاحتجاجات والإضرابات التي تعمّ البلد بحاجة إلى مساهمتهم الفذّة أكثر بكثير من السيسي الذي «يغشّهم» ويطالبهم بالتقشّف وشدّ الحزام. لو كنت مكان إعلاميي «بوابة يناير» لركّزت على هذه النقطة , ولجعلت منها محور النقاش. هكذا , أكون قد عرّيت السلطة وفضحت انحيازاتها الاقتصادية, وفي الوقت ذاته احترمت مشاعر فقرائها , وتركت لهم الخيار بأن يصوّتوا , ويتحملوا المسؤولية عما يفعلونه.
في موجة يناير كان الثوريّون يجوبون الشوارع وهم يردّدون : «يا أهالينا انضمّوا لينا». نجح الاحتجاج حينها بسبب هذا الشعار , فمن دون توسيع قاعدته الاجتماعية لا يمكن أن يتقدّم الاحتجاج خطوة إلى الأمام . ليس المطلوب الآن في ظلّ هذا الانقسام أن نتقدّم , بل أن نستعيد ثقة الطبقات الشعبية التي طالبناها يوما بالانضمام إلينا. هؤلاء هم ملح الأرض كما وصفهم قبل أسابيع المرشّح الرئاسي حمدين صباحي. على الأقلّ كونوا مثل مرشّحكم إلى الرئاسة يا رفاق.
* كاتب سوري