رغم القلق الدائم من تصاعد الأزمات والتوتّرات الحالية في المنطقة والعالم، تحتاج مقاربة الأحداث الراهنة إلى لحاظ أنّ العالم يعيش مخاض التحوُّل نحو نظامٍ جديد. مخاضٌ ينطوي على قضايا كثيرة تتخطى أهداف الصراعات، وصولاً إلى أنماط الصراع بما تعنيه من أساليب وأدوات، وهو ما بات يحتاج إلى مقاربات حديثة.ولعلّ أكثر البلدان النامية الغارقة في أزماتها البنيوية، لم تمتلك بعد الإحاطة المطلوبة بمسار التحوُّل. ما يعني أنّ قدرتها على إدارة التحوّلات، وبشكل يُمكِّنها من حجز مكان لها في مستقبل الدول، لا يزال بعيداً. لكنّ المشكلة في الدول النامية، أعمق من مجرّد تحديد منهجية عمل تنموية، في ظلّ غياب منطق الدولة وانتقاص غالبية هذه الدول للرابطة الكيانية الجامعة، وطغيان المعايير الفئوية على المصلحة العامة. وهو ما ينطبق على الحالة اللبنانية، ويظهر جلياً مع كلّ أزمة يمرّ بها لبنان.
وهنا، فإنّ حقائق عدّة تتعلّق بعملية بناء الدولة، وتُعتبر مُسلّمات لا وجهات نظر، تغيب عن نقاش النخب في لبنان. نحتاج في أيّ مقاربة تتعلّق ببناء الدولة، إلى لحاظ التالي من منطلقات ترتبط بعملية بناء الأوطان:
أولاً: إنّ عملية بناء الدولة تعني وتساوي بناء وتفعيل عناصر القوة الإستراتيجية للدولة والتي تطال الصُعد: الاقتصادية، الاجتماعية، الأمنية العسكرية، التقنية التكنولوجية، التعليمية التربوية والإعلامية. وهي الأصعدة المتداخلة التي ترتبط بمكوّنات الأمن القومي للدولة، والتي يجب أن تحكمها سياسات عامّة، على اعتبارها تَهمّ المواطن.
ثانياً: إنّ عملية تكوين الدولة بما تعنيه من نموذج حكم يُدير بنظامه (السياسي) عناصر الدولة (شعب، حكومة، سيادة وإقليم)، تهدف إلى تأمين احتياجات المواطن. وبالتالي يُشكل المواطن هدف تكوين الدولة وتقوية مؤساساتها (إداراتها العامة)، بما يُمكِّنها من تلبية احتياجاته المتطوّرة، من خلال خدمات عامّة تواكب الحداثة.
ثالثاً: تحتاج هذه العملية إلى مسألتين أساسيتين. إلى منظومة قيَم جامعة تتخطّى الفئوية بشكل يُرتب عناصر الهوية المجتمعية، وإلى تعزيز سيادة الدولة على أراضيها، بما تعنيه السيادة من سيطرة الدولة على إقليمها، وبشكل يحمي استقرارها الداخلي وحدودها ومصالحها مع الخارج!
ولعلّ الإضاءة على ما تعنيه السيادة، يُمكن أن يوضح أهمية امتلاك الدولة لهذا العنصر، والذي يعتبره البعض موازياً لما تعنيه الدولة. السيادة بتعريفها القانوني، تعني قدرة الدولة على بسط سلطتها في الداخل والخارج وتأمين الاستقرار والأمن والدفاع. لكنّ التعريف السياسي لمفهوم السيادة، يُضيف إلى التعريف القانوني أهمية وجود القدرة العملية للدولة على تحقيق ذلك، وبما يتلاءم مع التحدّيات في بيئتها الاستراتيجية. لذلك، فإنّ شرعنة السلطة من دون وجود قدرة فعلية على بسطها بما يحفظ مصالح الدولة، يجعل الدولة فاقدة للسيادة. وإذا كانت مصالح الدولة تساوي (بحسب منطق الدولة الحديثة) مصالح المواطن، تُصبح السيادة مرتبطة بحفظ مصالح المواطن! فأين نحن من ذلك في لبنان؟
في لبنان، المشكلة معقّدة وأبعد من مجرّد غياب دولة القانون، وفقدان الهوية الجامعة، وضياع المصالح الوطنية، وانهدام ركائز البناء الديموقراطي للكيان. في لبنان، نخبة حاكمة أمعنت، ومن خلال ما تملكه من عقلية موروثة، في مقاربتها للشأن العام وهموم المواطن، في ترسيخ واقع النظام السياسي الذي ساهم في استشراء الفساد كحالة واقعية أوجدت خللاً بنيوياً يمنع أيّ نجاحٍ للمعالجات الإصلاحية، ويسمح بتغييب سيادة القانون. فهل حصل في تاريخ الشعوب، أن وصل إهمال المسؤولين عنها إلى التسبّب بجريمة كالتي حصلت، قبل أيام، في مرفأ بيروت؟ وكيف يُمكن تفسير أن يُعاني شعبٌ من نتائج كارثية تُشبه نتائج حربٍ نووية عليه، جراء إهمال دولته مما ساهم في قتل وجرح وفقدان مئات المواطنين الأبرياء؟
لكنّ ما جرى يحتاج إلى نقاشٍ أعمق حول الأسباب. ففرضية الإهمال، والتي تُعتبر السمة التاريخية للحكم والإدارة العامة والنظام السياسي في لبنان، لا تُلغي فرضية استثمار هذا الإهمال من خلال هجومٍ سيبراني. وهو ما يعني في حال صحَّت هذه الفرضية، أنّ تحدّي السيادة الذي يواجه الدولة اللبنانية يتخطّى مجرّد الحديث عن بسط سلطة القانون ومحاسبة الفاعلين، ويطرح إشكالياتٍ حول معادلاتٍ جديدة، يجب أن تحكم سيادة لبنان أمام الاعتداءات الخارجية، وبشكل يواكب التحوّلات نحو إضافة عنصر الأمن الإلكتروني إلى مكوّنات الأمن القومي والذي يفتقد لبنان إلى معادلته.
ولعلّ الكثير من الناس في العالم، لا يدركون أن هجوماً إلكترونياً يمكن أن يكون بنتائجه مُدمّراً بالقدر الذي يساوي الهجوم بقنبلةٍ نووية. تساؤلاتٍ عدّة توحي بأنّ إهمال العنبر 12 في مرفأ بيروت تم استغلاله. العصف الانفجاري، الذي ساهم في هزّات ارتدادية طالت مناطق عدّة في لبنان، ووصلت إلى قبرص ودول محيطة، حتمية عدم إمكانية انفجار مادّة النيترات المُخزَّنة، من دون صاعق تفجيري، السياق العام للأحداث مع لحاظ مكان الانفجار وتوقيته وآثاره الاقتصادية، كُلّها تدعم الفرضة الثانية. ولعلّ وقوع الانفجار إلى جانب البحر، ساهم في امتصاص المياه لأكثر من 50% من القوة الانفجارية.
هذا التهديد الخطير الناتج عن الهجمات السايبرية، يبدو أقلّ وضوحاً للجمهور، حيث يظنّ الجميع بأنّ معظم حوادث التسلّل الإلكتروني لا تهدف إلى أكثر من سرقة البيانات. لكنّ أحداثاً عدة سابقة (حصلت في روسيا وأميركا والصين وأوكرانيا وإيران)، أثبتت أنه يُمكن إقحام برمجيات خبيثة داخل أنظمة معيّنة مثل أنظمة الطاقة (الكهرباء والماء)، لأهداف توليد احتكاك أو افتعال حرائق أو حتى القيام بتفجير. أو قد يتم التأثير على مستوى التشغيل في نظام معيّن، بشكل يؤدي إلى احتكاك كهربائي يولّد انفجاراً، أو عبر التفجير عن بُعد. ويتمّ التحكّم بالآثار بحسب أهداف ومكان الهجوم.
بالنتيجة، وبعيداً عن التحليلات، تُثبت التجربة أنّ مقاربة الأزمات في لبنان لا تزال تقليدية بعيدة عن منطق الدولة الحديثة. في ظلّ غياب الرؤية والتخطيط وانعدام المسؤولية وخللٍ في المحاسبة والقضاء، مع طغيان منطق التسويات على عملية صُنع القرار السياسي، يحتاج لبنان إلى عملية تنمية سياسية تؤدي إلى تغييرٍ قِيميٍ يطال ذهنية الشعب وعقلية الحكم. وحتى يحصل ذلك، يبقى الحديث عن بناء الدولة بما تعنيه من بناء عناصر قوة الدولة القادرة على حماية شعبها وحفظ حقوقه وضمان مصالحها أمام الخارج، أمراً صعباً.
وبين فرضية الإهمال وفرضية الهجوم، يُصبح ما حصل في مرفأ بيروت، بنتائجه الكارثية على لبنان، واحداً، في ظلّ دولة لبنانية فاقدة للسيادة!
* متخصص في التخطيط للسياسات والحوكمة