لم تنفع «لاءات الخرطوم» التي صدرت بعد نكسة عام 1967 (في منع العدو الصهيوني من استثمار عدوانه على مصر وسوريا والأردن، ودائماً فلسطين)، في منع الرئيس المصري أنور السادات من توقيع معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل عام 1979، بعد اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978.
تبدلت التوازنات في غياب الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1970. استقرت، بعد انقلاب السادات و«كامب ديفيد»، على مرحلة موقتة، نشط فيها تيارا «الصمود والتصدي»، و«الاعتدال العربي». هذا فيما انكفأ آخرون بسبب الضغوط التفرد والانقسام. خلال العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت العلاقات السعودية ـ السورية حالات مدّ وجزر متلاحقة، انتهت، بعد محاولات احتواء متبادلة (خصوصاً في مرحلة الرئيس حافظ الأسد)، إلى صراع شبه متواصل منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 حتى يومنا هذا.
استأثرت قيادة المملكة العربية السعودية بالحجم الاكبر من التأثير في مجريات القمم العربية، في العقد الأخير خصوصاً. توظف المملكة كلّ إمكاناتها، وخصوصاً المالية منها، لغرض أن تكون المملكة صاحبة الكلمة الفصل في قرارات القمة: قبولاً أو رفضاً.
لا تجري الأمور بالسهولة التي تتمناها قيادة المملكة في الكثير من الحالات. مع انطلاق موجة الاحتجاجات الشعبية التي تمت مصادرة معظمها من قبل الإدارة الأميركية وتيار «الإخوان المسلمين»، واجهت المملكة العربية السعودية مشاكل لم تكن في الحسبان. زاد في إرباك هذه القيادة دعم (بلغ حد التحالف) من قبل واشنطن، لتسلم ممثلي «الإخوان المسلمين» السلطة في اكثر من بلد من بلدان «الربيع العربي». برزت القيادة القطرية سمساراً مميزاً في هذا المسار. عمّق ذلك التباين التقليدي بين القيادتين السعودية والقطرية. بشكل من الأشكال، انتقل الخلاف الى مجلس التعاون الخليجي نفسه، بعد ان كانت نار الاحتجاجات قد هددت النظام البحريني، ما استدعى تدخلاً عسكرياً مباشراً من قبل الجيش السعودي خصوصاً، عبر قوات «درع الجزيرة».
الخطر الإيراني، كان دائماً حاضراً في الحسابات السعودية، بشكل محدود أو مبالغ فيه. أضاف ذلك إلى أسباب قلق المملكة سبباً جديداً، فيما كانت الرياض تعاني من خيبة متزايدة بسبب جنوح الإدارة الأميركية، في ظل قيادة الرئيس باراك اوباما، نحو الحوار والمهادنة ورفض التورط في تدخلات عسكرية جديدة، بعد إنهاء ما هو قائم منها في العراق وافغانستان.
الموقف الأميركي من الازمة السورية دفع بالتباين الاميركي السعودي الى حدّ توجيه انتقادات، بل حتى تهديدات سعودية علنية للقيادة الأميركية. أقدمت قيادة المملكة على اتخاذ مبادرات تحذيرية وخطوات عملية لهذا الغرض: توقيع عقود تسليح واتفاقيات تجارية مع منافسي واشنطن في موسكو وبكين وباريس. ما زال ملف التباين السعودي ـ الأميركي مفتوحاً. الرياض تنتظر مواقف أكثر حزماً من قبل واشنطن، خصوصاً حيال الازمة السورية والملف النووي الإيراني (بعد أن أثار التفاهم الاولي بين مجموعة 5+1 وطهران قلقاً سعودياً كبيراً). في أثناء ذلك، اقدمت المملكة وحليفتاها المقربتان (الامارات والبحرين) على سحب السفراء من قطر، احتجاجاً على دور الدوحة في دعم «الإخوان المسلمين» المجاز أميركياً!
في مثل هذه الأجواء وسواها، انعقدت قمة الكويت. حاولت قيادة المملكة العربية السعودية تأكيد دورها المحوري فيها، ولو لم يحصل تقدم لمصلحتها في كل الملفات، موضوع الصراع والنزاع مع الخصم، وموضوع التباين والتعارض مع الصديق. كرّر ممثلو المملكة، في القمة أيضاً، مواقف تصر على المضي في الصراع العسكري في سوريا، حتى تعديل ميزان القوى على الارض لمصلحة اطراف المعارضة المسلحة. اختارت قيادة المملكة تجاهل الموضوعين العراقي والمصري على سبيل تكتيك لا يضعهما في رأس الأولويات الراهنة. لا يعني ذلك ابداً عدم اهتمام الرياض بكل من مصر والعراق، طالما ان القيادة السعودية منخرطة، بشكل كبير، امنياً ومذهبياً في الوضع العراقي، ومالياً في الوضع المصري، وسياسياً في كلتي الحالتين.
اجتهدت قيادة المملكة في ان تأتي قرارات القمة مكرسة لدورها المحوري، بانتظار تطورات لاحقة تفضي، إذا ما سارت الرياح كما تشتهي سفن المملكة، إلى أن يصبح هذا الدور حاسماً (ترتيب البيت الداخلي السعودي ضمن هذا السياق).
استفاد لبنان، نسبياً، من صراعات وتباينات المملكة مع اصدقائها، عبر اجازة تشكيل الحكومة وضبط حركة الارهاب والتكفير فيه الى حد ما (كما كان قد استفاد أيضاً في الحصول على مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني بأسلحة فرنسية، ولأسباب ذات صلة بالصراع الداخلي اللبناني وبالأزمة السورية). استفادت فلسطين في تشديد القمة على دعم موقف السلطة الفلسطينية من رفض مطلب الاعتراف بـ«يهودية» الدولة المغتصبة، وذلك للضغط على الأميركيين أيضاً. لكن، في المقابل، جرى تكرار الموقف الرسمي العربي بالتخلي عن شعب فلسطين وحقوقه من خلال إضفاء أهمية حاسمة وحصرية على المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس»، علماً أن المصالحة ينبغي أن تندرج ضمن خطة مواجهة سياسية وعسكرية مدعومة، بشكل جدي وكبير، من قبل الدول العربية. كل ما عدا ذلك مما ورد في قرارات القمة وفي «اعلان الكويت» هو اقرب الى التمنيات والشعر، أو مما يصح عليه قول الشاعر: «فليحسن النطقُ ان لم تحسن الحالُ»!
نعم لقد ورد الكثير من الكلمات والعبارات الجميلة، خصوصاً في «اعلان الكويت»، عن تدعيم التعاون العربي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعن تعزيز الامن القومي، وعن «تطوير الاقتصادات العربية الى اقتصادات تنافسية»، وعن بناء «نموذج وطني تتعايش فيه كل مكونات الشعب على اسس العيش المشترك، والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية... لمصلحة الفئات الاكثر فقراً والمجموعات المهمشة». لكن لم يجد المجتمعون ما يقولونه بشأن استشراء الموجة المذهبية التي تغذيها، بشكل علني أو سري، دول عربية عدة أو فئات وتيارات مدعومة وممولة من هذه الدول، بما يعزز الانقسام العربي ويوافر أرضاً خصبة لنمو التيارات التكفيرية ولتعاظم والتدخلات الاجنبية ولزيادة الأطماع الصهيونية.
لقد اكدت القمة أن حكومة السعودية ما زالت الأفعل، لكن قوتها نسبية، وهي ناجمة، خصوصاً عن ضعف الآخرين. لن تزيد مقررات القمة سوى في تأجيج الأزمات بعد العجز عن حلها، وخصوصاً منها الازمة السورية.
خلل القمة الاساسي في التبعية والفئويات. وهو خلل يتفاقم بغياب البدائل الوطنية ذات الاتجاه التحرري والتقدمي والديمقراطي والقومي الشامل.
* كاتب وسياسي لبناني