ثمة جديد يطرأ على تعاطي الولايات المتحدة في الملف اللبناني؛ فبعد جولات السفيرة الأميركية دوروثي شيا وتصريحاتها المتجاوزة لمحدّدات العمل الدبلوماسي وتدخّلها السافر في الشؤون اللبنانية، ولا سيما عندما نعت الحكومة وطالبت بتأليف حكومة جديدة لا مكان لحزب الله فيها، نرى كيف تتجه الأمور نحو حلحلةٍ ما، بُعيد خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الأخير. خطابٌ سخر منه البعض، ولا سيما في موضوع دعوة السيد إلى «الجهاد الزراعي»، وحصروا تفكيرهم في ذلك، من دون أن يلتفتوا إلى هدوء الخطاب الذي يشي بأنّ شيئاً ما يُعَدّ وراء الكواليس في ظلّ تأكيد السيد أنه ليس ذاهباً بلبنان نحو الشرق، وترحيبه بالمساعدات ولو أتت من أميركا حتى. وكأنه بذلك يقول إنني ملتزم بوثيقة الوفاق الوطني عام 1943، والتي تقول بأن لبنان قام على قاعدة لا شرق ولا غرب، وسيبقى جسراً يصل الشرق بالغرب. لم تمضِ أيام، حتى التقى رئيس الحكومة حسان دياب السفيرة الأميركية، واستبقاها على مائدة الغداء، ثمّ وصف اللقاء بالإيجابي، بعد فتور في العلاقة، وامتناعه عن الرد على رسائل السفيرة إليه. وذلك بالتزامن مع استكمال اللواء عباس إبراهيم جولته العربية، كموفد رسمي من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. والتي بدأت تؤتي ثمارها من العراق الذي تعهّد بتأمين النفط مقابل منتجات لبنانية، وقطر التي وعدت بالمساعدة، وكذلك الكويت.
من ذلك نفهم أنّ الأمور ذاهبة نحو الحلحلة، إذ أدرك الأميركيون أنّ حصار لبنان اقتصادياً لن يؤذي حزب الله، أكثر ممّا يؤذي حلفاءها ويهدّد مصالحها ونفوذها في الدولة اللبنانية، علماً بأنّ واشنطن تدرك أكثر من حلفائها اللبنانيين المتحمّسين، أنّ نزع سلاح حزب الله أمرٌ غير وارد، وهي قد سلّمت به بعد حرب تموز 2006 التي نعيش ذكراها، على اعتبار أن هذا السلاح لن يكون له تأثير إذا لم تقم إسرائيل بأيّ خرق أو عدوان على لبنان، وجلّ ما تطمح إليه هو تقويض دوره المحلّي والإقليمي. ومن هذا المنطلق، تسعى الولايات المتحدة إلى نزع تنازلات من الدولة اللبنانية في مسألة الحدود البحرية، لضمان ثروة نفطية أكبر لإسرائيل، من خلال اتساع بلوكاتها المتداخلة بالبلوكات اللبنانية. أمّا إقليمياً، فقد أزعجها دور حزب الله كما أزعج حلفاءها، وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية التي ضاقت ذرعاً به، بعدما قلب المعادلات الميدانية في كلٍّ من سوريا والعراق. ولم تقوَ هذه الأخيرة على هضم دوره على حدودها في اليمن، بعد ضربات طائرات الـ«درونز»، التي سقطت على منشآت «أرامكو» وغيرها، وأحدثت خسائر كبيرة، بل غيّرت مسار الحرب على اليمن.
لم يأتِ كلام البطريرك بشارة الراعي عن تحييد لبنان من فراغ سواء لجهة المضمون أم التوقيت وكذلك سيمفونية قوى 14 آذار


لبنان الذي عرفناه منذ أن تأسّس، وما له من وظيفة سياسية في منطقة تعجّ بالتوترات والأزمات، تغيّرت فيه قاعدة أنه «لن يزدهر ولن يموت» إلى أنه «يُحتضر ولن يموت». وليس امتناع قوى القرار في العالم عن قتل لبنان حتى الموت، كرمى لعيون اللبنانيين، بل حفاظاً على مصالحها فيه وفي المحيط، وخوفاً من تبعات انهيار هذا البلد الصغير، الذي وصفه ذات مرّة هنري كيسنجر بـ«فائضٍ جغرافي» و«خطأ تاريخي»، وذلك في محاولة منه في سبعينيات القرن الماضي عندما كان وزيراً لخارجية الولايات المتحدة، لتقسيم لبنان إلى كانتونات طائفية حدّدها طائفياً ومذهبياً على الخريطة، في لقاء له مع رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية. حينها، كان كسينجر يبحث عن مكان بديل للّاجئين الفلسطينيين، على قاعدة توزيع مناطقه على دول الجوار، فترضى بذلك سوريا، وتحقّق إسرائيل مطامعها. إلّا أنّ لبنان على ضعفه ومع دعم قوى دولية وإقليمية له، لم يستسلم ولم تستطع أميركا تصفيته.
وكلام البطريرك بشارة الراعي عن تحييد لبنان لم يأتِ من فراغ، سواء لجهة المضمون أم التوقيت، وكذلك سيمفونية قوى 14 آذار التي لم تتأخر في ملاقاة سيد بكركي والعزف على الطرح الجديد القديم. وظهر هذا الطرح الذي سوف يحمله الراعي إلى الفاتيكان، كتعويض عن فشل سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها واشنطن على لبنان، فما لم يتحقّق بقوة الدولة الأقوى في العالم، لن تحقّقه رسائل دينية رعوية، وإن أتت من رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم.
ومن يستمع إلى غبطته يخال أن البطريرك يتحدث عن بلد اسكندنافي في منطقة هادئة، بعيدة عن الصراعات الدولية والأحلاف المتواجهة، وأنّه لم يكلّف نفسه السؤال عن الجهة الدولية أو الإقليمية التي بمقدورها ضمان هذا الحياد! ربما استرعى اهتمام البطريرك ما يجب على الدولة الحيادية الالتزام به، لجهة وجوب امتناعها عن المشاركة في أيّ حرب أو نزاع بين البلدان الأخرى، وأن تكون على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتحاربين، وغفل عن حق الدولة المحايدة في أن تعترف الدول الأخرى بحياديتها، حيث إنّ حقوق البلدان الحيادية تضمنت عدم استخدام أو احتلال أراضيها من جانب أي طرف متحارب، واستمرار العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى، المحايدة منها والمتناحرة. هذا فضلاً عن حرية مواطني البلد المحايِد في متابعة أعمالهم، واحترام عزمهم على البقاء كدولة حيادية، أم لا. والسؤال هنا: إلى أي مدى ينطبق ذلك على لبنان؟
فات البطريرك والقوى التي تبنّت خطابه، لجهة تحييد لبنان، بأنّها مسألةٌ أضحت من الماضي، ولا يمكن السير فيها في ظلّ صراعٍ تشهده المنطقة بأطراف متعدّدين: إيران وقوى الممانعة من جهة، والسعودية وقوى التطبيع من جهة ثانية، وتركيا وقطر والإخوان المسلمين من جهة ثالثة. ولا شك في أن أميركا وروسيا حاضرتان بقوة في كامل المشهد الإقليمي.

* أكاديمي لبناني