منذ بداية الاحتجاجات التي عمّت شوارع لبنان وساحاته الرئيسية، على خلفية تردّي الواقع الاقتصادي والمالي وانعكاسه المباشر على الوضع المعيشي لأغلبية الشعب اللبناني، كانت التباينات واضحة بين مجموعة من الشوارع وتشكيلات المعارضة، التي ضمّت أحزاباً وقوى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وما بينهما من مجموعات المجتمع المدني، على اختلاف ألوانها وأنواعها من حملات ومبادرات برزت إبّان أزمات سابقة.كان واضحاً أنه لا يمكن لهذا الخليط أن ينتظم في أجندة واحدة، والسبب هو تعدّد الأجندات والمشاريع التي يحملها كلّ فريق واختلاف الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها. أمّا تعميم وتعويم شعار «ثورة بلا قيادة»، وتقديس عفوية الناس وحركتها وحرية تعبيرها عن مطالبها مباشرة، ومنع تبلور قيادة محدّدة لتنظيم وتأطير القوى الشعبية أو توحيد خطابها، كان هدفها تمكين القيادة الخفية التي تريد استخدام الشارع بكل تلاوينه وخلفياته وبنواياه الحسنة والسيئة، ليكون أداة لتنفيذ أجندة خاريجية صاغتها الإدارة الأميركية مسبقاً، ومضمونها تخليص لبنان من «دويلة حزب الله».
لبنان في مرحلة دقيقة جداً، لأنّ الإدارة الأميركية وضعته رهينة الابتزاز: المقاومة وسلاحها ودورها أو الموت خنقاً، وبالتالي تحميل المقاومة مسؤولية الجوع الذي بدأ يدقّ أبواب الشعب اللبناني. ويلتقط جزءٌ من الشارع المعارض للحكومة ومن يدعمها، الخطاب الأميركي لتسويقه شعبياً، في محاولة لاستثمار ظروف الناس الصعبة وحاجتهم إلى الحلول السريعة للأزمة المعيشية، في الوقت الذي يحاول فيه حزب الله وحلفاؤه تقديم الحلول الاقتصادية، وخصوصاً في خطاب التوجّه شرقاً. يبدو أنّ حالة العجز الرسمي هي التي تطغى، فالدولة ومؤسساتها المفكّكة أصلاً بحكم التركيب الطائفي المذهبي والفساد المستشري، أعجز من أن تستطيع إيجاد الحلول الداخلية، كإلزام حاكم المصرف المركزي رياض سلامة بضخّ الدولار لوقف ارتفاع سعره، وملاحقة المروّجين والمتلاعبين بسعر الصرف في السوق السوداء، أو ملاحقة المصارف التي تعمل على تهريب الدولار والمستمرة بمبالغ وأرقام خيالية.
لا حلول في الأفق، والوضع مرشّح للأسوأ: الشارع يعيش حالة من الفوضى، والشائعات هي سيدة الموقف، على وقع أنباء ارتفاع الدولار كلّ دقيقة؛ يتراكض الناس لشراء المواد التموينية، التي تضاعفت أسعارها بين ثلاثة وخمسة أضعاف، كما بدأت المواد تنفَد من المحال التجارية، والسوق تسودها الحيرة والإرباك نظراً إلى تخبّط الأسعار في البيع والشراء، وهذه بيئة مناسبة للاحتكار والتلاعب بالأسعار والاستغلال.
إلّا أنّ الأخطر من المعطيات والأرقام المتداولة، هو في ما يكمن خلفها، عندما تكون جزءاً من مشروع سياسي، أي مرحلة تمهيدية لتحضير البيئة المناسبة لما سيَلي من أهداف، ومرحلة الإعياء هي جزء من الحرب بل الأكثر خطورة، فقد تكون الجزء الأهم حيث تنضج الخيارات وتتبلور الأهداف ويجري الفرز بين الأطراف والساحات.
اليوم، باتت الأمور أوضح بما لا يدع مجالاً للشك، وهي تتمثّل في الترابط بين «صفقة القرن» وآخرها قرار ضمّ الضفة فلسطينياً، و«قانون قيصر» لخنق سوريا، والعقوبات على المقاومة وحلفائها في لبنان، عبر تأزيم الوضع الاقتصادي المالي المعيشي، واستخدام الورقة الاقتصادية في المفاوضات التي تبدأ في العراق، لانسحاب القوات الأجنبية، الأمر الذي يترافق مع التضييق على «الحشد الشعبي»، وصولاً إلى حصار إيران وخنقها اقتصادياً.
صار بالإمكان الحديث عن مسارَين متكاملَين: الخنق والضغط الداخلي لتأليب البيئة الداخلية وتحميل قوى المقاومة مسؤولية كلّ الأزمات الاقتصادية المالية المعيشية، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى، تتصاعد احتمالات الحرب على الجبهة الشمالية لفلسطين، لا أحد يعرف متى وكيف تندلع. لكن إشارة السيد حسن نصر الله إلى «أننا لن نسمح لكم بقتلنا جوعاً وسنقتلكم»، والتي كرّرها ثلاث مرّات، أعطت إيحاءً بأن محور المقاومة في حالة جهوزية، وهذا الاحتمال ليس بعيداً.
ولكن تحضر الأسئلة عن شكل الحرب وتداعياتها: هل هي بحدود الجبهة الجنوبية اللبنانية أو باتساعٍ إقليمي وبمشاركة جبهات عدّة: لبنان وسوريا، وقد تمتد إلى إيران والعراق، والداخل الفلسطيني في غزة والضفة؟ كيف سيكون مشهد الساحات الداخلية في كلّ جبهة، والتي ستتعرّض ليس فقط للاستهداف العسكري، بل لحملات تضليل كبيرة وضغط إعلامي هائل، ما يحمّل محور المقاومة المسؤولية؟ وقد يجد الرعاة الدوليون أو الإقليميون ضرورة لتحريك المجموعات الإرهابية، بحيث يكون هذا المحور بكل أطرافه أمام جبهتين داخلية وخارجية، حيث تتولى الأبواق المناوئة العمل سياسياً لعزل المقاومة، الأمر الذي يضع المنطقة أمام تحوّلات كبيرة وجذرية.

الوضع الفلسطيني وسط هذه الأزمات المركّبة
هل سيكون الواقع الفلسطيني في لبنان مستهدفاً؟ ومن أي جهة؟ فاستهداف المخيّم كرمز لقضية اللاجئين مسألة محسومة، وبالتالي فإنّ قضية اللاجئين تقع في نقطة التقاطع بين ما يجري في لبنان مِن ضرب المقاومة ومحورها في المنطقة و«صفقة القرن»، وما يسمى بـ«قانون قيصر». هو أحد الأهداف الرئيسَة، ويتمّ العمل عليه من اتجاهات مختلفة وبوسائل عديدة، فاستدراج الفلسطينيين ليكونوا مادّة استقطاب مذهبي واستهداف المعارضين لهذا التوجّه والمتحالفين مع المقاومة أمر طبيعي. بكل الأحوال، في حال اتّجاه الأحداث نحو الأسوأ اقتصادياً ومالياً ومعيشياً، اجتماعياً وأمنياً وسياسياً، وكلّ المؤشرات تؤكّد ذلك، فإنّ الفوضى تفتح الاحتمالات على مصراعَيها.
على الفلسطيني أن يسير في حقل ألغام لفرض معادلة حماية للمخيّمات من خلال تكريس حضوره كطرفٍ قائم بذاته لا يمكن توظيفه في معادلات مذهبية


استطاع الفلسطينيون تجاوز العديد من الأزمات التي مرّ بها لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. باعتمادهم الحياد الإيجابي، تمكّنوا من تحييد المخيّمات والفلسطينيّين في لبنان، رغم المحاولات الحثيثة التي استهدفت جرّهم إلى الصراع اللبناني الداخلي، وقد لاقت هذه السياسة استحسان الأطراف الرئيسَة، إلّا أنّ الظروف الراهنة مختلفة تماماً، ولا يمكن اعتبار أنّ ما يجري يدخل ضمن إطار المقاربات الداخلية حصراً، المفصولة عن بعضها البعض. بل علينا أن ننتبه إلى أنّ ما يجري يأتي في لحظة فشل ذريع لمشروع تسوية القضية الفلسطينية، وفي سياق «صفقة القرن» التي تستبعد البعد السياسي وتروّج فكرة الازدهار الاقتصادي كحلٍّ مناسب لجميع القضايا والملفّات، وهذا ما يجعل الفلسطينيين في قلب الاستهداف. إنّ الحرب هي النهاية الطبيعية لفشل مسار التسوية المشؤوم، التي استؤنفت في مدريد وعطفاً في أوسلو، ونحن أمام لحظة تاريخية، لأنّ نهاية التسوية ومشروعها تعني نهاية مرحلة تاريخية لهذه المنطقة، وهي قد تكون بداية لتشكّل قوى ولاعبين جدد، ومن هو غير مؤهّل لإعادة تشكيل ذاته لمواكبة التطوّرات المقبلة، فإنّ التاريخ سوف يلفظه خارجاً، والذين خارج التاريخ هم الأموات.
إنّ أي عدوان صهيوني قد يفتح احتمالات توسّع الحرب لتشمل المنطقة، فهل ستكون الضفة والقطاع خارج المعادلة؟ بل هل من المقبول أن يكونا خارج المعادلة؟
أن تكون خارج التجاذب اللبناني الداخلي في معطيات الظروف الراهنة فهذا أمرٌ ضروري، لكن أن تكون خارج المقاربة الإقليمية لتتويج انتصار إسرائيلي لتعميم حضورها تطبيعياً كجزء من المنطقة، وعلى أنقاض الشعب الفلسطيني وقضيّته وحقوقه، ولا يتحقّق ذلك إلّا من خلال سحق المقاومة ومحورها في المنطقة، فهذا أمر غير مقبول بالمرّة.
على الفلسطيني أن يسير في حقل ألغام، وبحذر شديد، لفرض معادلة حماية للمخيّمات، من خلال تكريس حضوره كطرفٍ قائم بذاته، لا يمكن استخدامه وتوظيفه في معادلات مذهبية، بل حاملاً لقضية وطنية قومية تحرّرية. وإذا توفّرت شروط هذا الدور، فإنه يستطيع فرض هامش حركة خاص به، تحديداً في سياق محور المقاومة عند المشاركة في مواجهة العدوان الصهيوني، مترابطاً ومتكاملاً مع أدوار في الضفة وغزة، ومحيّداً نفسه عن الصدامات المحلية اللبنانية الداخلية والتي يمكن أن تكون محدودة وبأشكال مختلفة، أو قد تكون بعد أي عدوان صهيوني وليس أثناءه.
ثمّة أسئلة كبيرة على الفلسطينيين الإجابة عنها، بعدما أُغلقت منافذ التسوية في وجههم، فهل سقط خيارها بعدما تجاوزت إسرائيل شرطهم بالحد الأدنى؟ كيف يمكنهم استعادة حضورهم في المقاربة الإقليمية ما بعد أبو مازن سواء الشخص أو المشروع؟ وأسئلة أخرى أفرزتها نتائج ما سُمي بـ«الربيع العربي» ورهان البعض الخاسر فيها، فما هو موقعهم ودورهم في محور المقاومة، وما هو شكل العلاقة مع محيط عربي يؤثر كثيراً في حركتهم ومستقبلهم ويسير بعكس مصالحهم؟
الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة المترابطة، تبدأ من التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية كأساس لحضورٍ ودورٍ فلسطيني قائم بذاته، يحمل قضية وطنية وقومية تحرّرية، وتتحدّد علاقاته وتحالفاته على هذا الأساس.

*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين