لم يُعِر عالم أو فيلسوف أو ناقد، في عالم اللغة العربية الحديث، اهتماماً بالمصطلح بعامة والمصطلح الفلسفي بخاصة، قدر ما أعاره سعادة من اهتمام، إلى درجة يصحّ القول فيها إنّ كلّ علم أو كلّ فن أو كلّ فلسفة لا يحمل/ أو لا تحمل مصطلحات جديدة أو متجدّدة هو/ أو هي في رأي سعادة علم ناقص أو فن ناقص أو فلسفة ناقصة، ما يعني أنّ أهلية هذه المعارف وجدّتها وراهنيتها مشروطة بمقدار غناها بالمصطلحات الجديدة في كل علم وكل فلسفة وكل فن. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ سعادة هو صانع أو مبدع مفاهيم أو مصطلحات، وداعية إلى ابتكار المصطلحات الجديدة في كل علم أو فن أو فلسفة... إلخ.

وبهذا المعنى، أيضاً، يلتقي سعادة (1904 ـــ 1949) مع الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز (1925 ـــ 1995)، والأصح، يلتقي هذا الأخير مع سعادة في اكتشاف أهمية المصطلح وضرورته في كل نشاط علمي أو فلسفي أو فني، فسعادة كان سابقاً لدولوز ورحل قبل أن يبدأ هذا الأخير التأليف. ألم يُعرّف دولوز الفلسفة بأنها فنّ ابتكار المفاهيم أو المصطلحات (Les Concepts)؟ أولم يكتشف سعادة عدداً هائلاً من المصطلحات: ناحتاً بعضها، مجدداً بعضها الآخر، ونافخاً الروح في مفردات كثيرة ميّتة منها؟
أولى سعادة إذاً المصطلح في الفلسفة والأدب والعلوم الاجتماعية وسائر المعارف والفنون اهتماماً خاصاً، وذلك لغرضين:
• الأول، تعويض النقص في المصطلحات الحديثة في اللغة العربية، لغتنا القومية، الناجم عن فقرها في المؤلّفات العلمية والاجتماعية.
• الثاني، حاجة الحركة القومية الاجتماعية التي أسّسها، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى مصطلحات جديدة تعبّر عن قضاياها ومطالبها العليا وتحمل نظرتها إلى الحياة والكون والفن.
وغنيّ عن البيان هنا أن سعادة كفيلسوف هو صاحب فلسفة جديدة نابعة من نظرة كلّية إلى الحياة والكون والفن، فلسفة تُرجع التطور الإنساني إلى عوامله المادية والروحية معاً، على قاعدة التفاعل الإيجابي والخلّاق في ما بينها، في مقابل ما يُسمّيها بـ«الفلسفات الجزئية» التي تُفسّر التطوّر إما بالعوامل المادية البحت، وإما بالعوامل الروحية البحت، كل واحدة من هذه العوامل مستقلّة عن الأخرى.
وسعادة، كعالم اجتماع، هو مؤلّف كتاب «نشوء الأمم» (1938)، الذي تناول فيه تعريف الأمة وكيفية نشوئها ومحلّها في سياق التطوّر الإنساني وعلاقتها بمظاهر الاجتماع، وهو كتاب اجتماعي علمي بحت، أسند حقائقه إلى مصادرها الموثوقة (References)، واجتهد الاجتهاد الكلّي في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية، على ما يقول في مقدمة الكتاب (1).
ويبرّر دوافعه إلى تأليف هذا الكتاب بندرة المؤلّفات الاجتماعية (Oeuvres Sociologiques) في اللغة العربية، إذ لم يخرج في هذه اللغة، منذ أن ألّف ابن خلدون مقدمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع، مؤلَّف ثانٍ في هذا العلم، فظلّت أمم العالم العربي جامدة من الوجهة الاجتماعية (السوسيولوجية)، يتخبّط مفكّروها في قضايا أممهم تخبّطاً يزيد الطين بلّة. الأمر الذي دفعه إلى وضع هذا الكتاب الذي اعتبره بعض العلماء الكتاب الثاني، من نوعه، في اللغة العربية، بعد مقدّمة ابن خلدون.
وسعادة، كناقد، صاحب نظرية في النقد الأدبي والفني شرحها في مؤلّفاته الأدبية، خصوصاً في «فاجعة حب» (1932) و«جنون الخلود» (1941) و«الصراع الفكري في الأدب السوري» (1942)، وعشرات المقالات الموزّعة في كتاباته الأخرى.
هكذا يكون سعادة سابقاً عصره في الإبداع الفلسفي والأدبي والسوسيولوجي، على امتداد الساحة العربية، ولا يزال، الأمر الذي دفعني إلى إماطة اللثام عن بعض مصطلحاته الفلسفية ودراسة نماذج منها.
ومن النافل القول، إنّ سعادة تابع، في هذا الشأن، ما بدأه، قبله، والده العلامة الدكتور خليل سعادة (1857 ـــ 1934) الذي وضع قاموسه الشهير باسم «قاموس سعادة» في مجلّدين ضخمين (1765 صفحة من الحجم الكبير)، وفي اللغتين الإنكليزية والعربية، حيث ابتكر مئات المصطلحات في جميع العلوم والفنون العصرية.
لم يستخدم سعادة قط عبارة «النظرة إلى الحياة» معرّاة أو مجرّدة من عبارتي «الكون والفن»


بين عشرات المصطلحات الجديدة التي ابتكرها سعادة/ الابن أو نحتها شخصياً، والمصطلحات الأخرى الموجودة، أصلاً، في العربية وحمّلها معاني جديدة، سنتوقف عند مصطلح واحد هو: «النظرة إلى الحياة والكون والفن». يُطلق سعادة على فلسفته، أي المدرحيّة، عبارة «نظرة إلى الحياة والكون والفن»، ويقول إنّ حزبه نشأ بنشوء هذه «النظرة الجديدة»، التي عبّرت عنها مبادئ الحزب وعقيدته. ولذلك، يشكل الحزب خروجاً من الفوضى إلى الاتجاه إلى وحدة الاتجاه. و«وحدة الاتجاه تعني حتماً وحدة النظر إلى الحياة، لأنّه لا يُمكن أن نوحّد اتجاهنا إذا لم تكن لنا نظرة واحدة إلى الحياة والكون والفن» (2).
وردت هذه العبارة (النظرة إلى الحياة والكون والفن) في صيَغ مختلفة، في كتابات سعادة، منها: «النظرة الجديدة» و«نظرة شاملة في الحياة» و«نظرة إلى الحياة والكون» و«نظرة واحدة إلى الحياة والفن» و«نظرة إلى الحياة والكون والفن»، إلى أن أخذت صيغتها النهائية في عبارة واحدة هي «النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن»، والتي اعتمدها سعادة، رسمياً، في السنوات الأخيرة التي سبقت استشهاده.
إن أوّل إشارة إلى عبارة «نظرة شاملة في الحياة»، جاءت في كتاب سعادة «جنون الخلود»، حيث عزا «الانحطاط في الإدراك والتصادم في النفسيات والفوضى في المنازع والتخبط في المذاهب»، لدى القسم الكبير من عامّة السوريين إلى «تشبّثهم بعنعنات من التحزبات الدينية»، وعدم تعويض ذلك بـ«ثقافة وعلم» يُرسّخان هذا القسم من السوريين في المعرفة و«يهبانه نظرة شاملة في الحياة ويُساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصح» (3).
ثم تطوّرت العبارة لتصبح «نظرة إلى الحياة والكون»، عندما أعلن سعادة صراحة في «جنون الخلود» أيضاً: «أن كل دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عاماً، شاملاً لجميع النوع الإنساني، فإنّ نظرتها إلى الحياة والكون يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي» (4).
ثم أخذت العبارة صيغة «نظرة واحدة إلى الحياة والفن»، عندما نفى سعادة أن تكون للعالم العربي «قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة إلى الحياة والفن»، وذلك لافتقار العالم العربي إلى «شخصية فيزيائية ونفسية واحدة» (5). ثم جاءت بصيغة «توحيد نظرتهم إلى الحياة» (أي الأدباء القوميون) في مقال له بعنوان «تجّار الأدب في المهجر» (6).
وأخذت العبارة صيغتها النهائية تحت عنوان «نظرة إلى الحياة والكون والفن»، في سلسلة «الصراع الفكري في الأدب السوري» (1942)، في سياق حديثه عن الموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر الذي قال عنه سعادة إنّ شعوره (أي فاغنر) «مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن» (7). بعدها، اتخذت العبارة صيغاً أخرى في الاستخدام من مثل: نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، ونظرة الأمة السورية إلى الحياة والكون والفن، ونظرة أصلية، ونظرة أساسية... إلخ.
تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ سعادة لم يستخدم قط عبارة «النظرة إلى الحياة» معرّاة أو مجرّدة من عبارتَي: الكون والفن، لأنها، مجرّدة من هاتين المفردتين، لا تؤدي، عنده، الهدف المطلوب منها للأسباب التي سنأتي على ذكرها، بعد قليل.
إنّ عبارة «النظرة إلى الحياة» هي المعادل لعبارة «فلتانشاوُنغ» (weltanschaung) الألمانية التي استعارتها لغات أوروبية أخرى للتدليل على هذه الفكرة أو النظرة إلى الحياة. وقد دخلت هذه العبارة الألمانية نطاق الاستعمال في القرن التاسع عشر، وعُني في شرحها وتفصيلها الفيلسوف الألماني فيلهلم ديلتي (1911 ـــ 1833). وبينما اعتبر الكانتيون الجدد «فلتانشاوُنغ» الوظيفة الحقيقية للدين، اعتمد ديلتي المنهج الهيغلي الذي جعلها موضوع الاهتمام المشترك للدين والفن والفلسفة جميعاً. وتبنّى ديلتي موقف هيغل في اعتبار كلّ من الدين والفن والفلسفة، على اختلاف أدوارها، أدوات نقل للـ«فلتانشاوُنغ». وهنا، يلتقي هيغل وديلتي وسعادة في التأكيد على عدم جواز الفصل، في كل نظرة جديدة، بين ثلاثية الحياة والكون والدين كما يسمّيها هيغل وديلتي، وثلاثية الحياة والكون والفن كما يسمّيها سعادة.
وفي كتاب «كفاحي» (Mein Kampf 1922)، يقول أدولف هتلر إنّ عملية تطوير «حزب العمال الاشتراكي الألماني» (الحزب النازي)، لم تكن مسألة تبنّي شعار انتخابي جديد في الحقل السياسي، بل «فلتانشاوُنغاً» جديداً كل الجدّة. ولكن الـ«فلتانشاوُنغ»، الذي يتحدّث عنه هتلر، ليس نظرة إلى الحياة والكون والفن «ذات أصل»، لأنّها لو كانت كذلك لما غاب عن بال دعاتها ومفكّريها وسياسييها أنّ المثل العليا التي تناضل من أجلها هي المثل العليا للأمة التي تعمل لانتصار قضيّتها. وتختلف هذه النظرة عمّا جاء به سعادة وما أعلنه في مجال التطبيق، من إصرار على المضي في العمل النهضوي على رغم مقاومة فئات من الشعب لهذا العمل الذي يهدف أصلاً إلى إسعاد هذه الفئات. إنّ ما يمتاز به سعادة عن غيره من مؤسسي النهضات الكبرى في العالم، هو أنّه لا يربط فكره ومبادئه بالأشخاص، فقد عرض مراراً أن يتبنّى خصومه مبادئ نهضته من دون الأخذ بنظامه أو الاعتراف بزعامته.
إنّ إضافة سعادة على العبارة الألمانية، إذن، تتركّز على اعتبار تبنّي نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن شرطاً لانبثاق فلسفات وعقائد من الطبيعة نفسها، وبالتالي بداية للنهضات الكبرى في الأدب والسياسة والفن. وقد اعتبر أنّ المدرحية المنبثقة عن هذه النظرة الجديدة، هي «نظرية فلسفية شاملة تتناول قضايا العالم الاجتماعية والاقتصادية، وتقتضي كتاباً على حدة يبحث في المبادئ الماركسية لتنظيم المجتمع والمبادئ الفاشية المازينية (Mazzinien) الروحية لتنظيم المجتمع، والصراع بين هاتين الفئتين من المبادئ، ثم مبدأ(ه) أي (سعادة) الذي يخرج من القاعدتين المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تُجمع عليها الإنسانية» (8). وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ.

* أستاذ جامعي

مراجع:
1- سعاده، أنطون، نشوء الأمم، مؤسسة سعاده للثقافة، طبعة جديدة منقحة من قبل المؤلف، بيروت 2014، ص12.
2- سعاده، المحاضرات العشر، الأعمال الكاملة، م 8، مؤسسة سعاده للثقافة، ط1، بيروت 2001، ص 22.
3- سعاده، جنون الخلود، الأعمال الكاملة، م5، ص83.
4- سعاده، جنون الخلود، المصدر نفسه، ص 208.
5- سعاده، جنون الخلود، المصدر نفسه، ص 247.
6- سعاده، الأعمال الكاملة، م6، ص56.
7- سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، مؤسسة سعاده للثقافة، ط12، بيروت 2013، ص53.
8- سعاده، جنون الخلود، المصدر نفسه، ص 157- 158.