بدواعي مستجدات الأزمة الليبية المتفاقمة، بدأت الأطراف الدولية والإقليمية المتداخلة إعادة ترتيب أوراقها وحساباتها ومواضع تمركزاتها بانتظار ما قد تُسفر عنه مساجلات الدبلوماسية والسلاح. وفق الحساب العسكري، جرت تراجعات ميدانية مفاجئة للجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، جرى فكّ الحصار المفروض على طرابلس منذ أكثر من عام، وفرض الطرف الآخر في الصراع السيطرة على محيط العاصمة متقدّماً باتجاه مدينة سرت الاستراتيجية بالقرب من الهلال النفطي. لم يكن ذلك الانقلاب في موازين القوى على الأرض ممكناً، لولا التدخّل التركي بالسلاح والرجال والمرتزقة وبينهم متشددون ينتمون إلى «داعش» لصالح القوات الموالية لحكومة «الوفاق» الوطني التي يترأسها فايز السراج.وبالحساب الدبلوماسي، أفضت «المبادرة المصرية» بتوقيتها واتّساق بنودها مع المقرّرات الدولية إلى إرباك اللاعب التركي في لحظة انتشاء عسكري، فقد أيّدتها بدرجات حماس متباينة أطياف دولية وإقليمية، متداخلة في الملف المُتخم بالصراعات على المصالح. هكذا، تصادم الحسابان المتعاكسان العسكري والدبلوماسي، وتبدّت اعتبارات جديدة فوق الرمال الليبية المتحرّكة.
بقوة الحقائق، فإنّ الاختراق العسكري التركي يحتاج إلى غطاء دبلوماسي وسياسي، وإلّا فإنه قد يجد نفسه منكشفاً استراتيجياً على مسارح قتال لا يمكن حسم معاركها بالعمل العسكري وحده، بالنظر إلى اتّساع خطوط القتال في بلد شاسع جغرافياً. وبقوة الحقائق، فإنّ الاختراق الدبلوماسي المصري يحتاج إلى تماسك عسكري على الأرض يصحّح الأوضاع الميدانية، حتى لا يجد نفسه شبه مقيدٍ في أية مفاوضات محتملة. ما بين السلاح والدبلوماسية، وجد القائد العسكري خليفة حفتر نفسه، في وضع لا يحتمل المماطلة، في ما يجب البتّ فيه من قرارات وإجراءات تصحّح جبهته الداخلية، بإعادة وصل ما انقطع مع رئيس البرلمان الليبي المنتخب المعترف به دولياً المستشار عقيلة صالح.
هذه مسألة شرعية لها ما يسندها في الخطاب الدولي، تضاهي وتوازن ما يدّعيه الطرف الآخر ـــــ «حكومة الوفاق» ـــــ من شرعية الاعتراف الدولي تأسيساً على اتفاقية «الصخيرات»، التي عُقدت عام 2015، وصادق عليها البرلمان.
الشرعيات مطعون عليها بالتقادم أو باستنزاف مبرّرات وجودها، لكنّها تظل ماثلة في المساجلات الدبلوماسية، ولا يمكن حجب التوظيف السياسي والدعائي لها، حتى يمكن تأسيس شرعية حقيقية ومستدامة، استناداً إلى الإرادة الحرة للشعب الليبي وحده.
قد يقال إن «المبادرة المصرية» تستهدف أساساً إنقاذ حليفها خليفة حفتر. هذه حقيقة لا يمكن نفيها بالنظر إلى اعتبارات الأمن القومي عند حدودها الليبية الممتدة لنحو 1200 كيلومتر مربع. إذا ما تمركزت قرب الحدود قوات توالي الاستخبارات التركية تضمّ عناصر تنتسب إلى «داعش» ومثيلاتها، فإنّ هناك استباحة أمنية مؤكّدة تقارب ما حدث بعد سقوط نظام العقيد معمّر القذافي، حين سرّبت إلى الداخل المصري شحنات سلاح هائلة من مخازن الجيش الليبي المفكّك، ومخلّفات «حلف شمال الأطلسي»، ومسلّحين متشدّدين ارتكبوا أعمالاً إرهابية مروّعة.
الخطر الأمني يهدّد بصيغة أخرى دولاً أوروبية عديدة على الجانب الآخر، من المتوسط بموجات هجرة غير شرعية أو بعمليات إرهابية في عواصمها ومدنها الكبرى، تجد تمركزاتها في ليبيا المستباحة. قد يقال إن «المبادرة المصرية» تأخّرت طويلاً عن مواقيتها الطبيعية، حين كان حفتر في وضع عسكري أفضل وقبضته الأعلى في موازين القوى على الأرض. هذا صحيح، لكنّه لا ينفي أهمية التوقيت في إرباك الانتشاء العسكري التركي حتى يمكن التوصل إلى تسوية عادلة وفق المقرّرات الدولية، أو تعديل الموازين العسكرية مرة أخرى. وقد يقال إن حفتر تملّص مرّتين على الأقل من أية استحقاقات لوقف إطلاق النار، والدخول في تفاوض يُنهي الصراع سلمياً، كما حدث في موسكو وبرلين، وإنه الآن يتقبل شبه مهزوم ما لم يرتضيه شبه منتصر. الانتقاد صحيح في مجمله، وعليه شواهد وأدلة، لكن موقف القائد الليبي المستجد خطوة صحيحة في توقيت حرِج تساعده باليقين على تحسين صورته الدولية وتمتين تحالفاته الداخلية.
ما يلفت النظر، هنا، قدر العصبية المفرطة لقوات حكومة «الوفاق» التي أخذت توزّع الاتهامات أمام الفضائيات، وتصف الجيش الوطني الليبي بالمتمرّدين على السلطة الشرعية، من دون أن يستند خطابها الاحتفالي إلى أية صدقية، حيث تتهم هي نفسها باستدعاء الاحتلال العسكري التركي والتفريط في المقدرات النفطية للبلاد. هذه حالة تنافر بين القوى المتصارعة وصلت إلى حدود يصعب تجاوزها بأيّ وقت منظور.
هكذا تبدو احتمالات الاحتكام إلى السلاح أكثر ترجيحاً من احتمالات الحلول على موائد التفاوض برعاية دولية. وما بين السلاح والدبلوماسية، وجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه، أمام حصار دبلوماسي محتمل، فبدأ هجوماً مضاداً لتفريغ «المبادرة المصرية» من قوة زخمها باتصالات مع المركزين الدوليين الكبيرين واشنطن وموسكو. بشيء من المناورة السياسية، حاول الإيحاء باستعداده للتوصل إلى تفاهمات سياسية، وأن هناك عناصر ومصالح مشتركة يمكن البناء عليها مع تركيا وليس مع غيرها.
بأية قراءة موضوعية، يصعب عليه الخروج من المأزق إذا ما دعته اعتبارات السلاح في اللحظة الراهنة إلى المضي قدماً من دون غطاء دولي متماسك للسيطرة على مصادر النفط الليبية، الجائزة الكبرى في حسابات القوى الدولية المتناحرة. بقدر ما هو ممكن ومستطاع، سوف يذهب أردوغان إلى حافّة النفط الليبي، لا يخفي ذلك ويعلنه أمام العالم فيما الخرائط أمامه، في انتظار ردّات فعل الأطراف الدولية الأخرى حتى يمكنه التفاوض توزيعاً للحصص والغنائم.
يصعب أن تمر لعبة أردوغان بلا كلفه سياسية واستراتيجية باهظة، خصوصاً من الدول العربية والأوروبية المتداخلة بمواجهته في النزاع على غاز شرق المتوسط، مصر واليونان وقبرص وفرنسا.
بأي حساب عسكري، يكاد يستحيل على تركيا أن تدخل في أكثر من صدام على أكثر من محور استراتيجي بتوقيت واحد، فهي ليست قوى عظمى، كما أنّ الشروخ متّسعة في ثقة جيشها بنفسه، حيث جرى التنكيل بأكثر من 70% من نخبة قياداته وجنرالاته، في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016.
وبأي حساب دبلوماسي، فإنّ هناك حدوداً لألعاب الهواة في السياسة الدولية، كان لافتاً ومستغرباً أن يزعم الرئيس التركي للرئيس الأميركي المأزوم داخلياً، أن أكراداً سوريين وراء الاضطرابات التي تعمّ الولايات المتحدة بعد مقتل الضحية السوداء جورج فلويد!
أمام لوحة سياسية وعسكرية ظلالها القاتمة تطارد ألوانها الزاعقة، يتبدى سؤالان كاشفان لما قد يحدث غداً في ليبيا المشتعلة بالنيران:
أولهما، مدى جدية الأطراف الدولية المتداخلة في الأزمة الليبية، في فرض وقف إطلاق النيران قبل الذهاب إلى تسوية سياسية برعاية الأمم المتحدة تنهي الصراع الدموي المزمن؟ الكلام العام لا يؤسّس لضغط فاعل ولا لمرحلة جديدة ممكنة.
وثانيهما، مدى قدرة أية تسوية محتملة على نزع سلاح الميليشيات وتفكيكها ومنع أية تدخلات أجنبية، كما تدعو «المبادرة المصرية» والمقررات الدولية نفسها؟
إذا لم يكن ذلك ممكناً، فإنه لا يمكن استبعاد التدخل العسكري من الأطراف الإقليمية والدولية المتضرّرة من الجموح التركي لإعادة التوازن، مرة أخرى، إلى ميادين المواجهة، والسيناريوات كلّها مفتوحة ما بين السلاح والدبلوماسية.

* كاتب وصحافي مصري