إحدى المشاكل الرئيسية التي واجهت سوريا خلال سنوات الأزمة هي الافتقار إلى طروحات واضحة بشأن الاقتصاد، وما إذا كانت بنيته ستتغيّر بتغيّر العوامل التي كانت تحافظ على ثبات مؤشِّراته قبل الحرب. سعر الصرف هو أبرز هذه المؤشّرات، وإن لم يكن هو المحدّد الرئيسي لاتجاهات تطوُّر الاقتصاد سلباً أو إيجاباً. مركزيّته كمحور للعملية الاقتصادية أتت لاحقاً، حين بدأ الانهيار يحدث بوتيرة متسارعة، عقب موجات الهجرة المتلاحقة في الأعوام 2015، 2016، 2017.
سي جاي جونسون ــ الولايات المتحدة

في هذه المرحلة، تطوّرت عملية الدولرة كثيراً، وخصوصاً مع خسارة العملية الإنتاجية معظم اليد العاملة الشابّة التي هاجرت بحثاً عن مصادر أخرى للدخل. لم يتمّ تعويض هذا الخلل في السنوات اللاحقة، على الرغم من عودة الكثير من المصانع للعمل في المناطق التي كانت مسرحاً للاشتباكات والقصف أثناء الحرب. حصلت الاستعاضة عبر توظيف النساء وكبار السنّ بكثافة، بدلاً من الشباب، ولكن القيمة المُضافة الفعلية للإنتاج كانت قد تراجعت كثيراً، وهو ما تشهد عليه نِسَب النمو المتدنّية في هذه المرحلة، بالإضافة إلى انحسار التصدير بشكل كبير نتيجة للندرة الحاصلة في العرض، واقتصار ما يُنتَج وفقاً لقوّة العمل الجديدة على الاستهلاك الداخلي، وبعض وجهات التصدير الباقية من المرحلة السابقة.

فقدان القيمة المضافة لمصلحة الدولار
الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء بهذا المعنى، لم يعد يكفي لتجاوز الأزمة الحاصلة، خصوصاً في ظلّ العقوبات المستمرّة وما تطرحه من تحدّيات على السياسة النقدية المعتمدة. صحيح أنّ البنية الإنتاجية القائمة ساعدت في الحدّ من آثار العقوبات، عبر توفير مروَحة واسعة من المنتجات التي تساعد الاقتصاد على الاستمرار، ولكن تأثيرها على سعر الصرف لم يكن بالقدر نفسه من الإيجابية، على اعتبار أنّها مرتبطة هي الأخرى بالعملة الأجنبية، من خلال المواد الأوّلية اللازمة للتصنيع. هذا الطلب المتزايد على الدولار، حتى في عملية الإنتاج التي تستهدف الحدّ من تأثيره حوَّلَه، إن لم نقل إلى عملة بديلة، فأقلّه إلى سلعة أساس تتحدّد بموجبها أسعار كل السلع والمنتجات الأخرى في عملية التبادل، سواء داخلياً بين التجّار والمستهلكين أو في الخارج بينهم وبين المورّدين. بمعنى أنّ القيمة التبادلية للدولار، وفقاً للتعبير الماركسي الكلاسيكي، هي التي أضحت المحدّد الرئيسي للعملية الاقتصادية، حتّى في ظلّ اقتصاد لا يعتمد على سلّة استيراد كبيرة، ولا يشجّع على التبادل بالعملة الأجنبية إلّا في حدود ضيّقة. زيادة الإنتاج هنا لا تحلّ شيئاً، خصوصاً في ظلّ الخلل الحاصل فيها، إذ لم تعد القيمة الاستعمالية للسلع التي تختصر معنى عملية الإنتاج متناسبة مع القيمة التبادلية التي استحوذ عليها الدولار بالكامل. فكلّ ما ينتج يُسعَّر به، وما يتحقّق أحياناً من قيمة مضافة فعلية بالليرة يضمحلّ فوراً بمجرّد توريده إلى السوق، حيث لوائح الأسعار التي تُوضع بمعزل، ليس فقط عن كلفة الإنتاج الفعلية، بل أيضاً عن حجم الطلب الذي عادةً ما يكون هو المحدّد الفعلي لعملية التسعير. انفصال عملية الإنتاج، بهذا المعنى، عن العرض والطلب ليس فقداناً للقيمة المضافة فحسب، بل هو بمثابة انتقال كاملٍ لها إلى حيث منشأ العملة الأجنبية التي باتت تختزل كلّ العمليات الاقتصادية القائمة، من الإنتاج (جزئياً طبعاً) إلى التبادل، وصولاً إلى الادّخار.

تعطيل عملية الإنتاج
استفحال الطلب على الدولار بهذا الشكل، هو المسؤول عن الانهيار الحاصل حالياً في سعر الليرة، خصوصاً بعد انتهاء العرض الذي كانت توفّره السوق اللبنانية، حيث كان لا يزال ثمّة توازن بين الطلب الكبير عليه داخلياً والذي أدّى إلى نشوء السوق السوداء أو الموازية له، وعرضه خارجياً عبر القنوات المصرفية المختلفة. هذا الاختلال الذي بدأ في أواخر العام الماضي، سيستمرّ على الأرجح، وسيأخذ أشكالاً مختلفة لا تقتصر فقط على ارتفاع الأسعار وفقدان بعض السلع أو احتكارها. الأزمة التي بدأت تلوح في الأفق كنتيجة لهذا المسار المتصاعد، هي تعثُّر عملية الإنتاج نفسها، وخصوصاً في القطاعات الحيوية والاستراتيجية، كالأدوية وسواها. الجهات التي تورّد المواد الأولية اللازمة لهذه الصناعة، ليست منصاعة للعقوبات الأميركية، ولكنّها تحتاج إلى الدولار لقاءَ توريداتها، وهو ما يضع صناعة الأدوية بمجملها في خطر ـــ ومعها طبعاً الأمن الصحّي للبلاد ـــ كونها تعتمد في هذا الشقّ المحدّد من تبادلاتها على الدولار بشكل رئيسي. والحال أنّ تجاوز هذه المعضلة نهائياً لن يحصل قريباً، بسبب ارتباطه بآلية التبادلات التجارية في العالم التي يهيمن عليها الدولار بشكل كامل. الضرر الحاصل هنا أكبر بكثير من مجرّد التحكُّم بالأسعار، لأنّ القيمة التبادلية أو التبادل التجاري كما نعرفه، لا يتعامل إلّا مع حصيلة عملية الإنتاج، وبالتالي فإنّ أثَرَه مهما كان كبيراً سينحصر في السوق وبين التجّار والمستهلكين، بينما التأثير الحقيقي هو في التحكَّم بعملية الإنتاج نفسها، ومنعها من الحدوث، عبر حرمان أصحابها من المواد الأولية اللازمة لصناعتهم في السوق الدولية. هذا الأمر لا يمنع وصول المنتَج إلى السوق فحسب ـــ وكلّ منتَج في هذا القطاع هو حاجة ماسّة للناس ـــ بل يخلق كذلك حالة من الهلع في سوق الدواء برمّته، بحيث يستحيل الحصول حتى على الأدوية التي تُنتَج بالكامل داخلياً، أي من دون الحاجة إلى كلّ هذه الدورة التي تسبّبت بهذه الفوضى العارمة. ثمّة تفاصيل أخرى مرتبطة بأسعار الأدوية عامةً، وبطبيعة نظام التسعير المعتمَد في سوريا، والذي لا يخضع لآلية العرض والطلب، والذي من دونه أيضاً لكانت هذه الصناعة قد التحقت بكلّ نظيراتها الخاضعة للعملية التجارية التي يملك الدولار اليد الطولى فيها.

حلقات «الانهيار»
التأثير بهذا الشكل على إنتاج السلع الحيوية، لم يبدأ من عملية الإنتاج نفسها، بل انطلق من دوائر أبعد تبدأ بسعر الصرف، قبل أن ينتقل بعد تحويل القيمة التبادلية إلى الدولار بالكامل إلى قطاع السلع، حيث شجّع نشوء سوق الصرف الموازية التجّار على أعمال المضاربة والاحتكار، ليصل الأمر أخيراً إلى التحكّم بعملية الإنتاج نفسها، بعد انهيار العملة المحلية، وعجزها التامّ عن حماية القيمة الاجتماعية التي يمثّلها الإنتاج من الدولار. في كلّ هذه المحطات، كان الطلب على الدولار هو الذي يودي بحلقات الإنتاج والتبادل تباعاً، فبعد انتقال القيمة المعيارية للنقد إلى السوق الموازية، رَفَعَ الطلب المذكور قيمة المنتجات إلى حدود لا تسمح بها عملية الإنتاج نفسها، وبالتالي فَصَلَ قيمتها التبادلية عن القيمة الاستعمالية الفعلية، وحدّد لها أسعاراً جديدة لا تتعيّن بعملية الإنتاج ولا تتناسب مع كلفتها لجهة الزمن والجهد المبذول وساعات العمل و... إلخ، بحيث يصبح من المستحيل على أيّ عامل بأجر (سواء كان موظفاً أو مياوماً أو عاملاً في مصنع) أن يشتريها وفقاً لهذا السعر. التضخّم هنا هو نتاج هذا النشاط التجاري الذي تعجز السلطة عن التحكّم به، بدليل انتقالها من إخفاق إلى آخر في محاولة كبحه، ابتداءً من تحديد سعر صرف رسمي مُلزِم، يكون بمثابة مقدِّمة لجعل الأسعار متناسبة مع كِلَف الإنتاج وليس مع سعر الدولار، مروراً بمحاولتها الدخول كمنافس في السوق عبر استيراد السلع للتحكّم بعملية التسعير لاحقاً، وصولاً إلى تقييد التدفّقات النقدية بالدولار، لجعل عملية العرض والطلب خاضعة بالكامل للرقابة الرسمية. هذه الأخيرة، عادةً ما تكون أساس عملية إخضاع التدفُّقات النقدية بالعملة الأجنبية لعملية الترسمل وإنتاج القيمة في الداخل، ولكن ليس في أوقات الحرب، ولا حين تكون القيمة المضافة الفعلية حيث تحصل المضاربات والاحتكارات، وحيث تنتهي عملية الإنتاج بفقدان عناصرها الأساسية بعد انهيار كلّ حلقاتها تباعاً.

خاتمة
مسؤولية الحصار والعقوبات عن كلّ ذلك، لا تنفي العجز الحاصل عن مواجهتها، وتُضاعِف التحدّي بعد قرب دخول «قانون قيصر» حيّز التنفيذ، إذ ستصبح الأدوات النقدية بحدّ ذاتها مهدّدة بفعل «تجريم» التعامل مع المصرف المركزي والمصرف التجاري. التعويل على الأدوات النقدية هنا أساسي، لأنها هي التي تنظِّم عملية دخول الدولار وخروجه، وبالتالي لديها حدّ أدنى من التأثير على عملية العرض والطلب التي ترفع أسعار الدولار، ومعه كلّ أسعار السلع وخصوصاً المستوردة، بالإضافة إلى ما تقوم به على صعيد تحفيز عملية الإنتاج، رغم كلّ التعثُّر الحاصل لها، وآخره أزمة إنتاج الأدوية الأخيرة. الانتهاء من أزمة الطلب على الدولار لن يكون قريباً، لأنّها الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها إضعاف الاقتصاد هنا إلى الحدّ الأقصى، وخصوصاً بعد التلازم الحاصل مع مسار الانهيار في لبنان. التحايل على ذلك سورياً، لا يزال ممكناً بخلاف لبنان، لأنّ قنوات الريع التي تغذّي الاقتصاد هنا ستستمرّ لفترة طويلة، ومعها ستستمرّ أيضاً أزمة الاقتصاد. الدولرة بهذا المعنى هي طريق باتجاهين، الأول يصادر عملية الإنتاج ومعها كلّ أشكال التبادل وخلق القيمة، والثاني يدفع بهذا الاتجاه قدماً عبر تشجيع الادخّار بالدولار. صحيح أنّ مراكمة الريوع مفيدة على المدى القصير لتمويل إنفاق الأسر والقطّاعات التي تفتقد بشدّة إلى المداخيل والسيولة، ولكنّها تمثّل مقتلاً لعملية الإنتاج على المدى البعيد بسبب طابعها المدولر. ومن هنا الحاجة إلى تنظيم عملية دخول الريوع وخروجها مستقبلاً، عملاً بالنموذج الصيني الذي أخضع حركة الرساميل لرقابة صارمة حدّت من التفاوت الطبقي الناجم عن هذا الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية، بحيث تكون الاستثمارات الأجنبية وكلّ أشكال التدفّقات المرافقة لها، وعلى رأسها العملة نفسها، في خدمة التنمية الداخلية وعملية الإنتاج، وليس العكس.

* كاتب سوري