لا شكَّ في أنّ الفريق الذي تولّى شأن الدعاية السياسيّة والتحريض ضد حزب الله في لبنان، بعد اغتيال رفيق الحريري مباشرةً (وبالنيابة عن التحالف الإسرائيلي ـــ الأميركي ـــ السعودي ـــ الحريري)، قرّرَ مبكّراً التقليل من شأن مقاومة حزب الله والتعظيم المفرط (والخيالي) في مقاومة «جمّول». يومها، تصدّر إلياس عطالله المشهد السياسي، وكان الإعلام السعودي ـــ الحريري يستضيفه ويقدّمه على أنه قائد مؤسّس لـ«جمّول» (والقول إن إلياس عطالله هذا كان قائد «جمّول» ينقِصُ من مصداقيّة «جمّول» على الفور، إذ إنه عليك أن تُقنعَ أهل الجنوب أنّ عطالله كان أعظم أثراً وشأناً في مقاومة العدوّ من عماد مغنيّة، مثلاً، أو من أيّ مقاتل ضد إسرائيل في حرب تمّوز). لكنّ السرديّة لم تتوقّف، بل تدحرجت ككرة الثلج، وقرّر النظام السعودي أنّ قائمة الحريري الانتخابيّة يجب أن تضمّ إلياس عطالله. هل يعني هذا، أنّ التحالف الذي يبدأ في الرياض وينتهي في واشنطن، ويمرّ في تل أبيب، لم يمانع ضمّ المسؤول الأوّل عن تحرير الجنوب من احتلال إسرائيل، على قائمة الحريري، الذي كان مُسيَّراً من قِبل جيفري فيلتمان؟ هناك ما لا يستقيم في هذه الأطروحة.

لكنّ اللافت أنّ الحملة التي كانت جزءاً من مخطّط الحكومة الأميركيّة لنقل لبنان من معسكر إلى آخر بعد اغتيال الحريري، باتت تظهر ليس فقط في كتابات ١٤ آذار (ويسار ١٤ آذار الذي بات يتزيّن بشعارات الساو ساو سورة)، بل أيضاً في كتابات بعض الشيوعيّين الحاليّين على مواقع التواصل. الحزب الشيوعي اللبناني بات يصدّق أنّ «جمّول» هي التي حرّرت جنوب لبنان، وأنّ مقاومة حزب الله لم تكن أكثر من كومبارس. هاكم وهاكنّ توصيفاً من موقع الحزب الشيوعي الرسمي: «ولقد قامت قوى أخرى بمتابعة هذه المهمّة منفردة تحت مسمى المقاومة الإسلامية، حتى تحقّق الانتصار الذي لا يمكن لأحد أن يزوّر دورنا الكبير في صنعه». وليس واضحاً إلى من يتوجّه الحزب بكلامه هذا؟ نصر الله، مرّة أخرى، يذكر قبل أسابيع دور الشيوعيّين في التحرير، فيما بعض الشيوعيّين باتوا ينكرون الدور الأعظم لحزب الله في التحرير. والتشديد على دور «جمّول» بدأ في إعلام رفيق الحريري، بعد وفاته (في جريدة «المستقبل») ثم انتقل إلى وسائل التواصل. وسنة بعد سنة، خصوصاً بعد التحوّل الليبرالي الذي طرأ على الحزب الشيوعي، خصوصاً بعد انتفاضة تشرين، تكبر أسطورة «جمّول» وتصبح هي محرّرة الجنوب، وتسود خبريّة أنّها كانت ستُكمل حتى النهاية، لولا أنّ حزب الله منعها (أي منع إلياس عطالله، قائدها) من إتمام المهمة.
ويترابط التركيز (المعادي لـ«جمّول»، إذ إننا نتحدّث عن إعلام حريري وسعودي وأميركي وقطري يميني رجعي) على دور «جمّول»، مع تركيزٍ موازٍ على دور حزب الله في حملة اغتيالات ضد قادة شيوعيّين في الثمانينيّات. وهنا، يلاحظ المرء أنّ الحزب الشيوعي اللبناني بات أكثر تذكّراً لهؤلاء الشهداء دون غيرهم، وهناك اتهام (بالتصريح حيناً والتلميح حيناً آخر) لحزب الله بالمسؤوليّة عن تلك الاغتيالات. ولماذا استنكف الحزب الشيوعي اللبناني عن تذكّر هؤلاء الشهداء، وامتنع عن اتّهام حزب الله (إذا كان يرى أنّ حزب الله هو المسؤول) طيلة هذه السنوات والعقود؟ لا، ليس ذلك فقط: كيف ولماذا تحالف الحزب مع حزب الله في السياسة في أكثر من مفصل، منذ الثمانينيات حتى اليوم، بالرغم من يقينه عن مسؤوليّة الحزب عن هذه الاغتيالات؟ ولماذا أسبغ قادة شيوعيّون (من الذين يحمّلون حزب الله المسؤوليّة عن اغتيال قادة شيوعيّين) مثل كريم مروّة، المديح وآيات التبريك على قادة حزب الله عبر السنوات (قبل أن ينتقل مروّة وصحبه من المعسكر الستاليني السوفياتي إلى المعسكر الحريري السعودي، بعد اغتيال الحريري مباشرة ـــ طبعاً. الانتقال لا يكون بين ليلة وضحاها لكن التصريح عن الانتقال يُعلن في لحظة سياسيّة معيّنة مؤاتية، مثل اغتيال الحريري عندما انتعش المشروع الرجعي اليميني وتلقّف كوادر وقادة يساريّين سابقين). لكن، الحزب الشيوعي ليس مسؤولاً عن التنكّر لضحايا اغتيال على يد حزب الله ـــ لو صحَّ ذلك ـــ كل هذه السنوات فقط، بل هو تنكّر لضحايا شيوعيّين قُتلوا على غير يد حزب الله، وبأعداد أكبر. اليوم، بعض الشيوعيّين لا يتذكّرون من الشهداء، إلّا هؤلاء الذين يقولون إن حزب الله اغتالهم.
لم تُرتكب في تاريخ لبنان جرائم ضد الشيوعيّين أكثر من حزب الكتائب و«الأحرار». إنّ حزب «الكتائب» (و«القوّات اللبنانيّة» في ما بعد) تقصّد استهداف الشيوعيّين وقتلهم وتعذيبهم في كل مناطق نفوذ «الكتائب» (كما استهدف سوريين قوميّين). وينسى البعض أن أكذوبة الانعزاليّة المتجدّدة عن أن اليمين الانعزالي لم يشنّ الحرب إلا ضد «الفلسطينيّين»، وذلك من ضمن صراع ضد مشروع التوطين، لم تتوافق مع حجّة «الكتائب» الأولى عن الحرب في عام ١٩٧٥. يومها (أي في عام ١٩٧٥)، كان حزب «الكتائب» ينزّه المقاومة الفلسطينيّة، ويلقي بكل اللوم في الأزمة اللبنانية على اليسار اللبناني. وفي خريف عام ١٩٧٥، انضمّ سليمان فرنجيّة إلى جوقة «الكتائب» في إلقاء اللوم على اليسار اللبناني، وذلك لتسويغ الحرب الأهليّة. تصريحات فرنجيّة وشمعون والجميّل، تناغمت في كانون الأول/ ديسمبر ١٩٧٥، في لَوْم اليسار اللبناني والتحريض ضدّه. وترافق ذلك مع جرائم تهجير وقتل ضد شيوعيّين، خصوصاً في مناطق خاضعة لنفوذ الانعزاليّين. خذ (وخذي) مثلاً، ما جرى في صاليما في منتصف كانون الأول/ ديسمبر من عام ١٩٧٥: خطف كتائبيّان وليد توفيق المصري، عضو اللجنة المنطقيّة في جبل لبنان في الحزب الشيوعي، وأطلقا عليه النار وأردياه قتيلاً ورمياه من السيّارة. مئات من هذه الأحداث تكرّرت، غير تلك التي استشهد فيها شيوعيّون في معارك عسكريّة ضد الانعزاليّين. لكن الحزب الشيوعي (والشيوعيّون على مواقع التواصل) لا يذكرون أيّاً من هؤلاء، ولا يذكر الحزب مسؤوليّة الذين قتلوا هذا العدد الهائل من الشيوعيّين. كان للحزب الشيوعي وجود فاعل في المناطق «الشرقيّة»، لكنّه اختفى بسرعة، بعد اندلاع الحرب، إمّا بسبب التهجير الفعلي أو القتل على يد الانعزاليّين. أحزاب ميليشيات الانعزاليّين لا تزال تذكر قتلاها، ولا تزال تتهم بالأصبع المسؤولين (برأيها) عن قتلهم، فيما يتعامل الحزب الشيوعي (وغيره من أحزاب الحركة الوطنيّة البائدة) مع شهدائهم، على أنهم قضوا بحوادث سير متراكمة. لماذا لا يذكر الحزب الشيوعي، وشبابه على مواقع التواصل، كلّ هؤلاء، بل يتذكّر فقط شهداءه الذين يتّهم الحزب باغتيالهم في الثمانينيّات؟ وهل ورد الحديث عن تلك الحملات والمجازر الكتائبيّة ضد الشيوعيّين، في اللقاء «التنسيقي» بين شباب الحزب الشيوعي اللبناني وشباب حزب «الكتائب» في زمن ما يُسمّى بـ«الثورة اللبنانيّة»؟ أم أنّ الأمر طواه النسيان لمدّ الجسور بين الفرقاء؟
ليس هذا فقط، بل إنّ الحزب نسِيَ أيضاً عشرات الضحايا من الشيوعيّين الذين قتلوا في صيف ١٩٨٣ في طرابلس، في معارك بين قوّات النظام السوري (وكان قائد «جمّول»، إلياس عطالله، يقاتل معهم) وبين قوّات ياسر عرفات ودكّانته آنذاك، «حركة التوحيد». ولم يكتفِ ظلاميّو «التوحيد» بقتل الشيوعيّين، بل رموا جثثهم في البحر، كي لا تتلوّث الأرض بهم، بحسب قولهم. هذه كانت من أكبر المجازر ضد الشيوعيّين في سنوات الحرب. هذه مثلاً، لا ترد في كتابات الحزب الشيوعي وبياناته وتغريدات مناصريه الشباب على مواقع التواصل. لا، بل إنّ ياسر عرفات لا يزال يُذكر بالخير في كتابات الحزب الشيوعي اللبناني، ولا يرد عنه إلا أقوال التكريم والتبجيل. هل هذه المجزرة يجب أن تُنسى ويُغفر لمرتكبيها، بينما شهداء الحزب الذين يتهم شيوعيون حزب الله بقتلهم هم الشهداء الوحيدون الذين يجب تكريمهم دون غيرهم من ضحايا الاغتيال والقتل؟ مجزرة من أفظع المجازر ضد الشيوعيّين في تاريخ لبنان، وليس هناك من ذكرى لها، وليس هناك فيها من تذكير بالشهداء، أو لوم ـــ وإن لطيف ـــ للمسؤول عنها؟ وفي حالة مجزرة طرابلس (خلافاً لاغتيالات طالت أفراداً شيوعيّين في لبنان في الثمانينيّات) فإن المسؤوليّة معروفة وغير مبهمة، وليس هناك من جدل فيها. لكن: الحزب وقطاعه الشبابي لا يذكرها ولا يرفع من شأن الشهداء في ذكراهم السنويّة، لماذا؟
حقّنا أن نسجّل دور «جمّول»، لا أن ننسى الدور الأكبر لمقاومة لا سابق لفعاليّتها ونجاحها وإن اختلفنا نحن في اليسار مع أيديولوجيّتها


نأتي إلى موضوع اغتيال القادة الشيوعيّين في الثمانينيّات. المسألة باتت تستوجب توضيحاً وتفسيراً لها. ما هي أسانيد اتّهام حزب الله فيها؟ الحجّة تقول إن الحزب كان يريد إنشاء جمهوريّة إسلاميّة في حينه، وإنه في الاغتيالات أراد الانتقام من الذين يمكن الوقوف حجر عثرة بوجهها. لكن، هل كان الحزب الشيوعي على هذه الدرجة من القدرة والقوّة كي يستهدفه الحزب؟ ولماذا انتقى حزب الله الحزب الشيوعي، وحده فقط من كل الأحزاب، كي ينتقم منه على علمانيّته أو على وقوفه بوجه مشروعه؟ لماذا لم يتقصّ مثلاً من قادة انعزاليّين، أو من قادة الإسلام التقليدي؟ الحجّة الأيديولوجيّة في التفسير ضعيفة جداً، خصوصاً أنه ليس هناك من خصومة تاريخيّة بين حزب الله والحزب الشيوعي، وليس بينهما صراع دموي يستدعي سلسلة من الانتقامات. وما الفائدة التي كان يمكن للحزب أن يجنيها من اغتيال تلك القيادات الشيوعيّة ذات التأثير المحدود جداً؟ فقد طالت الاغتيالات الحزب في مرحلة انهياره، لا في أوج قوّته، قبل الحرب الأهليّة حتى أواخر السبعينّيات؟ كما أنّ الضحايا من القادة في الحزب لم يكونوا معروفين بعدائهم لحزب الله بصورة محدّدة.
الحجّة الأخرى، أنّ حزب الله قام حينها باغتيالات، وفي هذا إشارة إلى خطف الرهائن الغربيّين وإلى خطف يهود لبنانيّين. صحيح أن الحزب مرّ في انطلاقته بمرحلة مخيفة (لكلّ اللبنانيّين واللبنانيّات، وليس بسبب مشروعه لإنشاء جمهوريّة إسلاميّة في لبنان فسحب، بل بسبب ممارسات محدّدة هوجاء)، لكنّ تلك الممارسات التي تُلصق به، تبرّأ منها. هناك عدد من عمليّات الخطف التي جرت من قبل منظمّات، مثل «الجهاد الإسلامي» أو «منظمة المستضعفين في الأرض»، لكنّ الحزب لم يعترف يوماً بمسؤوليّته عن تلك الأعمال، التي أعلنت تلك التنظميات مسؤوليّتها عنها. ولنفترض أنّ عناصر في تلك التنظيمات انضووا في ما بعد في صفوف حزب الله، عند انطلاقته في عام ١٩٨٥، فلماذا يستنكف الحزب عن إعلان مسؤوليّته عن تلك الاغتيالات؟ لماذا يكون ذلك العمل الوحيد الذي يستنكف الحزب عن إعلان المسؤوليّة عنه؟ حتى تفجير بوينس آيرس في عام ١٩٩٤، أعلنت منظمة «الجهاد الإسلامي» مسؤوليّتها عنه (يخلط الإعلام الغربي، كما العربي، بين منظمّة «الجهاد الإسلامي» وبين منظمّة «الجهاد الإسلامي» اللبنانيّة).
ولماذا يصرّ بعض الشيوعيّين (السابقين ـــ أي اليمينيّين المنخرطين في مشروعٍ يميني رجعي ـــ وبعض الحاليّين) على تحميل حزب الله، وفقط حزب الله تلك المسؤوليّة؟ لماذا لا يكون هناك مناقشة أو تحقيق رسمي أو حتى صحافي في الموضوع؟ ولماذا لا تتم الإشارة إلى احتمال تورّط حركة «أمل» في المسؤوليّة عن تلك الاغتيالات؟ لا أقول إن هناك وثائق أو قرائن تثبت بالقاطع مسؤوليّة حركة «أمل» عن تلك الاغتيالات، لكن يمكن بناء حجّة قانونيّة عن احتمال مسؤوليّة الحركة. ما هي تلك الحجج؟ أولاً، السياق المعاصر للصراع بين «أمل» والشيوعيّين في الجنوب وبيروت. خلافاً، للعلاقة بين حزب الله والشيوعيّين، هناك تاريخ سنوات من الصراع الدموي بين الحركة وبين الشيوعيّين في قرى ومدن الجنوب؟ هذا السياق لا يرِد بتاتاً في المحادثات الإعلاميّة عن الموضوع. كان بين اليسار اللبناني وحركة «أمل» ثأرٌ مكتوم.
في صيف عام ١٩٧٦، عندما بدأت قوّات النظام السوري بالتدخّل العسكري، إلى جانب القوى الانعزاليّة، عارضتها قوى اليسار، ودافعت حركة «أمل» وكامل الأسعد عن هذا التدخّل، إضافة إلى بعض التنظيمات الموالية لسوريا، يومها (مثل «اتحاد قوى الشعب العامل»). وشنّت قوى المقاومة والحركة الوطنيّة، حملة عسكريّة أنهت فيها الوجود العسكري لهذه القوى، وفي حالة «أمل» من الجنوب إلى بيروت. وكانت الحركة ضعيفة، آنذاك، ما يفسّر أنّ المعارك لم تستمرّ أكثر من يومَين فقط (اليمين اللبناني نفسه الذي يستخدم موسى الصدر اليوم، كأنه كان من مؤسّسي حركة ١٤ آذار، يتناسى أنه كان أقرب حليف إلى النظام السوري في كل لبنان على مرّ سنوات الحرب). لم تنتعش حركة «أمل»، في أواخر السبعينيّات وفي أوائل الثمانينيّات، إلّا بفعل عوامل ثلاثة: ١) لم تترك الحركة الوطنيّة سمعة عطرة لها بين الناس، وانتشر فيها الفساد وعمّ الارتزاق والانتفاع والانتهازيّة (هل من الصدفة أنّ معظم قادة الحركة الوطنيّة انتهوا أزلاماً عند رفيق الحريري؟). كما أنّ الحركة الوطنية فشلت في حماية الجنوب من عدوان إسرائيل، وكان أداؤها العسكري مرتبطاً بفشل القيادة العرفاتيّة التي لم تشكّل يوماً في لبنان مقاومة فاعلة ورادعة. كذلك، فشلت الحركة الوطنيّة في تشكيل قوة مقاومة حامية للجنوب. ٢) غياب موسى الصدر أعاد الحنين إلى قيادة من خارج صف الحركة الوطنيّة، كما أنّ غيابه أعاد الاعتبار إلى قيادته وشخصيّته، بعدما كانت قد تأثرت بارتباطه الوثيق بالنظام السوري. ٣) كان من مصلحة قوى الرجعيّة (في الدولة وخارجها) دعم بديل قوي عن الحركة الوطنيّة.
وفي سياق صعود حركة «أمل» الثاني، نشبت بينها وبين الحزب الشيوعي (ومنظمّة العمل وغيرها، وإن بدرجة أقل) معارك واشتباكات دامية. لماذا طُمست هذه المعارك من التاريخ؟ كانت هناك في القرى وفي بيروت عوامل نزاع ورغبات ثأريّة على مرّ سنوات. والثمانينيّات في نصفها الثاني، كانت المرحلة التي نجحت فيها «أمل» ببسط النفوذ في الجنوب والضاحية على حساب اليسار. لكنّ هذه الهزيمة لليسار الشيوعي، سبقت ذلك التاريخ: بحلول عام ١٩٨٢، كان الجنوب اللبناني تحت سيطرة «أمل»، وكانت العناصر الشيوعيّة بدأت بالهجرة من التنظيمات الشيوعيّة، إما إلى المنازل والمهاجر أو إلى صف أحزاب دينيّة أو رجعيّة مختلفة. إنّ إتلاف المكتبات الشيوعيّة الشخصيّة بدأ في صيف ١٩٨٢، وكانت حاويات النفايات على كورنيش المزرعة شاهداً على ذلك، وكان بعضنا يتسابق على نشل ما استطاع منها، قبل أن تلتهمها النيران.
واغتيال القادة الشيوعيّين جرى في زمن غازي كنعان، بعد عام ١٩٨٧. فجأة، تذكّر كريم مروّة (من شاشة خليجيّة) أنّ كنعان همس له بأنّ حزب الله هو المسؤول. (تناقل المئات على مواقع التواصل هذه الخبريّة المنقولة عن مروّة، ولم يعلّق أحدهم على هذه الحميميّة بين المجرم الفاسد كنعان وبين الليبرالي مروّة الذي بات يؤيّد «ثورة» الشعب السوري). لكن لماذا سكتَ مروّة كل هذه السنوات؟ ألم يكن ملزَماً أمام كلّ جمهور الحزب الشيوعي (وكان قياديّاً فيه) بأن يصارحهم بالحقيقة في حينه، لا أن يتستّر على هويّة القاتل كل هذه العقود؟ طبعاً، نسب أي رواية لكريم مروّة شخصيّاً، أو لغازي كنعان شخصيّاً، يضفي على الرواية صفراً من المصداقيّة.
ثم إن كانت هناك اغتيالات كثيرة تجري في بيروت الغربيّة، على يد جهات إسرائيليّة عدوّة وحتى على يد أحزاب في الحركة الوطنيّة (زالت من الذاكرة اغتيالات قام بها الحزب التقدمي الجنبلاطي). ففي شهر أيّار/ مايو الذي استشهد فيه «مهدي عامل»، أعلن غازي كنعان اعتقال مجموعة من ٨ أعضاء يديرها «أبو شعيب»، بتهمة «التفجيرات الأمنيّة في بيروت الغربيّة»، وأعلن أنّ الرأس المخطّط لهذه المجموعة هو أبو هيثم (قيادي في زمانه في حزب جنبلاط). و«أبو شعيب» كان ممثل الحزب التقدمي الاشتراكي في «لجنة التنسيق» لبيروت الغربيّة. ونشرت جريدة «الشرق الأوسط»، في منتصف أيّار/ مايو ١٩٨٧ مقالة مسهبة تحت عنوان «اتهام مسؤول تقدمي اشتراكي بتفجيرات بيروت»، وأعلنت القوى الأمنية اللبنانية والسوريّة أنّ «أبو شعيب» كان يعدّ «لحوالى ٣٠ عمليّة تفجير أخرى بهدف إيجاد بلبلة أمنية والتشويش على المسيرة الأمنيّة في بيروت الغربيّة». وللعلم، فإنّ غازي كنعان كان على عداء شديد مع حزب الله (طيلة حياته، لكن خصوصاً في عام 1987) ولو كان يملك دليلاً على تورّط حزب الله في الاغتيالات، لما كان اقتصر على إعلان ذلك في همسة في أذن كريم مروّة، بل كان أعلن ذلك على الملأ، وهو الذي دشّن دخوله بيروت الغربيّة بمجزرة فتح الله. كلّ هذه التفاصيل لا ترد على مواقع التواصل الاجتماعي، عند الحديث عن زمن اغتيالات الشيوعيّين في لبنان، في أواخر الثمانينيّات. هذا من دون أن أفصل بمسؤوليّة قاطعة لهذا الطرف أو ذاك، إنّما أجد من الضروري أن يكون هناك تشكيك بروايات تأتي دائماً من مصادر تنضوي في الفريق السعودي ـــ الإسرائيلي ـــ الأميركي ـــ الحريري وتفرّعاته اليساريّة (المزيّفة).
هناك مشروع عالمي للقضاء على مقاومة لبنان. لم يحدث منذ إنشاء دولة إسرائيل أن كانت هناك حركة مقاومة في لبنان أو فلسطين أو الأردن أو سوريا، بحجم وفعاليّة وقدرات المقاومة اللبنانيّة الحالية. تُنفق أميركا المليارات من أجل النيل من سمعة المقاومة، ومن أجل القضاء عليها بكل الوسائل. وتشارك في هذه الحملة (عن وعيٍ وسابق تصوّر وإصرار أو عن جهل وغباء وانجرار) قوى تتطفّل على اليسار أو هي من اليسار. لقد تشوّش مفهوم اليسار عند البعض في لبنان، إلى درجة أنهم يطلقون صفة اليسار على من انضم إلى فريق الحريري. هل كان السفير البريطاني، في نعيه قبل أيّامٍ لسمير قصير، ينعى شخصيّة يساريّة أم يمينيّة؟ هل سفارة وعد بلفور باتت شديدة الحرص على اليسار؟
إن تقدير مساهمات وتضحيات وبطولات «جبهة المقاومة الشعبيّة»، وبعدها «جمّول»، من واجباتنا نحو رفاقنا. لكننا لا نكون نعبّر عن احترام شهدائنا، عندما نقدّم شهادة مزوّرة عن إنجازات مقاومة اليسار وتصويرها على أنها هي التي طردت إسرائيل من لبنان. مقاومتنا كانت صغيرة ومتواضعة وعفويّة، وأحياناً كارثيّة في ارتجاليّتها (كان أحياناً جورج حاوي يكلّف رفيقاً بعمليّة في سهرة). وأوّل عمليّة لـ«جبهة المقاومة الشعبية لتحرير لبنان من الاحتلال والفاشية» (وهي سبقت «جمّول»، والتي سقط فيها رفيقي، أياد نور الدين المدوّر) لم تكن مدروسة بتاتاً.
الحديث هذه الأيّام يكثر عن أن اليسار، خلافاً لحزب الله، لم يكن فاسداً. اليسار لم يكن فاسداً؟ لقد أجّر جورج حاوي ووليد جنبلاط وغيرهما مقاتليهم لنظام معمّر القذّافي، كي يحاربوا في تشاد مقابل المال. لقد راكم قادةٌ في الحركة الوطنيّة الملايين من نضالهم ومن تمويلهم الخارجي المتعدّد الأطراف. ولقد سطا قادة في اليسار على أملاك لـ«منظمة التحرير» كانت قد سجّلتها باسمهم، بعد رحيلها عن لبنان في صيف ١٩٨٢. وانتهى الكثير من قادة اليسار في حاشية رفيق الحريري: هل استمالهم الحريري بسحر الشخصيّة أم بالمال؟ حقّنا أن نسجّل دور «جمّول»، لا أن نكذب في تسجيل الدور، وأن ننسى الدور الأكبر لمقاومة لا سابق لفعاليّتها وقدرتها ونجاحها، وإن اختلفنا نحن في اليسار مع أيديولوجيّتها.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)