أظهرت جريمة قتل جورج فلويد، خنقاً من قبل رجال الشرطة في مدينة مينيابوليس، الوجه العنصري الحقيقي للنظام، وتحديداً مع نموّ سياسات التمييز والفوقية والعنصرية التي تغذّيها مواقف وممارسات الرئيس دونالد ترامب. وكانت بارزة محاولة ترامب توجيه التهم والتهديدات ضدّ اليسار والمنظمات المناهضة للفاشية، مثل حلّ منظمة «أنتيفا»، خلال هذه الأزمة التي نزل فيها عشرات الآلاف من المواطنين الغاضبين إلى الشارع في عشرات المدن الأميركية، والتي تسعى القوى التقدمية من خلالها إلى تشكيل قوّة شعبية وسياسيّة وازنة في مواجهة اليمين العنصري، في ما يسعى من خلالها ترامب إلى إثارة الانقسامات العرقيّة بهدف حشد تأييد أوسع بين صفوف الناخبين البيض المحافظين، الذين يعتمد على رفع نسبة مشاركتهم في الاقتراع لتحسين احتمال إعادة انتخابه.
الـ«كورونا» تقتل الفقراء
أفرز انتشار وباء «كورونا»، بشكل واسع في العالم، تداعيات جمّة، أبرزها إظهار حالة العجز الكلّي للنظم الرأسماليّة، خصوصاً الأكثر ليبراليّة منها، في مواجهة الوباء. في الولايات المتحدة، النظام الصحي بأيدي شركات التأمين الخاصة، وفئات اجتماعية واسعة لا تحظى بأي نوع من التغطية الصحيّة. الـ«كورونا» واجه الفئات الأكثر فقراً من أبناء الطبقة العاملة والملوّنين والمهاجرين، لأنّهم كانوا الأقلّ قدرة على تحمّل الحجر لأسباب اقتصادية، والأقلّ قدرة على الوصول إلى خدمات الصحّة المكلفة. تشير الدراسات إلى أن نصف المصابين بفيروس «كورونا» كانوا من السود، فيما هم لا يشكلون سوى 12% من السكّان. في بريطانيا، أدّت سنوات من التقشّف في الإنفاق على الصّحة إلى تراجع كبير في قدرة القطاع الصحّي العام على استقبال الأعداد المتوافدة من المرضى، وطُلب منهم التزام الحجر في منازلهم، إلّا من وصل إلى حالات متقدّمة من المرض. في فرنسا، فُقدت الكمامات والأجهزة الصحية المطلوبة لمدة شهرين من السوق، لأنّ القطاع الصحّي العام ليس لديه الأموال الكافية لتخزين المستلزمات الطبية مسبقاً، تفادياً لحالات مشابهة. عانت الطبقة العاملة والمهمّشون أضعافاً مضاعفة في ظلّ نظم رأسمالية، لا يعنيها سوى حماية أرباح الشركات والاحتكارات. وبرز واضحاً أن القوى الاجتماعية التي تخوض معركة التصدّي لـ«كورونا» كانت من العاملين في القطاع الصحّي والاجتماعي، بشكل أساسي من أطباء وممرضين وممرضات وعمّال ومتطوّعين، فيما سعت المؤسسات الخاصة، ومنها المستشفيات الخاصة، إلى تعزيز ربحيتها وتفادي أعباء المواجهة، كما حصل في لبنان. وهذا الواقع يقود إلى تعزيز الطرح السياسي الذي ينادي بأهمية دور القطاع العام، والدولة عموماً، في إدارة المجتمع والاقتصاد، بخلاف القطاع الخاص والاحتكارات التي تسعى إلى اقتناص الأرباح، ولو على حساب الأرواح.

الصين في مواجهة ترامب والكورونا
لقد شكّلت الصين نموذجاً مميزاً في استيعاب موجة الانتشار الأولى للفيروس على رغم مفاجأته لها، وأظهرت تنظيماً وتماسكاً وقدرة رسميّة على السيطرة على انتشار الوباء بين الناس، ولعلّ هذا النجاح تحديداً هو ما عرّضها لموجة كبيرة من الإشاعات والاتهامات من قبل الولايات المتحدة بشكل رئيسي، في محاولة لتجويف نجاحها في الاختبار الأصعب على البشرية في السنوات الأخيرة. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف فيروس «كوفيد ـــــ 19» بالفيروس الصيني، فيما قال وزير خارجيته مايك بومبيو إنّ الصين هي عدوّ الإنسانية، في الوقت الذي كانت فيه تحديداً تسهم في إنقاذ الإنسانية من الوباء، وترسل الفرق الطبية والمساعدات إلى دول العالم المنكوبة بعدها. من جهتها، استمرّت الصين في مواجهة التصعيد الأميركي المتزايد، من التعرفات الجمركية ومسألة تايوان وصولاً إلى أزمة هونغ كونغ وإثارة موضوع الأقليّة المسلمة في الصين، وانتهاءً بموضوع «كورونا». ولعلّ الخطوات التي تقوم بها، من خلال اعتماد العملات المحلية في التبادل التجاري بين الدول، وتعزيز دور اليوان كعملة احتياط دولية بعدما قرّر صندوق النقد الدولي اعتماده كإحدى العملات الخمس الأساسية لديه، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، والتطوّرات العلمية والتكنولوجية والنموّ الاقتصادي، وعلاقات الصداقة التي تملكها مع مختلف دول العالم، هي أكثر ما يؤرّق الولايات المتحدة اليوم.

لبنان والانتفاضة الشعبية
لبنان على شفير الانهيار الشامل، والآتي ما زال أعظم. نجحت انتفاضة 17 تشرين الأول في فرض حالة سياسية جديدة في البلاد، باعتبارها انتفاضة وطنية وشعبية عارمة لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه، فنزل الناس إلى الشارع مطالبين بحقوقهم، وارتقت مكوّناتها في تنظيم صفوفها نسبياً في الساحات، كما تأسس خلالها تجمعات وهيئات نقابية ومهنية جديدة، وأطاحت حكومة «الوحدة الوطنية»، أي وحدة قوى السلطة في نظام المحاصصة المذهبية والاستغلال الطبقي، بقيادة الرئيس سعد الحريري، وعرّت أزمة النظام بشقيه الاقتصادي والسياسي. فظهر إلى العلن إفلاسه المالي والمصرفي، وأصبح كلّ طرف يتهرّب من مسؤوليته عن الأوضاع التي وصلنا إليها، ويلقيها على الطرف الآخر: القوى السياسية، المصارف، حاكم مصرف لبنان، أصحاب الاحتكارات، لكنّها بقيت موحّدة ضدّ الانتفاضة وضدّ الناس. الانتفاضة التي شكّلت حالة شعبية لم تستطع أن تتحوّل إلى حالة سياسيّة ناضجة، وذلك بسبب عدم تبلور مشروع سياسي واحد وقيادة مشتركة لسببين أساسيّين: تعدّد السقوف السياسية لدى مكوّناتها (إسقاط السلطة أو إسقاط النظام ـــــ غياب البرنامج والقيادة ــــــ حكومة انتقالية أو مجلس تأسيسي...)، وثانيهما، مرتبط بموازين القوى التي أتاحت لقوى السلطة تعطيل مفاعيل الانتفاضة عبر قمعها وتخوينها ومحاصرتها واستنزافها.
حاولت قوى السلطة الدفاع عن حكومة الحريري وضغطت بكلّ قوّتها لترويج خطتها «الإصلاحيّة»، وعندما سقطت الحكومة، بدأ إخراج الأرانب من القبعة: كلّ يوم اسم جديد وتخبّط وصراعات، لكن دائماً إصرار على عدم ملاقاة طموحات ومطالب المنتفضين، فأعادوا تدوير أسماء ممثلي الطبقة نفسها، من محمد الصفدي وسمير الخطيب وبهيج طبارة، وصولاً إلى مجيء حكومة الرئيس حسان دياب من داخل المنظومة الحاكمة، ومن دون صلاحيات استثنائية في استمرارية للنظام القائم الذي يتحمّل مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق. هذه الحكومة حظيت، أيضاً، برضى تسوية دولية ــــــ إقليمية مؤقتة: تركيبتها الوزارية المنفتحة على الولايات المتحدة ـــــ المحاصصة السلطوية بين أقطاب النظام السابق ــــــ تأمين النصاب ونيل الثقة من قبل الطرفين، موالين و«معارضين» ــــــ تبنّيها لموازنة الحكومة المستقيلة ــــــ الإفراج عن عامر الفاخوري ضمن صفقة سياسية أمنية رعتها عوكر ــــــ مشروع العفو العام عن العملاء بصفاقة ووقاحة تتميّز بها قوى السلطة في لبنان ــــــ الهرولة إلى صندوق النقد الدولي والاستجابة المسبقة لشروطه التي ستحمّل أعباء الإنقاذ لمكوّنات الشعب اللبناني من خلال الضرائب والتقشّف وبيع أملاك الدولة.
لقد استغلّت المنظومة السياسية تداعيات وباء «كورونا» لتلتقط أنفاسها، وتبدأ هجومها المعاكس على الناس، في محاولة لإعادة الأمور إلى المربع الأول وطمس القضيّة الأساسية التي طرحتها الانتفاضة، فعادت الصفقات (سلعاتا الذي يبدّد مئات ملايين الدولارات في عزّ الأزمة الاقتصادية ــــــ العملاء ــــــ التعيينات)، فيما انعكست «كورونا» سلباً على الانتفاضة التي تراجع زخمها الشعبي وتأثيرها على مجريات الأمور.

إلى المزيد من التنازلات والقمع؟
من جهة ثانية، تزداد الضغوط على لبنان لتنفيذ الشروط السياسية والمالية مع انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ويعود إلى التداول موضوع تنفيذ القرارين 1559 و1701، كما يصرّح مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية، وآخرهم ديفيد شينكر، لتصبح المعادلة بالنسبة إليهم لا قروض خارجيّة من دون أثمان سياسيّة سياديّة، ومن دون أثمان اقتصادية تضمن أرباح وعائدات رأس المال، الداخلي والخارجي، المتربّص للانقضاض على مؤسسات القطاع العام. الحكومة اللبنانية لن تتمكن من رفض الشروط، وستلجأ إلى قرارات غير شعبيّة، وما عجزت عن تنفيذه حكومة الحريري بخطتها التي سمّيت إصلاحية سوف تنفّذها حكومة دياب تحت حجّة الحصول على القروض. ومع تنفيذ الشروط ستلجأ السلطة، وقواها الرديفة، إلى المزيد من القمع والترهيب، وستدفع الأمور نحو الفوضى، وستلجأ إلى الاستنفار الطائفي والطروحات التقسيمية، على غرار الفدرلة أو المثالثة.

برنامج بديل لسلطة بديلة
مع انعدام الأمل بتحقيق خروقات إيجابية على يد هذه الحكومة، تصبح اللحظة الآن تاريخية لوقف المسار المأزوم والتدميري، وهذه مهمة وطنية راهنة وملحّة على القوى التقدمية والعلمانية والمدنية، مهمّة بناء الائتلاف الوطني الواسع للتغيير وطرح مشروع سياسي بديل لسلطة بديلة من خارج المنظومة الحاكمة، من أجل تعديل موازين القوى وبناء الدولة الديموقراطية العلمانية على قاعدة المواطنة والتقدّم الاجتماعي والكرامة الإنسانية. وهذا الائتلاف الذي نطرحه، مبنيّ على قواسم أساسية مشتركة تجمع ما يتم التوافق حوله، وتبقي لكلّ مكوّنٍ برنامجه وعلاقاته وتحالفاته وقواعد عمله الخاصة به. وبالتالي، فإن ما تطرحه المبادرة من مشروع سياسي كلّي يجب أن يشكّل قوة دفع للانتفاضة، كما للمجتمع عموماً، لجهة المضيّ في عملية تفعيل وتنظيم المواجهة الشعبية، وذلك بعدما انهار وهم الدولة الطائفية والاقتصاد الريعي، وفقد النظام شرعيته وقدرته على الاستمرار، وبناءً على موقف القوى من هذا البرنامج يتحدّد موقفنا منها تعاوناً وتنسيقاً أو تحالفاً. فلتكن المَهمّة اليوم بناء الائتلاف السياسي الذي يطرح نفسه أمام الناس كبديل سياسي فعلي مستعد ومتمكّن، ليضع البلاد على طريق تجاوز الأزمة، واستعادة الأموال المتراكمة لدى القلّة التي استفادت من السياسات الاقتصادية والنقدية ومن الفساد لعقود، وإعادة توزيع الثروة لتستفيد منها الفئات الأكثر حاجة، وبناء اقتصاد منتج تلعب فيه الدولة دوراً مخططاً وناظماً، وإجراء تغيير سياسي جذري نحو الدولة العلمانية الديموقراطية.

* افتتاحية مجلة «النداء»
* مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني