يكاد المشهد الأميركي المستجد لا يصدّق، فهو نسخة مطابقة من انتفاضات واحتجاجات وتظاهرات العالم الثالث، حيث تنفجر موجات الغضب بتراكم المظالم وغياب العدالة وقيَم المواطَنة والكرامة الإنسانية، وتبطش القوة وتتوعّد مواطنيها باسم الحفاظ على الأمن، من دون استعداد لتفهّم أسباب ودواعي الغضب.نحن أمام انتفاضة متكاملة الأركان ضدّ العنصرية والتمييز الاجتماعي وخطاب الكراهية. يلفت النظر فيها ـــ أولاً ـــ اتّساع نطاق احتجاجات الغضب داخل الولايات المتحدة، كأنّ عود ثقاب أُلقي بالقرب من براميل بارود. ويلفت النظر ـــ ثانياً ـــ مدى التضامن الإنساني ضد العنصرية المتجذّرة، كأنّه استفتاء مفتوح باتّساع العالم على عدالة القضية، بغضّ النظر عمّا شاب الاحتجاجات من أعمال عنف وتخريب وصدامات شوارع. ويلفت النظر ـــ ثالثاً ـــ قدر التخبّط في إدارة الأزمة والإفراط في استخدام القوة إلى حدّ التلويح بـ«إنزال آلاف الجنود الأميركيين المدجّجين بالسلاح»، إذا ما تقاعس حكّام الولايات عن اتّخاذ ما يلزم من إجراءات رادعة في مواجهة التظاهرات، والتورّط في التحريض على العنف في مركز صناعة القرار، كأننا أمام دولة بوليسية كلاسيكية. ويلفت النظر ـــ رابعاً ـــ ما تلقّته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من انتقادات تشبه ما يوجّه عادة لقادة دول العالم الثالث، بعضها أعرب عن «صدمته» من العنف المفرط ضد المتظاهرين، كالذي صدر عن الاتحاد الأوروبي، وبعضها الآخر طلب التحقيق في ما جرى من وقائع وحوادث بحسب بيان الأمين العام للأمم المتحدة. وهذا مؤشّر جوهري على تصدّع المكانة الأميركية في لحظة تحوّل في بنية النظام الدولي، إثر ضربات وتداعيات جائحة «كورونا».
بقوة الصور، تبدو الولايات المتحدة في وضع انكشاف داخلي غير مسبوق منذ الحرب الأهلية. وبقوة الصور، تتبدّى رمزية جورج فلويد لقضية تغوّل العنصرية في بلاده. رمزيّته لخّصتها نظرات عينيه الزائغة والملتاعة، وهو يُطلق عبارته الأخيرة قبل أن يودّع الحياة مقيّداً وعاجزاً: «لا أستطيع أن أتنفّس»، فيما لم يأبه ضابط الشرطة الذي جثم على عنقه بركبته بمعاناة إنسان يموت بلا عدلٍ ولا رحمة. هذه العبارة بالذات، ألهمت التظاهرات واستدعت الغضب إلى الشوارع.
جورج فلويد، لا هو بطل ولا له تاريخ سياسي، إنّه محض رجل عادي، تاريخه ملتبس، قُتل عمداً بسبب لون بشرته أمام كاميرا التقطت تفاصيل الجريمة.
شيء مُقارب حدث في الانتفاضة الثانية، قبل نحو عقدين في أيلول/ سبتمبر 2000، حين اغتيل برصاص الاحتلال الطفل الفلسطيني محمد الدرّة أمام الكاميرات، فيما كان يحاول أن يختبئ خائفاً في حضن أبيه الملتاع. بقوة الصورة، وما انطوت عليه من قهر إنساني وعنصرية مفرطة لا تقيم وزناً لحياة طفل أعزل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية مجدّداً، وعمّت التظاهرات مصر وعالمها العربي، كما لم يحدث من قبل. هكذا تبدّت قوة الرموز والصور في قضية جورج فلويد، وتردّدت شعارات «لا عدالة... لا سلام»، و«حياة السود تَهمّ».
استُدعيت إلى ميادين الغضب ذاكرة الخمسينيات والستينيات التي ما زالت ماثلة في الأذهان، رغم ما حصل عليه الأفارقة الأميركيون من حقوق مدنية وصعود شخصيات من بينهم إلى المناصب العليا، بما فيها رئاسة الدولة خلال عهد باراك أوباما.
لم يستوفِ التغيير حقائقه وقواعده وقوانينه، وظلّت العنصرية كامنة ومنذرة في المؤسسات وبنية المجتمع نفسه تنتظر لحظة التفجير. لم يكن تغوّل الشرطة على الأميركيين السود كما في حالة فلويد حدثاً مفاجئاً أو غير اعتياديٍ، لكنّ الصدور ضاقت وأفلت عيارها بالغضب الجامح. في العام الماضي فقط، قُتل أكثر من ألف مواطن أميركي برصاص الشرطة، غالبيتهم من السود، ولم تتم في معظم الحالات أية مساءلات ومحاكمات جادّة تردع وتوقف وتحقق العدالة.
استدعى مقتل جورج فلويد بالطريقة الشنيعة التي جرى من خلالها الأزمة العنصرية من الجذور، حين حملت السفن عبر المحيط أفواجاً متتالية من الأفارقة الذين جُلبوا عبيداً إلى العالم الجديد. كانت تلك تجربة مريرة للأفارقة السود، امتدت آثامها بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وانتُهكت خلالها أية قيمة أخلاقية وإنسانية، ثم كانوا وقوداً أكثر من غيرهم في الحرب الأهلية الأميركية بين عامي 1861 و1865، وفي كلّ الحروب الأميركية التي تلتها.
في حرب فيتنام ـــ مثلاً ـــ وصلت نسبة قتلاهم إلى 50% ممّن سقطوا في أتونها، فيما كانت نسبتهم إلى مجمل السكان نحو 12%. بنسبٍ متقاربة، تبدّت المحنة العنصرية في الولايات المتّحدة، بعد تفشّي جائحة «كورونا»، حيث ضربت الإصابات والوفيات الأميركيين الأفارقة، بمعدّلات عالية تفوق بكثير نسبتهم إلى عدد السكان. كان ذلك تعبيراً عن الفقر والحرمان والتهميش في مجتمعاتهم وأحيائهم الفقيرة.
لا يمكن الادّعاء بأنّ العنصرية المتأصّلة في بنية وتاريخ الولايات المتحدة اختراعٌ «ترامبيّ»، لكنه يتحمّل مسؤولية تغذية خطاب الكراهية والتحريض على العنف والتصعيد، إلى مستوى التهديد بإطلاق الرصاص على المحتجّين، من دون أدنى استعداد لإدراك أسباب ودواعي الغضب.
أدان مقتل جورج فلويد بشيء من المراوغة، فلا إجراءات عدالة اتُّخذت ولا تبدّت استجابة ما إلى متطلّبات إصلاح الجهاز الأمني، الذي تتفشّى فيه العنصرية ضدّ المواطنين السود. أفضى اتّهام مرتكب الجريمة بالقتل غير العمدي إلى تشكيك في مؤسسة العدالة، وصبّ مزيداً من الزيت على نيران الغضب المشتعلة، فقد شاهد العالم كله الواقعة المشينة مصوّرة بأدقّ تفاصيلها.
ذهب ترامب إلى عكس ما تستدعيه واجبات منصبه، تصعيداً للمواجهة مع خصومه السياسيين إلى حدود تُنذر في بعض السيناريوات بجرّ الولايات المتحدة إلى حرب أهلية ثانية. نَسَب العنف إلى مجموعات يسارية قاصداً الحزب الديموقراطي أساساً، وبعض الجماعات الحقوقية المعادية للفاشية، لتعبئة قاعدته الانتخابية البيضاء المتعصّبة، من دون أدنى استعداد للاعتراف بحقيقة الأزمة المتفاقمة.
رفع الإنجيل أمام الكنيسة المواجهة للبيت الأبيض، في لقطة تذكارية مسيّسة، بعدما أخلى الأمن الطريق إليها بالقمع المفرط للمتظاهرين. كان ذلك تسييساً للدين إرضاءً لمناصريه الإنجيليين، ما استدعى احتجاج الكنيسة نفسها على التوظيف السياسي للكتاب المقدس.
استدعى الجيش إلى العاصمة واشنطن، وبدت مشاهده داخل البيت الأبيض على مرأى من المتظاهرين السلميين تعبيراً عن درجة ذعر وصلت إلى حدّ اختبائه لبعض الوقت في مكان محصّن، كما لو أن البلاد تتعرّض لهجوم نووي. ودخل في صراعات صاخبة سياسية وقانونية مع «تويتر»، على خلفية تحفظات أبداها الموقع الاجتماعي على بعض تدويناته، أهمّها ما اعتبره تحريضاً على العنف. وكان ذلك تطويراً لأزماته مع الإعلام التقليدي، مثل الـ«سي أن أن» و«واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز».
بدا كل شيء مباحاً ومشروعاً من أجل تجديد ولايته الرئاسية، فيما استطلاعات الرأي ترجّح أن يحسمها منافسه الديموقراطي جو بايدن، الذي دأب على الاستهانة به ووصفه بـ«جو النائم على نفسه». المثير في سيناريو الصعود المحتمل لبايدن، أن أحداً لم يكن مستعداً أن يصدّق قبل تفشي جائحة «كورونا» وانفجار انتفاضة جورج فلويد، أنه يمكن أن يكسب الانتخابات في مواجهة ترامب، حيث يفتقر إلى أية كاريزما مقارنة بالرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما، لكنّها أخطاء وخطايا وحماقات ترامب.
أية مراجعة للخطاب الذي ألقاه بايدن عن تطورات الأزمة الداخلية، تكشف بسهولة بالغة أنّه كُتب بعناية بالغة من محترفين يعرفون وقع الكلمات على جمهور قلق. وقد قدّم نفسه كموحّد للأمّة الأميركية، ومدافع عن قيمها، حريصٍ على الدستور والحريات العامّة وإقرار العدالة لكلّ المواطنين الأميركيين.
الأزمة في عمقها أكبر من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، لكنّها ستكون كاشفة لقدرة المجتمع الأميركي ومؤسّساته على شقّ طريق جديد يضمن وحدة الولايات الأميركية ومكانتها في عالمها، وهذه مهمّة صعبة للغاية فكلّ شيء يومئ إلى تدهور هذه المكانة.
القضية ليست أن يُنتخب أو لا يُنتخب ترامب لفترة رئاسية جديدة، فهو لا يتحمّل وحده مسؤولية ما آلت إليه بلاده من تدهور في مكانتها التي اكتسبتها بعد الحرب العالمية الثانية، وزاد منسوبها بعد نهاية الحرب الباردة، وانفرادها شبه المطلق لسنوات طويلة بقيادة النظام الدولي، لكنّه يبدو بتصرّفاته الشعبوية الهوجاء محفّزاً على الفوضى والتفكيك في بنية النظام السياسي الأميركي.
* كاتب وصحافي مصري