في 17 أيار/ مايو 2020، جرى تقديم تشكيلة حكومية جديدة برئاسة بنيامين نتنياهو للكنيست الإسرائيلي، من أجل نيل الثقة البرلمانية. خلال أحد عشر شهراً بين نيسان/ أبريل 2019 وآذار/ مارس 2020، أُجريت ثلاثة انتخابات للكنيست لم يستطع من خلالها تشكيل حكومة إسرائيلية تنال ثقة أغلبية الكنيست، بحكم أنّ اليمين الصهيوني القومي (أي حزب الليكود) وأحزاب المتديّنين اليهود الحريديم (شاس + يهود التوراة) واليمين الجديد الذي يجمع الصهيونية مع النزعة الحريدية المتديّنة (قائمة يمينا)، لم تستطع كتكتّل أن تتخطّى حاجز 61 مقعداً من مقاعد الكنيست الـ120. وقد جاء ذلك بوجود حزب يميني للمهاجرين الروس هو «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغدور ليبرمان، الذي نال في الانتخابات الثلاثة على التوالي، مقاعد خمسة وثمانية وسبعة. فقد قرّر ليبرمان، رغم تحالفاته السابقة مع «الليكود»، عدم دعم نتنياهو، الأمر الذي ولّد الاستعصاء المذكور. في هذه المرة، قرّر نتنياهو «رغم الخلافات الأيديولوجية»، وفق تعبيره، التحالف مع الحزب الثاني في البرلمان بحسب الانتخابات الثلاثة المذكورة، وهو «كاحول لفان»، أي «أزرق أبيض»، بزعامة بيني غانتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، الذي يقول عن نفسه العبارة التالية: «أنا يميني في الأمن، يساري في القضايا الاقتصادية ـــ الاجتماعية، ليبرالي في الاقتصاد». أطلق نتنياهو وغانتس على هذه الحكومة (التي تضمّ الحريديم أيضاً، وكذلك بقايا العمّاليين) اسم «حكومة الوحدة الوطنية» التي سيحل غانتس محلّ نتنياهو في رئاستها يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، مع بقاء نتنياهو في منصب «رئيس الوزراء البديل» ما يؤمّن له حصانة ضد الملاحقات القضائية، بتهم الفساد التي لاحقته في السنوات الأخيرة. في تاريخ إسرائيل، هذه هي «حكومة الوحدة الوطنية الرابعة» بعد الحكومة الأولى برئاسة زعيم «الهامعراخ: التجمّع العمّالي» ليفي أشكول التي انضم إليها مناحيم بيغن زعيم «تكتّل جاحال» اليميني، قبل خمسة أيام من حرب 5 حزيران/ يونيو 1967، والثانية عام 1984 بين زعيم «حزب العمل» شيمون بيريز وزعيم «حزب الليكود» إسحق شامير في ظرف أزمة اقتصادية إسرائيلية، والثالثة عام 2001 برئاسة الليكودي أرييل شارون مع العمّالي شيمون بيريز في زمن الانتفاضة الفلسطينية. على الأرجح، أنّ الاستعصاء التشكيلي للحكومة الإسرائيلية الذي واجهه نتنياهو وغانتس، ليس السبب الوحيد للجوئهما إلى هذا الخيار، وعلى الأرجح ليس السبب الرئيسي، حيث يمكن للوضع الإقليمي أن يكون هو السبب الأساسي، خاصة مع حديث نتنياهو الصريح أثناء تقديم حكومته الجديدة عن «ضمّ الكتل الاستيطانية وغور الأردن» إلى «أراضي دولة إسرائيل»، وهو ما تضمّنه مشروع «صفقة القرن» الذي قدّمه الرئيس الأميركي قبل أربعة أشهر. من الممكن القراءة بأنّ «حكومة الوحدة الوطنية الرابعة الإسرائيلية» أو «حكومة الطوارئ»، وفق تعبير نتنياهو، قد شُكلت بناءً على «تقدير موقف» بأنّ هناك تطورات مقبلة، بعضها «خطِر على إسرائيل» وبعضها «إيجابي لإسرائيل»، مثل إمكان الشروع في تنفيذ «صفقة القرن»، الأمر الذي يتطلّب في السنوات الثلاث المقبلة، ملاقاته بحكومة إسرائيلية ذات قاعدة برلمانية واسعة (73 مقعداً).
يمكن للأيديولوجي أن يقيم جسوراً مع المتلوّن والوسطي عندما يرى مصلحة وهذه هي نظرة نتنياهو إلى غانتس

يلفت النظر هنا قدرة الإسرائيليين على بناء الجسور بينهم، رغم ما يطلق عليه بـ«حروب اليهود»، في وصف الصحافة الإسرائيلية لخلافات العلمانيين واليهود المتديّنين ولصراعات العمّاليين والليكوديين، ولتلك التي كانت بين دافيد بن غوريون زعيم حزب «الماباي» العمّالي وزئيف جابوتنسكي زعيم اليمين التحريفي الصهيوني في الثلاثينيات، ثم بين بن غوريون بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 وزعيم «حزب حيروت» اليميني مناحيم بيغن، وهو خليفة جابوتنسكي، قبل أن يتّحد مع الليبراليين في الستينيات في «تكتّل جاحال». تتكرّر كثيراً كلمة «الأيديولوجيا» في المفردات السياسية الإسرائيلية، في زمن ما زال فيه الكثير من «المثقّفين» و«الكتّاب» العرب يلوكون عبارة «نهاية الأيديولوجيات». وعندما سلّم إسحق شامير رئاسة الوزراء الإسرائيلية للعمّالي إسحق رابين في 13 تموز/ يوليو 1992 بعد هزيمته أمامه في انتخابات الكنيست، قال العبارة التالية: «العصر الجديد يتميّز بسيطرة أصحاب السياسات المباشرة على حاملي الأيديولوجيات والرؤى السياسية البعيدة المدى... إسرائيل بذلك تُضعف نفسها وتفقد زخمها ومعنوياتها». على الأرجح، كان اغتيال رابين في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 من قِبل يميني متطرّف، ومجيء نتنياهو إلى السلطة في أول حكومة له في 18حزيران/ يونيو 1996، تأكيداً على أنّ كلام شامير هو الذي ساد في إسرائيل، حيث لم يحكم العمّاليون سوى لعامين بين عامي 1999 و2001 مع إيهود باراك، والباقي لتلاميذ جابوتنسكي وبيغن وشامير. والآن نرى اضمحلالاً وموتاً سريرياً لـ«حزب العمل» منذ بداية القرن الجديد، وخاصة مع ضعف أيديولوجية «حزب العمل»، بالقياس إلى الرؤية الأيديولوجية الصهيونية العمّالية اليسارية، التي كانت عند بن غوريون وأشكول وغولدا مائير.
يمكن لعبارة بيني غانتس، المشار إليها سابقاً، أن تشير إلى تلوّنه الأيديولوجي وإلى وسطيّته، ولكنّ مشاركته في حكومة برئاسة نتنياهو، ولو بالتناوب، تشير إلى تغلّب الأيديولوجيّين على المتلوّنين. وقد أشار المنشق والتارك لقائمة «أزرق أبيض»، أي يائير لابيد زعيم حزب «يش عاتيد: هناك مستقبل»، إلى أنّ غانتس «هو باحث عن الكراسي»، في خطابه في الكنيست في جلسة 17أيار/ مايو. في تاريخ إسرائيل، دائماً كانت الحركات الوسطية، مثل «داش: الحركة الديومقراطية للتغيير» بزعامة رئيس الأركان السابق ييغال يادين، و«شينوي: التغيير» بزعامة البروفيسور أمنون روبنشتاين، مصيرها الاضمحلال، وغالباً ما كانت تلتحق بشكل ذيلي باليمين، كما فعل يادين في حكومة مناحيم بيغن عام 1977 عندما أصبح نائباً لرئيس الوزراء، في سابقة تُذكِّر ببيني غانتس مع نتنياهو عام 2020. يمكن للمتلوّن والوسطي أن يقيم الأيديولوجي معه جسوراً، عندما يرى مصلحة، وعلى الأرجح هذه هي نظرة نتنياهو إلى غانتس، ولكن هذا يشير أيضاً إلى مدى قدرة الإسرائيليين على مد الجسور بينهم، وهو ما يفتقده العرب. ولكن عندما نرى لقاء أشكول وبيغن عشية حرب حزيران/ يونيو 1967، ندرك مدى قدرة الأيديولوجيين الصهاينة، في اليسار العمّالي الصهيوني وفي اليمين القومي الصهيوني، على اللقاء عند الخطر الداهم رغم تاريخ من الخلافات العاصفة، مثل حادثة السفينة «ألتالينا» التي أغرقها بن غوريون في حزيران/ يونيو 1948، وكانت تجلب الأسلحة إلى التنظيم العسكري الصهيوني اليميني «الإرغون» بقيادة بيغن، عندما كان رئيس الوزراء للدولة الجديدة دافيد بن غوريون (أعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل يوم الجمعة 14 أيار/ مايو 1948، وليس كما يقول العرب في 15 أيار/ مايو، حيث لا يعرفون حتى متى يوم النكبة)، مصمّماً على توحيد منظّمات اليسار العمّالي العسكرية: «الهاغانا»، وتلك التي لليمين، في إطار جيش عسكري موحّد للدولة الجديدة.
هل يتعلّم العرب؟...

* كاتب سوري